« مسيرة مجاهد ، من الشفة الى الكتبية الحمدانية « ، عنوان لكتاب حي عن تجربة مجاهد ، نال شرف الجهاد بمنطقة البليدة ، أرادت ابنته و زوجته و صديقه بلقاسم المتيجي، الذي تحمل ثقل تدوين معلومات تاريخية غنية، عن سيرته و شاهد عيان لفترة قضاها بين المجاهدين الأشاوس بمنطقة الولاية الرابعة ، إبان ثورة نوفمبر المقدسة ، لتكون مرجعا توثيقيا يخلد للأجيال ، ويفصل في دقائق الامور عن الأحداث التي شهدتها المنطقة ، خاصة و أن المجاهد رحل فجأة بأيام فقط قبل ميلاد مؤلفه.
أطفال الجزائر والتربية الوطنية والروحية
يتناول الكتاب المطروح بالمكتبات بـ«المجان « ، و الذي أهدت ابنة المجاهد سي بن عيشة ( اسمه الكامل عبدالقادر زواوي ) نسخة منه لـ « الشعب « ، عرفانا للجريدة التي تعتبرها و لا تزال « خزانة « تضم بين رفوفها كنوزا ، تخص مسيرة الرجال و حياة الوطن في كل الحقبات التي مرت على الجزائر، حيث أن الكتاب جاء في 160 صفحة ، مزين بصور شاهدة على حديث المجاهد « سي بن عيشة « ، في رواية نقلها عنه صديقه بلقاسم المتيجي ، و جاء في فصول الكتاب المدون بلغة جميلة و أسلوب بسيط يدل على أن كاتبه من أصحاب السهل الممتنع، حديث عن نشأة المجاهد سي بن عيشة و عن طفولته وسط أسرة بسيطة من عامة الناس بمنطقة وادي جر غرب البليدة ، ثم تنقل رفقة بقية أفراد أسرته إلى الشفة ، حياة طفولته صورها أنها كانت شبيهة بحياة « أطفال الجزائر « ، لم ينعم و ينعموا بالرفاه و التعليم الجيد، و الملبس الجميل و المطعم اللذيذ و المسكن المريح ، مثل ابناء المستعمر من «الفرنسيس «، بل كان الفقر و الحرمان و الخوف و الترهيب و الجوع و العري ، هي الظروف التي كان « أطفال الجزائر « يحيونها ، و المحظوظ منهم فقط يحظى بفرصة بمناسبة ٥٥ سنة على استقلال الجزائر لحفظ القرآن الكريم و ممارسة النشاط الكشفي ، و العمل كأجير مؤقت أو فلاح لدى المعمرين مغتصبي الارض و الخيرات ، و في 8 ماي 1945 ، يذكر « سي بن عيشة « ، انه كان يبلغ من العمر 9 سنوات ، و شعر و أحس وقتها بحجم الظلم و الكراهية ضد بطش المستعمر و خيانته لوعوده ، و أن فرنسا الاستعمار لا تؤتمن حتى و إن قالت و قطعت عهدا ، لأن ظروف العيش كانت صعبة ، تحمل و هو ابن 13 عاما مسؤولية مساعدة شقيقه الاكبر ، و تدبروا أمورهم لاعالة الاسرة لأن الوالد مريض ، و كانت الفترة بين 1948 و 1954 ، حقلا و فضاء نضج خلالها و فهم حقائق الأمور وواقع الاحداث المتسارعة ، كان والده و شقيقه الاكبر يلهمهانه و يقتدي بهما، زادت الكتاتيب و دروس الامام و بث الروح الوطنية في الناس ، مصدر الهام باطني لا شعوري، يكبر فيه و ينمو و هو يغترف من ذلك الكلام و الاحداث السياسية و يخزنها، و لم يكن يدرك تأثيرها فيه الى بعد أن تفجرت الثورة و فجر تلك المكنونات و المكبوتات المغروسة فيه، و التحق بصفوف المجاهدين مثل ما فعل شقيقه الشهيد الاكبر.
النضج و قرار الانضمام الى صفوف المجاهدين
لم يكن قرار الالتحاق بحسب رواية « سي بن عيشة « بالصعب و لم يكن فيه تردد ، و يضيف على لسان الراوي أن اسماء لشخصيات ثورية بدأت تنتشر وسط الناس ، و كانت تردد مثل ما يرددون الذكر ، و حفظ اسم محمد بلوزداد و أحمد بن بلة و محمد بوضياف و أحمد محساس و سويداني بوجمعة و العربي بن مهيدي و محمد ماروك ، و حسين آيت أحمد و عبدالقادر بلحاج جيلالي ، و مصطفى بن بوالعيد و كريم بلقاسم و رابح بيطاط والقائمة تطول و أنشئت معسكرات و تنظمت الثورة و الثوار أكثر بعد مؤتمر الصومام 1956 ، و ردت فرنسا الاستعمار بالتضييق و الخناق و الترهيب و النار ، و انضم « سي بن عيشة « على غرار مجاهدين آخرين الى « مجموعة من الفدائيين « ، و شن رفقتهم عمليات فدائية ضد معمرين و عملاء لفرنسا الاستعمار بمنطقة الشفة ، كونها كانت جغرافيا منطقة عبور من جهة ، و تتميز بإستراتيجيتها كمحور رابط بين المدن الساحلية و الغربية و الجنوبية بالخصوص ، و توسعت « مجموعة الفدائيين « و نجحت في تنفيذ 15 عملية فدائية في سنة واحدة .
