اعتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وهو يدوس القانون الدولي ويسحق تحت نعليه لوائح الأمم المتحدة، أنّه يمكنه أن يرسّخ الاحتلال المغربي للصحراء الغربية بجرّة قلم، وبأنه بصنيعه الشاذ هذا سيدخل التاريخ من أبوابه الواسعة، لكن غاب عنه بأن الحقوق يمكن أن تغتصب وتحتجز لبعض الوقت، لكنّها في النهاية ستعود إلى أصحابها ما داموا يسعون وراءها ويكافحون من أجل استردادها.
لم يكن قرار ماكرون الذي قدّمه كهدية للمغرب في عيد عرشه يحمل جديدا بل كان مجرّد تحصيل حاصل، إذ كان معروفا منذ عهود طويلة بأن فرنسا تدعّم الاحتلال المغربي للصحراء الغربية بالأفعال لا بالأقوال، واستغلت عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي على الدوام لتسدّ كلّ المنافذ أمام تسوية عادلة لآخر قضية تصفية استعمار في إفريقيا.
لقد كانت فرنسا طول الخمسين سنة الماضية تمنع تحريك الملف الصحراوي في اتجاه الحل، وكل ما كانت تسمح به - بالتآمر مع أعضاء دائمين آخرين - هو تجديد وتمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة لتنظيم استفتاء تقرير المصير في الصحراء الغربية “المينورسو “ التي تشكلت أساسا للإشراف على تنظيم استفتاء تقرير المصير، لكنها بقيت منذ 33 سنة خارج مجال التغطية، فلا تحركت خطوة لتجسيد مهمتها التي أنشئت من أجلها، ولا حتى بلّغت عن خروقات الاحتلال المغربي بالرّغم من الفظائع التي يرتكبها في حق الصحراويين أمام أعين أفرادها، وظلت منذ 1991تحرص على مداراة ما كان يجري من خروقات في الإقليم المحتل وتنقل قرارات الى الأمم المتحدة مصاغة ومفصّلة على مقاس الاحتلال المغربي.
مأدبــة اللّئـام
الصحراويون، لم يفاجئهم موقف باريس ولم يعتبروه حالة طارئة، فقد كانوا يتوقعون مثل هذا الغدر من دولة لم تتخلص من نزعتها الاستعمارية، والأكيد أنّهم لم ولن ينسوا أبداً ماضي فرنسا الاستعماري ومشاركتها المباشرة في محاولات القضاء عليهم وعلى مقاومتهم، منذ مطلع القرن الماضي وفي منتصف الخمسينات ومنتصف السبعينات، وستظل ذاكرتهم تحفظ كيف أن فرنسا التي استخدمت آلتها العسكرية، بما فيها طائرات الجاكوار، ضد صحراويين عزّل، تقدم دعما متعدد الأبعاد للاحتلال المغربي غير الشرعي للصحراء الغربية منذ 31 أكتوبر 1975.
لكن إذا كان الصحراويون لم يتفاجؤوا بالانقلاب الفرنسي على الشرعية الدولية، فهذا لا يعني بأنهم لا يدركون مدى خطورته على قضيتهم خاصة في هذا الزمن الذي اختلت فيه الموازين وانهارت القيم، وركب الحق الباطل وبات الظالم مسنودا والمظلوم لا منفذ له غير أبواب السماء.
خطورة الموقف الفرنسي أنه جاء متناغما مع مواقف كل من الولايات المتحدة وإسبانيا والكيان الصهيوني، وأيضا لأنه صدر في هذا الظرف الذي باتت فيه قضايا تصفية الاستعمار العادلة مهددة بالتصفية خارج أسوار المنظمة الأممية وبعيدا عن لوائحها وقراراتها.
و لا تكمن خطورة الموقف الفرنسي في كونه يضرّ الصحراويين وقضيتهم العادلة فقط، بل لأنّه يعكس تعاسة فرنسا التي ظلت لقرون طويلة تقدّم نفسها على أنها قلعة الحرية وحقوق الانسان والمدافعة الشرسة عن الشعوب المضطهدة، ليأتي ماكرون في لحظة بائسة ويزيل القناع فيظهر الوجه الاستعماري لبلاد الجن بلا ملائكة.
