ما يثير الإعجاب منذ مدة هو التوجه الجميل، الكثيف والمتواصل إلى السرد، حيت تطالعنا الصحف والمواعيد الثقافية بإصدارات جديدة في القصة القصيرة والرواية، وهو ما يؤكد أن المرحلة المقبلة تؤسس في هدوء وثبات للسرد وتفرعاته، ورغم الحضور اللافت للشعر إلا أن الغالبية تتحوّل في مراحل متقدمة إلى الكتابة النثرية، كل حسب قدراته، ملكاته أو حتى قناعاته.
بين أيدينا تجربة سردية مختلفة، لغة وطرحا، تتخطى المألوف، تحاور المسكوت عنه، تبدّد ظلمة زوايا معتمة بداخل كل منا، وتعري واقعا ندركه ونتجاوزه إرضاء للآخر، أو هربا من طرق أبوابه والوقوف على مفاصله المتعددة الأوجه...»حطب يشعله الماء» للقاصة آسيا بودخانه، مجموعة قصصية صدرت السنة الفارطة - 2015 - عن دار ابن الشاطيء، في حجم متوسط، بعدد صفحات لا يتجاوز المائة واحد عشر نصا قصصيا، ومجموعة من القصص القصيرة جدا.
«حطب يشعله الماء» تناولت كل نصوصها حواريات مختلفة مع الجسد، وملامسة الجنس بطرق مختلفة، دون الخوض في التعرية المكشوفة، التي يعتمدها البعض عن قصد مغازلة القاريء، وشدّ انتباهه، ولو أن غالبية القراء يتجنبون قراءة الأعمال العارية في لغتها الجنسية، ويعتبرونها فشلا ذريعا للكاتب، خاصة لو كان اقحام الجنس لا يخدم النص ولا الفكرة...ففي قصة «مكابرة» يحدث صراع عميق تؤثثه لغة الشخوص الداخلية، والتي تراوحت الشهوة والكبرياء، بين التعثر في جسد من نشتهي، ومقاومة الإستسلام، وفي تداع جميل، وفي عبارات لا تتنازل عن سترها تمضي بنا القاصة آسيا بودخانه في سرد أوجاعهما، وسقوط قلاع الصبر فيهما، لينتهي تسونامي الإشتهاء صامتا، خاويا في عاصفة الأسئلة، بينما في قصة احتكار تعود لنفس الصراع من زاوية أخرى، حيث أن الصراع يأخذ اتجاها آخر، فبين صداقة معلنة وواضحة، ورغبة جامحة، لا تحدها الحدود وتريد كسر طوق المعاني، والوصول بشكل أكيد لتواصل جسدي تقف في وجهه اعتبارات كثيرة لا يمكن كسر جليدها...لتتواصل الرحلة في عناوينها الأخرى «على بعد خطوة أخرى» و»حطب يشعله الماء» التي تحمل المجموعة عنوانها، ثم «أعقاب الرماد» حتى قصة «برزخ» وصولا لقصة «أبو إسماعيل» ثم مجموعة القصص القصيرة جدا والتي غاصت غالبيتها في ذات الإنسان، رغباته وتداعيات أحاسيسه.
«حطب يشعله الماء» للقاصة آسيا بودخانه رحلة في عمق الذات، تحتفي بالمشاعر، تؤثث لعالم جميل، وواقع تلونه حروفها بشكل مدهش، بهيج وآسر، فالمتتبع لمسار النصوص وحبكاتها الموغلة في البهاء، يكتشف مبدعة عميقة، قادرة على الذهاب بعيدا في رسم معالم نص جديد، لا يكتفي بالرصد والتعبير، إنما بالبحث الحثيث في التشكيل، وعبور قارات اللغة القصية، وصنع عوالم من أحلام جميلة، ساحرة ومنوعة، هي إذن دعوة مني لتهجي هذه المجموعة التي شكّلت إضافة مميزة للمشهد السردي، وفرصة لقراءة مبدعة تشقّ طريقها بثبات، وتسعى للدخول تحت هالة الضوء، وتغيير أبجديات التموقع تحت سماء الإبداع، ودعوة لانتظار «آسيا بودخانه» هذا الصوت الأنثوي القادم لكسر نمطية النص السردي.