ذكر الدكتور والناقد حبيب مونسي في حديثه لـ “الشعب”، بأن هذا الفقدان الذي مس قامة الأدب العالمي أسيا جبار هو خسارة للأدب برمته الجزائري والعالمي، متأسفا على الحالة التي ينتهي إليها هؤلاء ممن كتبوا خارج الوطن بأنهم يموتون هناك... على الضفة الأخرى من الوهم..
مستشهدا بقوله: “كانت لغتها التي تداعب ريشتها لغة غريبة عن مشاعرها وأحاسيسها، ولو أنها تشربتها من مسامها وهي طفلة إلا أنها عرفت كيف تجعل من هذه اللغة وسيطا لطرح همومها باعتبارها امرأة مستعمرة، وباعتبارها امرأة تجاهد من أجل أن تستعيد من التقاليد والأعراف البالية شيئا من حريتها السليبة. وكان انتقالها إلى الضفة الأخرى انتقالا إلى حضن اللغة التي ستفرغ فيها أشجانها وأحلامها والتي ستنسج منها عالمها الذي تحلم به، وما تريد تحقيقه في واقعها على الضفة المقابلة.. إن الإحساس بالإنشطار على هذا النحو يعطي للكتابة مسحة مأساوية تصطبغ بها الكلمات والجمل وتتلون بها العبارات والصور.. وليس لها من فضاء تتجلى فيه بوضوح سوى فضاء الرواية الذي يمكّن الروائي من إعادة بناء العوالم التي يريدها أن تنشأ تباعا في ذهن القارئ”.
وفي سياق حديثه عن جماليات المحطات التي عبرت من خلالها ذكر مونسي أنها اجتهدت في إطار فكرتها عن المرأة، والحرية، والوطن، والمستقبل.. وسجلت عددا من المحطات بعناوين بارزة يمكن استعادتها لقراءتها في نسق جملة واحدة: “العطش” عام 1953، “القلقون” عام 1958،”أطفال العالم الجديد”1962،”القبرات البليدة” 1967،”أشعار للجزائر السعيدة” 1969، “أحمر الفجر” 1969، “الحب”، “الفنطاسيا” 1985، “ظل سلطاني” 1987،”بعيدا عن المدينة” 1991،”واسع هو السجن” 1995، “بياض الجزائر” 1996، “وهران لغة ميتة “1997،”امرأة من دون قبر” 2002، “في لامكان في بيت أبي” 2007.
مضيفا بأنه إذا أردنا أن نضع أمام كل عنوان من عناوينها مرحلة تاريخية عاشتها الجزائر وكابدها الشعب، فلن نعدم وجود تطابق عجيب. وكأن أستاذة التاريخ كانت تريد أن تكتب تاريخ الوطن بطريقتها الخاصة بعيدا عن الرسميات. .فـ«العطش” و«القلق” و«أطفال العالم الجديد” روايات سبقت الاستقلال لتحمل في رمزيتها معنى العطش للحرية، والقلق من شراسة المستعمر في لحظات جنونه الأخيرة، ثم الجموع التي خرجت أيام الاستقلال في فرحتها الطفولية لتصافح العالم الجديد. صحيح أن موضوع الروايات مختلف لأنه يتناول قضايا خاصة لنساء سواء تسمين “نادية” أو “دليلة” فإن العنونة تكشف عن خط الفكر الذي يتشكل تباعا في اعتقاد صاحبه، وهو يقدم النصوص إثر أخرى للتدليل عليه..
هاهي تكتب عن “قبرات بليدة” للتعبير عن نسوة لا زلن يرسفن في قيد الأعراف والتقاليد عام 1967، وتتغنى بأمل سعيد للجزائر عام 1969، غير أنها تقدم عملا مسرحيا بعنوان لا يمكن ترجمته بسهولة (1969)Rouge l’aube, théâtre وكأنه يشير إلى التوجه السياسي الاشتراكي المعتمد بشكل رسمي من طرف النظام بعد التصحيح الثوري أو الانقلاب.
وتتخطى مرحلة السبعينات فلا تصدر فيها شيئا لتُخرج في الثمانينات “ الحب، الفنطاسيا 1985، ظل سلطاني 1987” وكأنها تستبشر بالتحول الجديد، وتأمل فيه شيئا من الرومنسية التي تعيد للجزائري والجزائرية قسطا من الفرحة المكبوتة.
غير أنها في التسعينات تتقدم نحو سوداوية توقعها العنونة بـ “ بعيدا عن المدينة 1991، واسع هو السجن 1995، بياض الجزائر 1996، وهران لغة ميتة 1997” وهي عتبات لها دلالتها إذا قرئت بالضدية والثنائية، وكشفت عما فيها من الحسرة والسخرية المبطنة التي تطل على واقع دامي، ولغة فقدت التواصل وأفرغت من دلالتها التي كانت لها أصالة.
ثم تفتتح القرن الجديد بإحساس رهيب بالفقد والضياع فتقدم “ امرأة من دون قبر 2002، في لا مكان في بيت أبي 2007”. وكأني بالعنوان يكشف عن لحظات من الغربة العميقة والاغتراب الرهيب لامرأة تحس أنه لم يعد لها في المكان قبر يحويها جثمانا، ويشهد على مرورها في الزمان والمكان. وكأني ببيت الأب هو الآخر لم يعد لها فيه مكان يأويها ويتعرف بها.
نعم إني أقرأ العناوين.. أقرأها باعتبارها عتبات لمدارج زمنية قطعتها السيدة الأديبة لتكتب على عرصاتها تاريخ وطن، وتاريخ امرأة كانت تراقب بيتها من الضفة الأخرى كما يراقب النسر الو هاد الممتدة تحته، فيشملها بنظرته الثاقبة.
وفي نهاية تدخله تأسف الدكتور مونسي لهذا الحال مذكرا بنبرة الحسرة قائلا :« وأخيرا يموتون هناك... فهل نعيدهم في صناديق من خشب، في بطون حاملات البضائع لندسهم في التراب خلسة وكأننا نواري سوأة؟ “ متسائلا مرة أخرى هل نكتفي بكلمة هنا وهناك للتأسف والاعتذار؟ ألا يجب أن نستقبلها استقبال من حمل شرف الكلمة، استقبال من كان “الرائي” الذي يطل على الحاضر والمستقبل؟ أن نوقف اهتمامنا بالأشياء يوما واحدا، لنهتم بالإنسان إكراما لإنسانيته المجتهدة والمثمرة.. فالأمة لا تحترم موتاها لا تحترم تاريخها.