مطالب التّحـرّك ضـد الفساد والاستبداد لا تـزال قائمـة بالمغرب
في مثل هذا اليوم قبل 14 عاما، كانت “انتفاضة 20 فبراير” بالمغرب التي جاءت في غمرة الثورات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربية تحت شعار “ إسقاط الفساد والاستبداد”، حيث كسّر الشعب المغربي أغلال الخوف وتجاوز عقدة التردد، وخرج الى شوارع المملكة على مدى أشهر طويلة مطالبا بالحرية والديمقراطية والتغيير الجذري الذي يخلصه من أوضاعه السياسية والاجتماعية البائسة.
تسونامي الغضب الذي اكتسح المغرب في ذلك اليوم من 2011 فجّرته الهموم المتراكمة، التي لم يعد الشعب المغربي يقوى على تحمّلها من بطالة وأوضاع معيشية صعبة وتهميش وفساد واستبداد. ورغم أنّ الانتفاضة لم تكن ملوّنة بأيّ لون سياسي محدّد، إذ أن المشاركين فيها كانوا من أطياف فكرية وسياسية وإيديولوجية مختلفة، والمطالب المرفوعة في الشوارع كانت في عمومها اجتماعية، إلا أنّ الحركة الاحتجاجية التي امتدّت لأكثر من سنة، شملت الكثير من المطالب السياسية مثل الفصل بين الثروة والسلطة، واستقلال القضاء وحرية الإعلام والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة واحترام حقوق الإنسان، وإقامة ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم.
الاحتجاجات بدأت صغيرة وأخذت تكبر ككرة الثلج، خاصة بعد تشكيل مجلس وطني لدعم ومساندة “حركة 20 فبراير”، والذي ضمّ شخصيات سياسية وحقوقية معروفة. وقد تعاملت الأجهزة الأمنية المغربية في البداية بحذر ولين مع الاحتجاجات خشية أن تجرفها جموع الغاضبين، فلم تصد المحتجين عن احتلال الفضاء العام ولا عن الجهر بشعارات ومطالب كانت ستؤدي المتلفظ بها إلى ما وراء الشمس، مثل مطلب “إسقاط الفساد والاستبداد” و«ارحل” الذي استهدف العديد من الشّخصيات التي تتحكّم في دواليب السلطة والمال.
وبعد نحو أسبوعين ألقى الملك خطابا محشوا بالوعود والعهود في محاولة فاشلة لإخماد انتفاضة التغيير خشية أن تهوي بعرشه ونظامه مثلما حصل في بعض دول الربيع الدموي.
القمــع بالمرصـاد
لكن وهج الاحتجاجات لم يخمد والمسيرات والمظاهرات لم تتوقّف، بل تصاعدت، وهنا عادت الأجهزة الأمنية المخزنية الى طابعها القمعي ونزعت قناع اللين والتسامح وكشّرت عن أنيابها ونفثت سمومها في وجه الشباب، الذي ورغم السمة المدنية والسلمية لانتفاضته فقد وجد نفسه في عين الإعصار، إذ تمّ اختراق حركته، وبات مطاردا من البوليس المخزني حتى امتلأت السجون بالمعتقلين الذين صدرت في حقّهم أحكام سجنية قاسية. ومن نجا من الاعتقال، فقد ركب أمواج البحر ومخاطره وغادر دون رجعة فرارا من انتقام يدرك جيّدا مدى شراسته.
هكذا إذن، وبعد أن تصوّر الناس بأنّ النظام المغربي سيتّعظ ممّا حصل في بلدان أخرى وسيستجيب لمطالب الشارع الثائر، فقد اختار أسلوبه المعتاد في القمع والاعتقال وتلفيق التهم، حيث ارتفع عدد معتقلي الحركة الى أكثر من 2000. كما سقط العديد من الضحايا خلال تفريق قوات الأمن للاعتصامات والاحتجاجات إما تحت ضربات الهراوات أو الرصاص أو حتى دهسا، بل ومن شدّة اليأس والتعسّف أضرم بعض الشباب النار في أجسادهم. والمفارقة أنّ النظام المخزني رفض تحمّل مسؤوليته عن هؤلاء الضحايا أو حتى اجراء تحقيق في ظروف مقتلهم، لينضاف ضحايا “حركة 20 فبراير” إلى ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب، منذ سنوات الرصاص وإلى غاية اليوم.
