المتتبع لمسار المنظومة القصصية في الجزائر أو في غيرها يقف على جملة من المتغيّرات، على مستوى الموضوع والشكل، ما يعني أهمية هذا الفن في العملية الإبداعية عموما والتي مارسها كتّابها الأوائل، عند الغرب والعرب لقرون وبقوا أوفياء لها على الرغم مما تطلبه من شروط، فقد عبّروا عن إخلاصهم لها حينما حاولوا الاجتهاد فيها تعبيريا وتقنيا، وهي صعوبات تحتاج إلى دراية معارفية وممارسة طويلة وحسّ فنّي راق، وهو ما نلاحظه فيما بادر به كثير من القصّاصين الذين تحوّلوا إلى نقاد ومنظرين لترقية هذا الفن والحفاظ عليه والدفاع عنه بدليل أنّه قد خصّ لها كثير من الفضاءات المقروءة والمسموعة والمشاهدة، كانت الجريدة أو المجلة أقربها إلى الكاتب والقارئ على حدّ سواء وكان الكلّ في خدمة القصة منفردة أو مجموعة، وظلّ هذا الوعي إلى وقت قريب في المراتب الأولى في عالم الكتابة غير أنّ أسبابا عديدة قد يكون ضعف الإطلاع أو الاحتكاك أحدها في تراجع هذا الوعي لدى الكاتب والناشر، ومن يفسّر الأمر بتراجع القارئ في الاهتمام بها ما يعني تراجع النشر، وفي الحقيقة المشكلة تكمن في استصعاب ممارستها تقنيا ولغويا والتفاتهم إلى الرواية لسهولة كتابتها وثباتها على ما هي عليه اليوم وكونها لم تطرح إشكالا على مستوى تقنياتها وتوهمهم أنّه بإمكانهم إباحة لغتها والتوسّع في مضمونها على مسافات طويلة وبنفس غير محدود وفي اعتقادي أنّ اللجوء إليها هو نوع من الفشل لبعض كتّاب القصة التي لم تمكّنهم من حرمتها وقداستها فوقعوا في خطأ من حيث يشعرون أو لا يشعرون فاتخاذ صعوبات القصة ذريعة لهم للهروب منها والتّعبير أكثر عن تجاربهم بحرية في الرواية، ومن الوهم أن يًفسّر ذلك بالتطور أو التنوّع في الكتابة، وقد ساهمت الصّحافة والنّشر في تكريس هذا الاعتقاد الفاسد أدبيا وإبداعيا وإشهاريا إلاّ بعض الفضاءات المحترفة التي وعت ما معنى سيرة نّص أدبي والإخلاص له، ويشكّل النقد جزءا معتبرا في ترسيخ هذه القناعة لدى الكثير، وعندما نقول النّقد نعني به النقد الفضولي الذي يتغذى على الاعتباطية والعشوائية بعيدا عن مقاييس الكتابة الموجّهة والنقد الممنهج الذي يراعي النّص الإبداعي ككل خاصة القصة ولا يجامل الكاتب أو النّص في اكتشاف عيوبه وتقويم اعوجاجه إبداعيا ولغويا وفنيا وحتى خطابيا، وفي النهاية العملية متكاملة، ولو كانت المعاناة التي يدّعيها من يدّعيها تبرر له الهروب إلى حيّز آخر ينجي من الزلل ويستر العيوب ويرقى إلى الأفضل لكان الجاحظ أو ابن قتيبة أو الهمذاني ومن على شاكلتهم هم أولى من غيرهم بالهروب من هذا الفنّ إلى ذاك. لكن الذي لم يدركه كثير ممن يؤمنون بهذا الأمر أنّ الرواية أصبحت منزلقا كتابيا تتشوّه فيه الممارسة القصصية بأشكال كثير منها لا علاقة له بالعملية السردية، مما شجّع الكتابة فيها دون حسيب أو رقيب.