إن علاقة الأدب بعلم النفس علاقة أزلية نظر لها، وكتب فيها من عهد أرسطو إلى برجسون ومن هيغل إلى فرويد ويونغ وبودوان وغيرهم من العلماء الذين اهتموا بالنقد النفسي للأدب الذي يرتكز على ثلاثة محاور رئيسية كما ذكر مصطفى سويف في كتابه “ الأسس النفسية للإبداع الفني “ وهي دراسة شخصية الشاعر ، دراسة عملية الإبداع، ودراسة العمل الأدبي.
وأولى الباحثون والنقاد أولوية معتبرة للمحور الثالث وهو دراسة العمل الأدبي أمثال أمين الخولي ، محمد خلف الله، عز الدين اسماعيل وغيرهم.
وتمكن دراسة العمل الأدبي دراسة نفسية من استخراج ظواهر سيكولوجية مختلفة ترتبط بنفسية المبدع، ببيئته، بتنشئته الأولى، وبجوانب عديدة من معاشه النفسي كميكانيزمات الدفاع التي يوظفها الشاعر ليخلق توازنا في نصه أو ليصالح بينه وبين القاريء أو بينه وبين النص في عملية تفريغ لشحنات داخلية في شكل نصوص أدبية شعرية أو سردية.
في هذه القراءة المتواضعة نتناول مجموعة من النصوص الشعرية من ديوان “بائعة الألم” للشاعر ابراهيم بن عودة حاصي ، هذا الديوان صدر عن دار الراتب في 2010 يتضمن أربعة وعشرين قصيدة موزعة على 206 صفحات من الحجم الكبير وكل نص شعري مرفوق بلوحة فنية بريشة الشاعر الذي هو أيضا فنان تشكيلي ، فمن حيث الشكل يتضمن الديوان عمليتين إبداعيتين هما الفن التشكيلي والشعر فالشاعر قد يرسم حينا بالريشة وحينا بالكلمات لوحات فنية منها الملونة ومنها بالأبيض والأسود ولكل لوحة دلالاتها النفسية والفنية تماما كالقصيدة الشعرية.
تميّزت النصوص الشعرية بطولها ما يعكس طول النفس الشعري ونضج التجربة على نار هادئة، في مختلف النصوص نلمس ارتباط الشاعر بمحيطه وبيئته حيث تناول مواضيع تأثر فيها بمعاناة الآخر واستطاع أن يعبر عنه بصدق وهنا يبرز اللاشعور الجمعي، ويتفق غوستاف يونغ مع أستاذه فرويد في أن اللاشعور مظهر من مظاهر الفن لكنه يركز على اللاشعور الجمعي ويعتبره منبع الأعمال الأدبية والفنية وبوتقة تنصهر فيها كل النماذج والرواسب القديمة والأفكار والموروثات والتراكمات (يونغ ، علم النفس التحليلي، ص 29 ، 30) فإذا سلمنا حسب يونغ بأن اللاشعور الجمعي هو المنطلق في تحليل عملية الإبداع فهذه العملية تتم باستثارة النماذج المتراكمة في اللاشعور الجمعي بواسطة الليبيدو وهذا مايسبب اضطراب نفسي عند المبدع أو الفنان يسعى لايجاد توازن من خلال إبداعاته، كما ذكر يونغ في نفس المرجع( يونغ ، مرجع سابق ، ص 191 ) ما تعكسه عديد النصوص الشعرية ، في ديوان بائعة الألم ذلك الارتباط بهموم الآخر كقصيدة بائعة الألم ، الكهل والعذراء ، صراخ اليتيم ، الراهبة ....وتتضح خبرات الماضي و النماذج الراسخة في العديد من القصائد الشعرية فمثلا في قصيدة “زجاجة في البحر” يقول الشاعر ( كما يلهو الطفل بكرة إلى حبل تشد .. وتنهال عليها الضربات المتتالية .. لا هي تنفك فتفلت ولا الطفل يمسكها فيرحم جلدتها البالية )
قراءات متفرقة والخلفية الدينية الطابع الغالب
نجد هنا تأثرا بالشعر الجاهلي وبالضبط بقيس بن الملوح وهذا يعكس قراءات الشاعر وتعمقه في الأدب العربي كما تظهر ملامح السياب ( انغام المطر) وجبران خليل جبران في نصوص أخرى إلى جانب هذا تظهر بوضوح الثقافة الدينية للشاعر إبراهيم بن عودة حاصي وتأثره بنصوص القرآن الكريم التي أثرت قاموسه الشعري في العديد من النصوص وعكست الثقافة الدينية الواسعة التي يتميز بها (قارعة عاد وثمود،الزبانية، حي على اليسار ، معراجي ، مؤذن ، حور وأبرار ، عيسى وأحمد ، زاد الله من شكر ، أمر الله المقتدر، سفينة نوح....) .
