انقلاب مالي

هل يعرقل المصالحة؟

د. آسيا قبلي (باحثة في الدراسات الإستراتيجية)

انقلابان عسكريان في ظرف 9 أشهر.. وفي وقت كانت مالي تستعد لإعادة ترتيب البيت، بعد انقلاب أوت 2020، وغداة تأكيد الجزائر على ضرورة التعجيل بتطبيق اتفاق المصالحة هناك، خرج أحد الضبّاط العسكريين بانقلاب على السلطة المدنية، وتمّ اعتقال الرئيس المالي ورئيس حكومته، لتعود الأمور إلى نقطة الصفر. هذا سيؤثر على مسار تطبيق المصالحة الموقع في الجزائر، وقد يعرقل الانتقال السلمي للسلطة المقرّر أن يكون عبر انتخابات شهري فيفري ومارس 2022.



«الدياركية» والانقلاب العسكري: أعلن الجيش المالي يوم 18 ماي المنصرم استيلاءه على السلطة واعتقال كل من الرئيس نداو باه ورئيس الوزراء مختار وان، المعيّنان لقيادة المرحلة الانتقالية قبل تسليم السلطة للمدنيين بعد انتخابات من المقرّر أن تجرى سنة 2022. وأعلن أسيمي غويتا وزير الدفاع وقائد الانقلاب نفسه رئيسا مؤقتا للبلاد يومين بعد استيلائه على السلطة، في ثاني انقلاب بعد الذي أطاح بأبوبكر كيتا شهر أوت 2020، لتقرّ المحكمة الدستورية في مالي تعيينه رئيسا في البلاد خلال المرحلة الانتقالية، بحجة شغور منصب الرئيس! ويعتبر غويتا أحد الضباط الأقوياء المشاركين في السلطة في مالي، وقد أزعجه أن تقوم السلطة المدنية بتغيير حكومي دون التشاور معه رغم أنه مكلف بحقيبتين وزاريتين مهمتين هما الدفاع والأمن في بلد يشهد اضطرابات سياسية وأمنية وأزمة ممتدة منذ ستينيات القرن الماضي.  
يلاحظ أن الدافع من وراء الانقلاب، ظاهريا، لم يكن ليراعي المصلحة العامة للبلاد، بقدر ما كان لدوافع شخصية في ظاهرها، وحجتها عدم استشارة وزير الدفاع في التغيير الحكومي الذي أراده الرئيس ورئيس وزرائه، لكن لماذا امتعض وزير الدفاع وهو عسكري من تصرف رئيس البلاد؟ الجواب يكمن في طبيعة السلطة في الدول الأفريقية، المبنية على الثنائية، ثنائية حكم المدني والعسكري مع أولوية الحكم العسكري، أو ما يعرف بالدياركية ويقول أستاذ العلوم السياسية حمدي عبد الرحمان، في مقالة بعنوان «انقلاب مالي وعودة «دياركية» الحكم في أفريقيا»، أن كلمة الدياركية يونانية تعني الطابع الثنائي، وجاءت الفكرة كترتيب سياسي قدمه ننامدي أزيكيوي، أول رئيس لنيجيريا المستقلة، عقب الانقلاب العسكري الأول في نيجيريا في جانفي 1966، كاقتراح لحلّ الصراعات على السلطة التي شهدتها البلاد.
ويعتبر حمدي عبد الرحمان، أن هذا النوع من الحكم يعد نموذجا توافقيا لمشكلة العلاقات المدنية العسكرية في أفريقيا، وهو حل وسط بين النموذج البريتوري أي الحكم العسكري الخالص، والنموذج الغربي أي الحكم المدني الخالص. لكن ما يميز هذا النموذج هو مركزية الجيش، فكل القرارات يجب أن تمر عبره ويستشار فيها. ولعلّ هذا ما يفسّر انقلاب الجيش على السلطة المدنية المؤقتة في مالي، التي أقدمت على تغيير حكومي دون استشارة وزير الدفاع.  
انقلاب مالي ومساعي الجزائر للمصالحة:
