حظيت الشعريات في السنوات الأخيرة بعناية فائقة من قبل الباحثين والدارسين، فأفردت لها دراسات ورسائل جامعية، وأبحاث ضمن دراسات الأدب القديم والحديث، ومفهوم الشعرية أو الشعريات الذي لقي اهتماماً كبيراً في الفترة المتأخرة، سواء في النقد العربي أم النقد الأجنبي له جذور تراثية قديمة وآفاق غربية معاصرة، وهذا الاستخدام بوصفه مصدراً صناعياً لا على صيغة النسب هو ما يعطيه طرافته وطزاجته النقدية، وإلا فالكلمة مبتذلة وشائعة، ومنذ أرسطو كان يتحدث عن جوهر الشعر الحقيقي وما يلتبس به من المحاكاة والتخييل، واستخدمه بهذا المعنى عدد من نقاد العرب بنفس الصيغة مثل حازم القرطاجني(ت 684هـ)، وشراح أرسطو من فلاسفة الإسلام كالفارابي وابن سينا وابن رشد.وظهر مصطلح( poetics) في النقد الغربي الحديث كوريث شرعي للبنيوية والأسلوبية ليردها إلى الوظيفة الشعرية في الخطاب اللغوي بعد أن تعاظم الاهتمام في المناهج السابقة(بالشفرة)اللغوية وكيف انبثقت إلى الوجود؟ أي باللغة نفسها بوصفها دالاً، لا لما تحمله من مدلولات، وهناك عدد من المصطلحات العربية التي ترجم إليها المصطلح مثل (الإنشائية) و(الأدبية) وغيرها...
وتبحث الشعرية عن قوانين الخطاب الأدبي، وعن الخصائص المجردة التي تصنع فرادة العمل الأدبي، أي بصورة أخرى ما الذي يجعل من الرسالة اللغوية عملاً أدبياً(شعرياً)ثم أخذت معنى أوسع لتعني ذلك الإحساس الجمالي الخاص الناتج عن القصيدة أو عن نص أدبي، أي بعبارة أخرى قدرة العمل على إيقاظ المشاعر الجمالية، وإثارة الدهشة وخلق الحسن بالمفارقة، والانزياح عن المألوف... »)1(.
إن البحث في مفهوم«الشعرية»قد يبدو أمراً ميسوراً«إذ الظاهر أن هذا المفهوم قد قُتل درساً، وقُضي منه الوطر عند كثير من نقاد الأدب، فالباحث سيجد لا محالة مقالات متنوعة في الموضوع، وكتباً هنا وهناك تناقش المفهوم وتتفنن في عرض أصوله وامتداداته، أو طرائق اشتغاله.
وقد يسارع البعض عندما يُسأل:ما الشعرية؟إلى القول إنها علم الأدب، أو قوانين الخطاب الأدبي، أو إنها نظرية عامة للأشكال الأدبية.
ولكن عند التعمق في البحث في هذا المفهوم، سيبدو أن الظاهر غير الباطن، وأن الرائي غير السامع، إذ البحث في قوانين الخطاب الأدبي من السهل الممتنع، فأن تسمع به أهون من أن تراه، أو تُكابد عناء البحث فيه، فالأدب كائن متجدد يفرض دائماً تجدد قوانينه وتحيينها، مما يجعل تفسير تلك القوانين في كل مرحلة أدبية أو في كل جنس أدبي، أمراً بالغ الصعوبة وبعيد المنال»)2(.
إن كتاب “قضايا الشعريات” للناقد الدكتور عبد الملك مرتاض، الذي يكتسي أهمية خاصة، حيث تتجلى أهميته في جمعه بين النظرية والتطبيق ، وفي تحليله بعمق وشمولية للكثير من قضايا الشعر المعاصرة، وتقديمه مسحاً شاملاً لمفهوم الشعريات في الفكر النقدي العربي، والفكر النقدي الغربي، كما يبحث الكتاب باستفاضة وعمق في بنية اللغة الشعرية وحيزها، والصورة الشعرية وجمالية الإيقاع، فقد خصص الفصل الأول للحديث عن “مفهوم الشعريات في الفكر النقدي العربي”، ومن أبرز ما نبه إليه في هذا الصدد أن النقاد العرب في العصر الحديث يُطلقون مصطلح “الشعرية”، وهم يريدون به غالباً ما يريد به النقاد الغربيون من وراء إطلاقهم مفهوم”الشعريات” التي تتفرع وظيفتها إلى حقلين اثنين:
أ.فهي تأتي بمعنى دراسة جنس الشعر من حيث هو وحدَه، أو الدّلالة على الانتماء إليه. وقد كان الشعر بمعناه المحصور هو وحده المتَّخَذَ موضوعاً للشعريّات وعنايتها، وذلك ما يُفهم من شعريّات أرسطو منذ قريبٍ من خمسة وعشرين قرناً. وقد ظلّ ذلك قائماً إلى القرن التاسع عشر، وذلك بحكم المعنى الاشتقاقيّ للشعريّات المتفرّعة عن الشّعر نفسه.
ب. كما تأتي بمعنى “النّظريّة العامّة للأعمال الأدبيّة” بعامّة، وقد يستبين هذا المفهوم من خلال عنوان المجلّة الفرنسيّة الشهيرة المتخصّصة في النّقد، وهي “شعريّات: مجلّة النظريّة والتحليل الأدبيّ”
والشعريّات بالمعنى الثاني، ومنذ القرنِ التاسعَ عشرَ، تنصرف دلالتُها المفهوميّة إلى كلّ الأجناس الأدبيّة فتتسلّط عليها بالمعالجة الإجرائيّة، فيقترب معناها من معنى “الأدب” (بمفهومه العامّ)3.
ومنذ القرن التاسع عشر اتسعت دلالة الشعريات المفهومية، وانفتحت على جميع الأجناس الأدبية، فاقتربت من معنى”الأدب”، وبالنسبة إلى النقاد العرب القدامى، فقد توقف المؤلف مع مفهوم الشعريات باستفاضة عند كل من:ابن سلاّم الجمحي، والجاحظ، وابن قتيبة، وابن طباطبا، وقُدامة بن جعفر، والجرجاني، وابن رشيق القيرواني، وحازم القرطاجني.
الهوامش:
(1)د.إبراهيم عبد المنعم إبراهيم:بحوث في الشعرية وتطبيقاتها عند المتنبي ، ص:02.
(2)د.حميد حماموشي:آليات الشعرية بين التأصيل والتحديث-مقاربة تشريحية لرسائل ابن خلدون-، ، ص:11.
(3)د.عبد الملك مرتاض:قضايا الشعريات-متابعة وتحليل لأهم قضايا الشعر المعاصرة-، منشورات دار القدس العربي للنشر والتوزيع، الجزائر، 2009م، ص:17.
* جامعة عنابة