كما تحضر الخلفية الدينية للآية الكريمة ( وجعلنا من الماء كل شيء حيا ) في قصيدة أنغام المطرأين يوحي الشاعر للقاريء بحكمة الماء في الوجود والحياة بالإضافة إلى التأثر أيضا بالسنة النبوية ( لا يسأل الناس إلحافا يكاد من تعففه يكون سيد الأغنياء ) ونستشف كذلك من أشعار هذا الديوان الخلفية التاريخية للشاعر وتشبعه بقراءة التاريخ ، تاريخ الشعوب وثقافاتها (جحافل التتار ، سنمار، ميهراب) ، كل ماذكرناه تراكمات ومكتسبات قبلية يمكن إدراجها في اللاشعور الجمعي .
نلاحظ أن عناوين أغلبية النصوص الشعرية تبرز الارتباط بالطبيعة ويبرز أيضا في مختلف النصوص ( قوس قزح ، أنغام المطر ، زجاجة في البحر، وردة تحتضر، رحم الأرض ، بذور الحب ، نبع النقاء ، الدوالي ...) والارتباط بالطبيعة هو ارتباط بالأصل وبالبذرة الأولى في تكوين الإنسان ومن الناحية النفسية يعكس حنين الإنسان إلى المسكن الأول الذي فيه السكينة والطمأنينة وهو رحم الأم.
فمثلا في قصيدة رجاء يعبّر الشاعر عن رغبته في العودة إلى الماضي لأجل اختلاس نظرة من الأم في عز الهناء مسترجعا ذكريات الأم ، ظفائرها، وهي تلهو بغيداء، المنسج ، كرمها وهي تشرك لقمتها محروما، تنفخ في الموقد، ... ثم يقرر في نهاية النص أن لا يعود إلى زمنه بل يختفي في أحضان الأم ، هو حنين إلى مسكنه الأول وموضوع التعلق الأول في الحياة المتمثل في التعلق بالأم وأخذ الكثير من صفاتها (الكرم مثلا) وتقر هذا عبارات ونصوص أخرى ورد فيها حنين الشاعر للطفولة وارتباطه بالأم ارتباطا قويا والإرتباط بالموضوع هو أساس تكوين الشخصية والارتباط بالأم ورد في نصوص شعرية تناولت ايضا موضوع اليتم ، تصوير لحظات موت الأم أي فقدان الموضوع الذي يترك أثره البالغ في التأثير على نفسية الفرد مهما كانت المرحلة العمرية لكن الأثر أبلغ في مراحل الطفولة ، وكلها عمليات إسقاط لحالات لاشعورية عاشها الشاعر كما نجد الارتباط بألعاب الطفولة وبأجوائها ( تذكرت أننا في الصبا ..كنا نبني قصورا ومتاريس ، تلهو بغيداء ، الحناء ، خبز الشعير... ) ، ويصرح الشاعر في تقديمه لنص رجاء قائلا : “مهما كبرنا وتقدم بنا العمر فإننا نحتفظ في أعمق الأعماق بذلك الطفل البريء الذي يختزل العالم في حضن أمه “.. أين يعبر الشاعر في متن النص عن الحنين إلى الإفلات من قبضة الزمن ليعود إلى الوراء ليختلس نظرة من الأم ، والأم في دلالاتها المختلفة هي أيضا الأرض والوطن الذي يعيش الشاعر بعيدا عنه متنقلا من بلد إلى آخر في إطار عمله الدبلوماسي .
الإفلات من الزمن سبيله العودة الى الوراء
تظهر بوضوح مجموعة من ميكانيزمات الدفاع النفسية فكما أشار فرويد أن الأنا يلجأ لاستخدام حيل دفاعية لخلق توازن بين الهو والأنا الأعلى وهذه الحيل هي سلوكات نابعة من اللاشعور لتخفيف القلق أو الرفض أو الإحباط من أجل إشباع دوافع الفرد وأهم الميكانيزمات الواضحة في ديوان بائعة الألم ميكانيزم الإسقاط ، النكوص ، الانزياح العكسي ، التقمص ، التسامي والإعلاء
فالإسقاط كما وصفه فرويد في 1896 بأنه آلية دفاعية هدفها إسناد الرغبات والعواطف غير المرغوبة والتي يرفض الفرد الإعتراف بها في نفسه إلى العالم الخارجي ويؤكد ميكيلي أن عملية الإسقاط التي ربطها فرويد بعصاب القلق هي فعل يرتبط في جوهره بالإدراك وحاول الشاعر أن يسقط مشاعر الألم على معاناة ذلك الطفل اليتيم ونجد أيضا آلية دفاعية أخرى للأنا وهي النكوص من خلال الرجوع إلى مراحل الطفولة التي فيها إشباع عاطفي خاصة في قصيدة رجاء وصراخ يتيم التي استهلها بضمير الغائب ليتحول لاشعوريا إلى استعمال ضمير المتكلم.