 نفّذ الانقلاب في مالي غداة حثّ الجزائر الأطراف في مالي على التعجيل بتنفيذ اتفاق المصالحة، إثر ترؤسها الاجتماع الوزاري لمجلس السلم والأمن الإفريقي الذي خصّص لبحث تطورات الوضع في جمهورية مالي، وكانت الجزائر أكدت على لسان وزير الخارجية صبري بوقدوم يوم 24 ماي 2021، أن «تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة الذي اكتسب زخما إضافيا مؤخرا، يحتاج إلى مزيد من التعجيل في تنفيذه، وأن الاحتفال هذا الشهر بالذكرى السادسة لاتفاق السلم والمصالحة في مالي، المنبثق عن مسار الجزائر، يشكّل فرصة متجدّدة لتقييم التقدم المحرز حتى الآن في معالجة التحديات المتعدّدة التي تواجه البلاد، كما أن عملية السلم والمصالحة التي ندعمها معا في مالي هي عملية قام بها الماليون لصالح الماليين»، وأكد الوزير أن الجميع يطمح لتحقيق نتائج ملموسة وإيجابية في أسرع وقت ممكن.
ويعتبر هذا الانقلاب الذي ندّدت به الجزائر «حجر عثرة» في مسار المصالحة الوطنية الذي ترعاه بصفتها رئيسة اللجنة المعنية بمتابعة الاتفاق، من خلال التوسّط بين مختلف الخصوم والمتنازعين على السلطة في مالي، سيما ما تعلّق بشق التنمية في المناطق الشمالية التي عانت الويلات منذ الاستقلال. حيث إن جميع الاضطرابات السياسية في شمال مالي كانت لأسباب اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى، لكن تماطل الحكومة المركزية في مالي في تنفيذ الاتفاقات الموقعة منذ 1990 في الجزائر، والتي نصّت في كل مرة على إيلاء الاهتمام لمناطق الشمال من خلال تنميتها، عقد الأمور وجعل منها أزمة ممتدة، وهي مصطلح جاءت به منظمة الأمم المتحدة للزراعة والتغذية «فاو»، للدلالة على وجود أزمة مستمرة تتعدد أبعادها من اقتصادية إلى اجتماعية وسياسية.
إن استمرار الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار في الحكم، سيعيق حتما الجهود الرامية إلى تفعيل المصالحة الوطنية في مالي بين «الشمال المهمش والجنوب الذي يتمتع بالخيرات». ويعقد مهمة الجزائر التي سعت دبلوماسيتها دائما للحل السياسي واستبعاد الحلول العسكرية التي أثبتت فشلها في كل مرة. وتشير قراءات إلى أن هذا الانقلاب أريد به ضرب جهود الجزائر التي صارت على مرمى حجر من تحقيق المصالحة في مالي، وهذا لو تحقّق كان ليسقط السبب الذي تتذرع به فرنسا لتبرير استمرار تواجدها في المنطقة.
تأثير الانقلاب على الوضع الأمني في الجزائر:
إن الانقلاب في مالي سيدفع باللاجئين المتمركزين على الحدود الشمالية للبلاد هربا من الأوضاع غير المستقرة إلى محاولة دخول الأراضي الجزائرية، كما تندس جماعات الجريمة المنظمة وتتماهى وسط المدنيين، ناهيك عن التهديدات الصحية التي تنتقل خاصة مع انتشار فيروس كورونا والفيروسات المتحورة. ومن حق الجزائر أن تحمي أمنها وتتبنى المقاربة التي تضمنه، في ظل تواجد أجنبي كثيف خاصة الفرنسي في الحدود المتاخمة للجزائر، حيث تتبنى فرنسا سياسية تدخلية عسكرية أثبتت فشلها الذريع في كل مرة، رغم وجود خمسة آلاف عسكري فرنسي في منطقة الساحل فيما يسمى مجموعة الخمسة ساحل، وهذا ما يفرض عليها بذل المزيد من الجهود لتأمين حدودها. وكان تحقيق المصالحة واستتباب الأمن في مالي ليخفف من عبء حراسة هذه الحدود. ويمكن القول أيضا إن فرنسا تسعى للتخفيف من أعباء تواجدها العسكري في المنطقة من خلال مناورات يخيل إليها انها ستدفع بالجيش الجزائري للخروج والمشاركة في حرب خارج حدوده، سيما بعد التعديل الدستوري الأخير الذي يتيح للجيش الخروج خارج الحدود الوطنية.
 ذريعة فرنسية لتبرير تمديد تواجدها:
أعطى الانقلاب الأخير في مالي ذريعة لفرنسا لتمديد تواجد بعثتها العسكرية في مالي سنة إضافية حسب رواية رسمية (فيما أشارت مصادر إعلامية إلى تمديدها فترة 10 سنوات إضافية)، وتبرّر فرنسا تواجدها في منطقة الساحل عموما ومن مجموعة الخمسة ساحل بمكافحة الإرهاب والقضاء على الجماعات الإرهابية في المنطقة، وهو ادعاء تفنده الوقائع، فسياسة فرنسا الاستعمارية لم تتغير، وأثبتت مقاربها العسكرية للتدخل في شؤون دول الساحل وعلى رأسها مالي فشلها الذريع، فهي لم تستطع تحقيق الهدف الظاهري من تواجدها في المنطقة (مكافحة وتحييد الجماعات الإرهابية) ولا حتى حماية المدنيين، بل وبدل استهداف تلك الجماعات راحت تقتل المدنيين في الولائم والأعراس، حيث قتلت 100 مدني في عرس شمال مالي، في قصف جوي بحجة ملاحقة جماعات إرهابية. هذه «الأخطاء» الفرنسية تسببت في تراجعها على الصعيد العسكري الذي فشل كما أسلفنا، وكذلك خسرت بسببها الرأي العام في المنطقة وفي مالي تحديدا، وعليه تعالت الأصوات المطالبة برحيل فرنسا وبعثاتها العسكرية عن البلاد، حيث شهدت مالي في جانفي 2021احتجاجات مطالبة بإجلاء هذه القوات التي تقتل المدنيين، وقبلها وفي أكتوبر 2019، نظمت رابطة جمعيات «فاسكو - كورو» مظاهرات تطالب برحيل فرنسا عن البلاد، بسبب عجزها عن حماية المدنيين ناهيك عن العسكريين.
هذه المطالب لم تقتصر على الماليين فقط أو الدول التي تتواجد فيها القوات الفرنسية، بل طالت أيضا الرأي العام الفرنسي، الذي طالب هو الآخر بسحب القوات الفرنسية من منطقة الساحل، بعد ارتفاع حصيلة قتلى الجنود الفرنسيين إلى 50 قتيلا.
 وكان الانقلاب - الذي يرى بعض المحللين أن فرنسا تقف وراءه - فرصة لتبرير بقائها بعد قرارها تقليص عدد قواتها المتواجدة في الساحل تحت ضغط شعبي فرنسي، كما أن استمرار اللااستقرار في مالي يساعد فرنسا على إحكام قبضتها على مستعمراتها السابقة جنوب الصحراء (بحجة مكافحة الإرهاب كما ذكرنا)، لكن حقيقة استماتتها في البقاء هو حماية مصالحها واقتصادها الذي يقتات على ثروات مستعمراتها السابقة.
الخلاصة، إن الاضطرابات السياسية التي تشهدها مالي على الأقل منذ بداية الأزمة في 2012، إنما سببها التدخل الخارجي سيما الفرنسي، الذي يعمل ضد مصلحة المنطقة بأسرها. ومنه ضد استقرار مالي التي حُوّلت إلى مستنقع للجماعات الإرهابية بعد انهيار النظام في ليبيا، إذ سمح توفر الأسلحة بالتمرد على السلطة المركزية في باماكو، التي لم تحترم تطبيق اتفاقات الجزائر، حول تنمية الشمال وأصرت على تهميشه، ما أدى إلى ثورته في كل مرة. فإعادة الأمن والاستقرار في منطقة شمال مالي، من خلال التركيز على عنصر التنمية باعتباره الكفيل بالقضاء على التوتر، سيمنح عيشا كريما للمواطن في شمال مالي، وبالتالي يقطع الطريق أمام الجماعات المسلحة الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة التي تستغل فقر الساكنة لتجنيد الشباب في صفوفها وتنفيذ مخططاتها الإجرامية. وهي المقاربة التي تركز عليها الجزائر، هذه المقاربة السلمية السياسية والدبلوماسية لا ترضي فرنسا التي تتخذ من اللااستقرار ذريعة للبقاء وتبرير سياساتها التدخلية ليس لتطهير المنطقة من الجماعات المتطرفة، كما تدعي، لكن لنهب ثروات تلك الدول وحرمانها من التنمية التي تمكنها من الخروج من التبعية لها. لذلك تسعى في كل مرة إلى إجهاض كل محاولة وساطة جزائرية لتهدئة الأوضاع هناك واستتباب الأمن.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19522

العدد 19522

السبت 20 جويلية 2024
العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024