تحايـــل بإصلاحــــات جوفـــاء
ولذرّ الرّماد في الأعين، حاول المخزن التحايل على المنتفضين بدستور جديد لم يطبّق على أرض الواقع، وبانتخابات جديدة أنتجت نفس الفساد والاستبداد الذي قاد في 2016 إلى “حراك الريف”، الذي فجّره مقتل الشاب محسن فكري بشكل دراماتيكي سحقا بشاحنة لجمع النفايات في مدينة الحسيمة شمالي المغرب أثناء مصادرة قوات الأمن لأسماكه التي كان يبيعها لإعالة أسرته.
الحادثة المأساوية وانتشار الصور لجثة فكري وهي مسحوقة وعالقة داخل مطحنة الشاحنة، ألهبت الحسيمة ومختلف مناطق شمال المملكة باحتجاجات سلمية ذات مطالب اجتماعية تمحورت في الدعوة لتحسين الظروف المعيشية من خلال اتخاذ إجراءات جادة ومستعجلة تحد من البطالة والتهميش والاقصاء. لكن سلطات المخزن وبدل أن تستجيب للمطالب المشروعة للمحتجّين قرّرت كعادتها إجهاض الحراك قمعيا، فحاصرت المنطقة عسكريا، واعتقلت قادة الحراك وأصدرت بحقهم أحكاما قاسية بلغت 20 سنة، ورغم قرارات العفو التي يصدرها الملك بين الحين والآخر على بعض المحكومين، إلاّ أنّ معتقلي حراك الريف ظلوا دائما بعيدا عن الاستفادة منها، وهو ما يوسّع الشرخ بين النظام المخزني وسكان الريف الذين يشعرون بالتمييز والغبن وعدم الاهتمام بتحسين ظروف حياتهم المعيشية كما يحصل اليوم مع منكوبي زلزال الحوز الذين ما زالوا، بعد سنة ونصف من وقوع الكارثة، يئنون ويكابدون العناء تحت خيام البلاستيك.
ومثلما فعلت مع “انتفاضة 20 فبراير” و«حراك الريف” لجأت السلطات المغربية إلى هراوات البوليس والزنازين لوأد مختلف الاحتجاجات الشعبية. فعمدت إلى القمع والعقاب والاعتقال والمحاكمات الصورية وإصدار الأحكام القاسية في حق نشطاء حراكي مدينتي جرادة وورزازات، ضمن رسائل واضحة ومشفرة للردع والترهيب.
اليوم مثــل البارحـة
كما استمرّت آلة القمع المخزني تتحرّك دون توقّف لمواجهة كل الاحتجاجات، وإسكات كل الأصوات التي تنتقد الوضع وتطالب بالتغيير.
وإذ تحل ذكرى انتفاضة 20 فبراير، ما زال المغرب يتخبّط بين سندان الاحتقان الاجتماعي ومطرقة المخزن، فلا الشعب استسلم لقدره المشؤوم ووضعه المأزوم، ولا النظام غيّر من أسلوبه الاستبدادي. فالشوارع المغربية لا تخلو يوميا من الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات والمظاهرات المنددة بالتدهور المعيشي والحقوقي، والتي تواجه بالقمع والاعتقال والسجن.
وبالمناسبة، قال “حزب النهج الديمقراطي العمالي،” المغربي أمس، إنّ الذكرى “تحل هذه السنة في ظل وضع كارثي غير مسبوق على جميع المستويات، يتسم باستمرار الهجوم على كل المكتسبات وتنامي الفوارق الطبقية، والإمعان في خوصصة كل القطاعات الاستراتيجية والخدمات الاجتماعية الحيوية، كالماء والكهرباء والتعليم والصحة”.
وسجّل الحزب في بيان لمكتبه السياسي بمناسبة الذكرى 14 لانطلاق حراك 20 فبراير توسع دائرة الانتهاكات التي تطال الحريات العامة، والاعتقال السياسي، والمتابعات الموجهة ضد العمال والطلبة والصحفيين والمعطلين ونشطاء الحراكات والنضالات الشعبية، وكل المطالبين بالحقوق المشروعة.
وانتقد الحزب إمعان الدولة في تمرير إملاءات الدوائر المالية الإمبريالية المتجسدة في إغراق المغرب في المديونية والتضخم والانخفاض الحاد لنسب النمو، وتمرير مخططات وقوانين رجعية كمشروع القانون التجريمي للإضراب، والمشروع التخريبي لأنظمة التقاعد.
