يبدو أن الحركات المسلحة في شمال مالي قد حسمت أمرها أخيرا فيما يخص التمثيل في المفاوضات مع حكومة باماكو والمقررة بالجزائر بعد غد، لحل معضلة الشمال التي لا تزال ترهن الاستقرار و تهدد الوحدة الترابية لهذا البلد الذي خرج للتو من أزمة سياسية و عسكرية كادت تعصف به ، والجميع يعلم أنه بعد جهود شاقة استكملت مالي البناء المؤسساتي بعد استحقاقين انتخابيين هامين تم بموجبهما استعادة الشرعية لأعلى هيئة في البلاد و هي رئاسة الجمهورية و كذا انتخاب هيئة تشريعية و هي عملية سياسية انتهى بموجبها مسلسل انقلاب 2012 و انتهت معه سيطرة طغمة عسكرية على دواليب السلطة بقيادة النقيب سانوغو.
تبقى مسألة شمال مالي من أكبر المشاكل التي لا تشكل مصدر قلق للحكومة المركزية في باماكو فحسب و لكن للمجتمع الدولي كله ولبلدان الجوار خصوصا التي تؤمن و تعمل من أجل الحفاظ على الوحدة الترابية للبلد و تبذل كل الجهود لإعادة الاستقرار من خلال دفع عجلة الحوار البيني الشامل الذي يعتبر السبيل الوحيد لإنهاء فتيل أزمة الشمال و هي قناعة أخذت تترسخ شيئا فشيئا لدى كل الأطياف المكونة للمشهد السياسي و العسكري في الشمال بعد أن اقتنعت أن لغة السلاح ليست الحل لهذه الأزمة المعقدة، لهذا أرادت حركات الشمال تذليل كل العقبات التي من شأنها التشويش أو عرقلة الحوار و لعلّ من أهمها مسألة تمثيل هذه الحركات في المفاوضات مع الحكومة المركزية في باماكو و لهذا التأمت هذه الأخيرة في العاصمة البوركينابية واغادوغو على مدار الأربعة أيام الماضية للاتفاق على توحيد الصوت و الكلمة في المفاوضات مع باماكو تمهيدا للقاء الغد بالجزائر تتمة لسلسلة لقاءات سابقة عقدت بالجزائر شهر أوت وكذا تجسيدا لما جاء في إعلان الجزائر الذي يعتبر أرضية لإطلاق مفاوضات حقيقية و مثمرة. و قد انتهت محادثات واغادوغو بين الحركات المسلحة الستة للشمال إلى التوقيع أمس على بروتوكول اتفاق تحتفظ بموجبه كل حركة باستقلاليتها و هويتها، ولكن مع تبني نفس المطالب و الدفاع عن نفس المصالح في شكل جبهة موحدة خلال التفاوض مع الحكومة المالية التي طالما اعتبرت أن التمثيل العشوائي لهذه الحركات لم يمكّنها من تفهم مطالبها و الاستجابة لها. .
و تعتبر هذه الخطوة من أهم الخطوات التي اتخذتها حركات الشمال التي كانت عاجزة إلى غاية يوم التوقيع على هذا البروتوكول والتعبير عن مواقفها و تقديم مطالبها بصورة سلسلة و مرتبة في ظل الفوضى التمثيلية و الانقسامات التي كانت تطبع هذه الحركات خلال الجولات السابقة من جلسات المفاوضات و هو عامل ضمن أخرى عطل تقدم المفاوضات بين الجانبين.
هذا و إن كانت هذه الخطوة تثبت مدى جدية حركات الشمال المسلحة و التزامها بالمسار التفاوضي فإنها تؤكد مرة أخرى احترامها و ثقتها في الوساطة الجزائرية و دبلوماسيتها التي أثبتت في العديد من المرات أنها قادرة على إيجاد الحلول التفاوضية لأكبر المشاكل المستعصية و المتداخلة عن طريق الحوار الذي يشكّل أحد المبادئ المقدسة للسياسة الخارجية الجزائرية و كذا سياستها الاستباقية و الوقائية في مواجهة الأزمات، فلطالما حذّرت الجزائر من الأزمة في مالي قبل تفاقمها إلا أن صافرة الإنذار تلك لم يصغ إليها أحد حتى وصلت الأوضاع إلى درجة متقدمة من التعفن و الكل يعرف أن دولة مالي عادت من بعيد بعد وقوعها لقمة سائغة في يد الحركات الإرهابية .
هذا و لم يقتصر الدعم و الثقة في رعاية الجزائر لمفاوضات السلام في مالي على الماليين وحدهم و لكن نالت دعم الكثير من الدول و خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي أكّدت في العديد من المرات أنها تتقاسم نفس الرؤى مع الجزائر في حل أزمة مالي و تدعم مجهوداتها في هذا الخصوص و كان آخرها ما جاء على لسان قائد الافريكوم الجنرال “رودريغاز” لدى زيارة قادته إلى الجزائر الأربعاء الفارط.