والسؤال الملح ليس لماذا قررت باريس دعم الطرح الاستعماري المغربي في الصحراء الغربية، فالجواب لا يخرج عن إطار ارتباط هذا الدعم بمؤامرة “صهيو كولونيالية” تسعى لزعزعة استقرار المنطقة، والاستحواذ على ثروات الإقليم الصحراوي المحتل بالإضافة إلى رغبة فرنسا في البقاء قريبة من منطقة غرب افريقيا التي طردت منها شرّ طردة.
السؤال الملّح اليوم، هو كيف تتعامل فرنسا بعد موقفها هذا مع قرارات الأمم المتحدة ومحكمة العدل الأوروبية وقبلها محكمة العدل الدولية، حيث تقرّ الأولى بأن القضية الصحراوية هي قضية تصفية استعمار وبأن حلها يتم عبر استفتاء لتقرير المصير يختار من خلاله الصحراويون مستقبلهم بكل حرية، فيما أصدرت “العدل الدولية” رأيا استشاريا منتصف سبعينيات القرن الماضي أي مع تفجّر القضية، أثبت بأنّ السيادة على الأرض الصحراوية منوطة بالشعب الصحراوي، وبأنّ حل قضية الصحراء الغربية يكون عبر تقرير المصير.
أما محكمة العدل الأوروبية فقد ألغت في سبتمبر 2021 الاتفاقيات الموقعة بين الاتحاد الاوروبي والمغرب بسبب شموليتها غير الشرعية للصحراء الغربية، وقالت أن أرض الصحراء الغربية يحكمها وضع قانوني متمايز منفصل ومنعزل عن الاحتلال المغربي ومن المنتظر أن تفصل هذه المحكمة قريبا في الطعون الأوروبية المقدّمة إليها بهذا الخصوص.
السؤال الجوهري إذن، ما حكمة فرنسا من تجاوز قرارات وأحكام هذه الهيئات الدولية، بل من أين تستمد باريس جرأتها لاغتصاب الشرعية الدولية التي من المفروض أنها تحميها؟
لوائـح وقــرارات لا يمكـن تجاوزهــا
أعتقد أنه لا داعي للبحث عن جواب خارج إطار المصالح والمؤامرة كما سبق وقلنا، لكن إذا كانت فرنسا وقبلها أمريكا وإسبانيا قد غيّرن مواقفهن الحيادية بجرّة قلم، فلن يمكنهن بكل تأكيد نسف القرارات والاحكام القضائية التي تحدّد مصير القضية الصحراوية والتي تعود الى عشرات العقود.
تجاوز الشرعية الدولية قد لا يبدو بالسهولة التي تعتقدها هذه الدول، لأن الحق الصحراوي متجدّر في التاريخ وثابت في قرارات الأمم المتحدة بداية من سنة 1963 عندما أقرّت المنظمة الدولية بأن الإقليم الصحراوي هو واحد من الأقاليم المعنية بتقرير المصير والاستقلال، وفي 1965 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم (2072) الذي يطالب إسبانيا بإنهاء استعمارها للصحراء الغربية.
وبعدها بسنة، اتخذت الجمعية العمومية قرارها رقم 2229) القاضي بتنظيم استفتاء في الصحراء الغربية لتقرير المصير، وفي 14 أكتوبر 1975 جدّدت الجمعية طلبها، وفي 16 أكتوبر من نفس السنة أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها الاستشاري الذي نص على عدم وجود أي روابط بين الصحراء الغربية من جهة والمغرب وموريتانيا من جهة ثانية.
ثم صدر قرار مجلس الأمن رقم 380 سنة 1976 والذي طلب من الاحتلال المغربي سحب الحشود البشرية التي نقلها الى الأراضي الصحراوية في اطار “مسيرة العار” واعتبر الأمر احتلالا عسكريا واستيطانيا، كما أنه في القرار 3437 لسنة 1976 وصف التواجد المغربي على أرض الصحراء الغربية بالاحتلال.
بعدها جاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 34/37، الذي تم اعتماده في 21 نوفمبر 1979 في الدورة الرابعة والثلاثين للجمعية العامة، وقد أصبح الوثيقة الثامنة عشرة للجمعية العامة الأممية فيما يتعلق بالوضع في هذا الإقليم.