كما أكّد “النهج” أنّ مطالب حركة 20 فبراير ضد الاستبداد والفساد لا زالت قائمة، بل أصبح النضال من أجلها أشد إلحاحا في ظل الهجوم الطبقي الكاسح على كافة المستويات والمجالات، داعيا إلى المزيد من النضال وبدون هوادة من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة.
ودعا الحزب إلى الخروج للميادين والساحات من أجل تخليد الذكرى 14 لحركة 20 فبراير، وللتعبير عن الرفض المطلق للسياسة الرأسمالية الليبرالية التي ترتكز على الاحتكار والاستغلال والتغول والظلم الاجتماعي وتركيز السلطة والثروة في أيدي أقلية طبقية متسلطة.
النّضـــــال بـــات أكــثر إلحاحــا
وفي السياق، أدانت كل من “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان” و«جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان بالمغرب” و«مركز حقوق الإنسان بأمريكا الشمالية” التدهور والتردي المتزايدين لأوضاع حقوق الإنسان في المغرب، وطالبوا بالإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي فورا وإيقاف المتابعات في حق المنتقدين والمعارضين.
وعبّرت الجمعيات الحقوقية الثلاث - في بيان مشترك - عن انشغالها العميق بالتدهور المريب لوضعية حقوق الإنسان في المغرب، حيث “أصبحت الاعتقالات لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية تتم على أوسع نطاق”.
وانتقدت تواتر الاعتقالات والمحاكمات الصورية وذات الطابع السياسي التي تنعدم فيها شروط وضمانات المحاكمة العادلة، وإصدار أحكام جائرة لا تمت للواقع ولا للقانون بصلة.
وسجّلت ذات الجمعيات أكثر من 10 محاكمات مبرمجة لشهري فبراير ومارس تستهدف في معظمها مواطنين من مختلف المدن مثل الرباط والدار البيضاء وطنجة وخريبكة وتازة وتزنيت، “حيث يتم استهداف مناضلين حقوقيين وطلبة ومدونين لمجرد تعبيرهم عن آرائهم بشكل سلمي، واقعا أو افتراضيا بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي”.
نظام ينتج الفساد واليأس
كما استنكرت هيئات سياسية ونقابية مغربية حالة الاحتقان الاجتماعي والركود الاقتصادي والجمود السياسي السائدة في المغرب نتيجة لسياسات الحكومة الفاشلة في تدبير الشأن العام، ومضي المخزن في تكريس الفوارق وتفقير الشعب من خلال فرض سياسة الأمر الواقع والإمعان في ضرب القدرة الشرائية، وغض الطرف عن الفساد المستشري.
وحملت الهيئات السياسية، الحكومة المسؤولية كاملة عن تفاقم الوضع الاجتماعي والاقتصادي بسبب سياساتها التي أدت إلى تفاقم البطالة والفساد والغلاء وتدهور القدرة الشرائية، معتبرة أنّ هذه الأوضاع “تهدّد مقوّمات الاستقرار الاجتماعي تبعا لحالة التذمر الكبير واليأس التي باتت تستشري في أوساط فئات عريضة من المجتمع وفي مقدمتهم الشباب”.
الانفجـار قـادم
ما أشبه اليوم بالبارحة، نفس الاحتقان الاجتماعي يواجهه نفس النظام بذات الأسلوب القمعي الاستبدادي، لا شيء تغير في المغرب، الوضع الاقتصادي يزداد تدهورا والظروف المعيشية باتت لا تطاق، ما يجعل روح “20 فبراير” كما قالت ناشطة حقوقية “لا تزال مستمرّة إلى اليوم عبر الشعارات التي تؤطر جميع الحركات الاحتجاجية وهي الكرامة والعدالة والحرية والمساواة، والأهم هو الانعتاق من السلطوية وتحقيق الديمقراطية”.
ورغم محاولاته الاستقواء على شعبه بالقمع والتعذيب والسجون، فإنّ النظام المغربي، كما أكّد الإعلامي المغربي، أبو بكر الجامعي، في حوار مع صحيفة “الاندبندينتي” الإسبانية، “لن يدوم، والانتفاضة الشعبية حتمية”.
وقد تساءل الإعلامي المغربي: “في منطقة الريف تمكّنوا (أي النظام) من وقف الانتفاضة بالقمع، حيث قاموا باعتقال قادة الحراك وسجنهم، فهل يجهضون الثورة القادمة بنفس الوصفة؟”، “أتوقّع أنّ الأوضاع ستسوء أكثر فأكثر في المملكة”.