اما الفعلنة التي تمثل التعبير بحدة عن حالة شعورية كالغضب مثلا وردت في قصيدة رفيق سنمار التي يعبر فيها الشاعر عن حالة غضبه وإحباطه من بيروت التي خذلته واستيائه من سقوط القيم وتغير الموازين في قصيدة رحلة ميهراب (ماالغرابة حين صار رضاض فرعون من أغلى التراث ...وقارون بطغواه لو استغاث يغاث ...وتاج طالوت مجرد أثاث...)
التقمص أي تقمص لاشعوري لمشاعر وأفكار فرد آخر وحضر ذلك في قصيدة وعادت أمي وفي بائعة الألم، ونجده واضحا وهو يتحدث عن معاناة أخرى في قصيدة صرخة في واد.
وقد يعتقد الكثيرون أن الأحلام هي هروب من الواقع ، غير أن علماء النفس يؤكدون أن الأحلام هي نشاط عقلي ، يحدث في الدماغ ويتفاوت محتوى الحلم من صور وأفكار وتسلسل
ويعتبرميكانيزم الإصرار من أكثر الآليات نضجا أين يميل الفرد إلى التأكيد على رغباته وأفكاره بشكل مصر ومثابر ومباشر نجده في عدة نصوص أين يزرع الشاعر الأمل مصرا على قتل اليأس وزرع الحياة مصرا على إبعاد الموت يتجلى في قصيدة ، “لولا الأمل”، مثلا أين يصف الشاعر الأمل ، بسر رباني “ فيض الإله عز وجل “ وفي قصيدة “ليالي السمر” ، يفتح الشاعر أشرعة الحلم ليبحر بها اليائس الفقير الذي تقفل في وجهه الأبواب ، وتكفهر الوجوه لرؤيته ، فتكون الأحلام مناصا له كما قال إبراهيم حاصي وقد يعتقد الكثيرون أن الأحلام هي هروب من الواقع ، غير أن علماء النفس يؤكدون أن الأحلام هي نشاط عقلي ، يحدث في الدماغ ويتفاوت محتوى الحلم من صور وأفكار وتسلسل وهي من الظواهر الصحية المهمة لاحتفاظ العقل بلياقته أثناء النوم وهي الباب الملكي لقراءة ما يدور في العقل الباطن كما يقول أنتوني روبنز ومضمون الأحلام الواردة في القصيدة يعبر عن رغبات كامنة وصراعات ومكبوتات لا يعيشها ولا يحققها بطل النص في واقعه.
تحضر في بعض نصوص الديوان عمليات تفكيك للواقع وإعادة تركيبه كما في قصيدة لعبة الشطرنج مثلا التي يقوم فيها الشاعر بعملية إسقاط لواقع الأنظمة العربية بلغة سلسة ومعاني عميقة تعبر عن حرية نفسية يصور أيضا فيها القوة الكبرى في العالم وهي تحرك بقية القطع ( نسي الخصمان أنهما قطعتان بل لعبتان تحركهما أنامل ).
مختلف القصائد هي أيضا لوحات مشكلة بالكلمات أين اعتمد الشاعر على تقنية التصوير الدقيق أو التشكيل بلغة جميلة تضمنت التشبيه والمحسنات البديعية المختلفة ربما لكي يكمل مضمون اللوحات الفنية المرافقة للقصائد والتي تشي لنا بأن اللغة أحيانا قاصرة ولا بد أن يستعين الشاعر بالريشة واللون ليقبض على المعنى مبتعدا عن الغموض الحداثي فلمختلف النصوص إحالات عديدة وكما يقول دريدا النص هو أداة لإنتاج إحالات لامتناهية، فالبنية اللغوية لمختلف النصوص تحيلنا على عوالم داخلية متعددة ومختلفة تمثل لاشعور كل نص فاللاشعور حسب جاك لاكان هو بنية لغوية لأن اللغة تحكم الإنسان باعتبارها محمّلة بالدلالات ليفتح الشاعر ابراهيم بن عودة حاصي في ديوان بائعة الألم عدة أبواب للقاريء ليلج منها إلى عوالم كل قصيدة وعلى اختلاف أنواع القراء سيجدون الباب الذي يروقهم الدخول منه وتكوين نماذجهم المختلفة في القراءة .