أكد القرار مجدداً “الحق غير القابل للتصرف لشعب الصحراء الغربية في تقرير المصير والاستقلال، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وميثاق منظمة الوحدة الأفريقية وأهداف قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1514 وشرعية نضال الصحراويين من أجل ضمان التمتع بهذا الحق”. كما “شجب بشدّة تفاقم الوضع الناجم عن استمرار احتلال الصحراء الغربية من قبل المغرب وتوسيع نطاق هذا الاحتلال إلى الإقليم الذي أخلته موريتانيا مؤخراً”، في حين دعا المغرب إلى “الانضمام إلى عملية السلام وإنهاء احتلاله لإقليم الصحراء الغربية”.
وقد وافق المغرب في 26 جوان 1981 على مبدأ إجراء استفتاء لتقرير المصير في الصحراء الغربية، وفي ديسمبر من نفس العام أعلن وزير الخارجية الفرنسي كلود شيسمون أن حكومة بلاده ستسمح لجبهة البوليساريو بفتح مكتب لها في باريس.
في 12 نوفمبر 1982 استدعت منظمة الوحدة الأفريقية الجمهورية الصحراوية لحضور اجتماعاتها بعد قبول عضويتها فيها. وفي 27 سبتمبر 1983 أعلن الملك الحسن الثاني أن المغرب يقبل بتنظيم استفتاء في الصحراء الغربية مهما كانت نتائجه.
وقد بدأت في 1986 المفاوضات غير المباشرة بين المغرب وجبهة البوليساريو تحت إشراف الرئيس السنغالي آنذاك عبدو ضيوف والأمين العام للأمم المتحدة خافيير بيريز ديكويار.
وفي 1988 وافق المغرب والبوليساريو على خطة السلام المقترحة من طرف الأمين العام للأمم المتحدة، والتي تنص على وقف لإطلاق النار وتنظيم استفتاء لتقرير المصير في الصحراء الغربية بالانضمام للمغرب أو الاستقلال عنه.
وفي 20 سبتمبر من نفس العام صادق مجلس الأمن – في قراره رقم 621- على تعيين ممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة مكلف بقضية الصحراء الغربية، وفي 6 سبتمبر 1991 وقّع المغرب والبوليساريو اتفاقا لوقف إطلاق النار بينهما دخل حيز التنفيذ في نفس اليوم.
كل هذه القرارات أنصفت الشعب الصحراوي وأقرّت حقّه في تقرير المصير، وقد كانت فرنسا كما إسبانيا وأمريكا شاهدة ومؤيدة لها، لهذا فإن سعيها اليوم لنسف هذه القرارات، هو تجاوز غير مقبول، ويجب على الهيئة الأممية أن تقف له بالمرصاد بالنظر إلى أنها المسؤولة الوحيدة عن حل القضية الصحراوية وبالشكل الذي يرضي طرفي النزاع وليس طرفا على حساب الآخر.
على الأمم المتحدة أن تستعيد زمام المبادرة وتواجه كل من يتطاول على شرعية قراراتها مهما كانت مكانته وقوّته، وعلى فرنسا أن تتحرّر من نزعتها الاستعمارية لأنّها سترتد عليها في كلّ الأحوال. أما المغرب، فعليه أن يدرك بأن الاستقواء بالقوى الكبرى لترسيخ احتلاله للصحراء الغربية لن يمنحه الانتصار المزعوم الذي يتصوّره، بل على العكس تماما، فهذه القوى المتجبّرة لا تمنح شيئا بدون مقابل، لهذا فليستعد المغرب لدفع الثمن الغالي من سيادته وكرامته وقوت شعبه، وليتهيأ لردّ فعل قوّي من الشعب الصحراوي الذي سوف يكثّف قتاله لاستعادة حقّه المسلوب ولإحداث واقع يجبر الجميع على العودة إلى قرار التسوية الذي ينصّ بصراحة وبوضوح على وجوب تنظيم استفتاء لتقرير المصير في الصحراء الغربية المحتلة.
ويبقى في الأخير التأكيد، بأن فرنسا ومن خلال قراراها الجائر، خدمت القضية الصحراوية ولم تضرّها، حيث أعادتها بقوّة إلى الواجهة، وجعلت الأصوات الداعمة لها تصدح من كل جهة مستعجلة تنفيذ استفتاء تقرير المصير الذي لا يمكن أن يعوّض بأي طرح أحادي غير متّفق عليه.