«الكتيبة الحمدانية » المولد و الميلاد
أطلق عليها قائد الولاية الرابعة أمحمد بوقرة اسم كتيبة « الصبر و الايمان « ، يقول صاحب المؤلف « سي بن عيشة « ، أنها تكونت من فصيلتين ، و كل فصيل يضم 35 مجاهدا ، و هي تنسب في التسمية الى « سي حمدان « أحد ابطال منطقة العفرون الى الغرب ، و لم يكونوا مثل افراد الجيش الذين يعرفون حاليا في غالبية دول العالم،ملبس نظامي و قبعة و درجات و أوسمة و أحذية تلمع و سلاح مخيف، و حلق للحية، بل كانوا جنودا يفتقدون للباس النظامي و الذي يحميهم حتى من البرد و البلل، و أحذيتهم في وصفه مثقوبة ينتعلونها دون جوارب، و و و و و ...، لكن قلوبهم كانت دافئة يسكنها الايمان و الوطن « الجزائر «، فلا يشعرون لا بالبرد و لا بعقدة النقص ، بل كانوا يرهبون جند فرنسا، حينما يذكر اسم المجاهدين أو كما تنعتهم فرنسا بـ « الفلاقة « ، و كانت الكتيبة في عملياتها الفدائية ناجحة و استطاعت ان تنقل نشاطها الى عدة مناطق بعيدة ، في شرشال بتيبازة و بومدفع بعين الدفلى ، و يروي في سياق شهادته ، ان الثورة بعد مؤتمر الصومام بالمنطقة الرابعة ، استطاعت ان تجلب عددا من الطلبة و الطالبات ، و رغم ان فرنسا قضت على عدد منهم ، الا أن كثيرا منهم زاد تكوينه و اصبحوا قادة عسكريين محنكين، يحسب لهم ألف حساب قبل أي قرار تتخذه سلطات عسكر فرنسا.
الوطن والشجاعة و رسالة الى الاجيال ..
يواصل «سي بن عيشة « مذكراته ، و يقول انه في العام 1960 ، غادر كتيبة الحمدانية ، و تحول الى منطقة الساحل بتيبازة اليوم ، و عين كمحافظ سياسي ، و تولى القائد سي حسان ( يوسف الخطيب ) قيادة الولاية الرابعة بمساعدة محمد بوسماحة و مجموعة أخرى من القادة ، منهم من قضى نحبه و منهم من أطال الله في عمره ، و يقول أن تكتيك ضرب العدو مثل ما كانت تفعله العصابات تواصل و لم يتوقف ، و في المقابل كانت فرنسا ترد بالنار و تحاول بأبشع الطرق ان تتحصل على المعلومات و تتعقب المجاهدين و أثارهم ، و كانت تستعمل « التعذيب « لانتزاع الاعترافات و المعلومات ، و انتشرت مراكز التعذيب و السجون ، التي خرقت كل القيم الانسانية و الدينية و الأخلاقية ، و ناقضت الأعراف و القوانين الدولية و داست عليها ، و لكن ذلك لم يثن المجاهدين و لم ينقص من عزائمهم ، بل تنظمت الثورة أكثر ، و أصبح الجنود المجاهدون لديهم أسلحة جيدة ، و ملبس ، بعد أن تمكنوا من إنشاء ورشات خياطة ، و أصبح صيت الثورة خارج الحدود و الأسوار ، و لم تعد فرنسا تملك من العيون و العملاء و القوة ، لإسكات صوت الجزائر و مجاهديها، و رضخت و انتصر الحق على الباطل ، و رفرفت راية الأبيض و الأحمر و الأخضر ، و في قلب تلك الالوان نجمة و هلال ، و قال الراوي أن الثورة نجحت بالجميع ، من شعب و مجاهدين و قياديين ، و استسمح من لم يذكرهم في شهادته ، لسهو وقع أو للنسيان ، وختم في رسالة الى الاجيال بوصية ، أن يقدروا تلك التضحيات من الشهداء الذين سقطوا ، و من كل شخص قدم و لم يبخل في واحدة من أقدس الثورات في العالم ، و يشيدوا بإخلاصهم للوطن، و ان لا ننسى خلال الاحتفالات المخلدة للمناسبات الوطنية ، قراءة الفاتحة و الترحم على أرواح الشهداء ، و ذلك أقل واجب و ختم سي بن عيشة « .