لا أحد ينكر أن فن القصة القصيرة في الجزائر والعالم العربي بدأ يشهد في السنوات الأخيرة بعض الغياب أو التغييب على أصعدة النشر والتداول الإعلامي والنقدي، وحتى بعض كُتاب القصة أنفسهم صاروا يضعون القصة في خانة أقل من “فائض المعنى الروائي”، بل وهناك من يعبّر بدونية عن تجاربه القصصية السابقة وأن القصة لم تكن تثمل لديه سوى جسر عبور إلى الرواية. ولكني فيما أرى أن هذا التراجع لم يمسّ فقط القصة بل تعدى ذلك أيضا إلى الشعر، فالكثير من الشعراء والقصاصين هجروا الجنس الأدبي الذي شكّل “هويتهم النصية”، وبدايات تعلقهم بالكتابة والهوس بها إلى الرواية بوصفها أصبحت تشكل سلطة رمزية وكون القصة والشعر لم يعد في وسعهما القدرة على التعبير الشامل عن هموم المبدع الوجودية والحضارية والتاريخية كما يزعم البعض ويصرف النظر عن مستويات الكتابة الإبداعية في القصة أو الرواية أو “أدبيتها” بتعبير تودوروف، أي مما يجعل الأدب أدبا ويميّزه عن مجرد الحضور والكتابة. أتصوّر أن ملامسة الأسئلة التي يطرحها النص القصصي أو الروائي معا كل على حدة والقيم الجمالية والإبداعية البديلة التي يثيرها هي جزء من الإمساك النسبي بالخلل الذي إلتبس لدى بعض من يعتقدون بشرعية دعاويهم إن لم تكن المدخل الأساسي لقراءة “سفر الخروج” بتعبير أحمد دلباني من فضاء القصة لاختبار مكونات الكتابة ذاتها في هذا الجنس الأدبي أو ذاك بعيدا عن معايير الفصل والمفاضلة المعيارية المزاجية في غالب الأحيان والتي لا تستند إلى مرجعية مؤسسة، فالصحافة الأدبية مثلا تعرف مثل هذه القضايا تمام المعرفة، ولكنها لا تبادر بفتح نقاشات معمقة تُطرح انطلاقا من هذا المعطى وهو غياب فن القصة القصيرة أو تغييبه في السنوات الأخيرة تاركة الأمر للصدفة وللانطباعات المزاجية والمعالجات المتسرعة والآراء التي يبني عليها الناشرون توقعاتهم الظرفية بدون الاستئناس مثلا بآراء المختصين في سوسيولوجيا القراءة لمعرفة تنوع وتعدد أذواق القراء وأبعادها النفسية والاجتماعية، طالما أن لكل جنس من الأجناس الأدبية قصة أو شعرا محبيه وقراءه وجس نبض “المجتمع الثقافي” وهو يتهيأ لاستقبال أي الأعمال الإبداعية أو الفكرية الأكثر راهنية وارتباطا به وبحاجاته الوجدانية والمعرفية وتطلعاته البحثية استجابة لطموحاته وتطلعاته في النهل من مختلف حقول الإبداع للتحكم في ثقافة التسويق للمنتوج الثقافي والتاريخي والأدبي بالاعتماد على ميكانيزمات فلسفة التلقي والقراءة، للوصول إلى القارئ أينما كان في أقصى عزلة له لمحو آثار هذه النظرة الدونية للقصة القصيرة والتعامل مع كل أشكال الإبداع المختلفة، بما يتيح التعايش والتداخل إقرارا للتعدد المشروط الذي لا يتعامل مع جنس أدبي مخصوص كالرواية والشعر أو القصة مثلا انطلاقا من قوانين العرض والطلب المفتعلة أو الموجهة والتداول الإعلامي والنقدي السائد للفرار من نفوذ أو التكريس لأجناس أدبية بعينها دون أخرى، وهو عمل بالطبع يحتاج إلى جهود مخلصة، وندوات، ونقاشات تشارك فيها النخب الثقافية والمؤسسات الإعلامية المعنية بأهمية ودور الإعلام الأدبي في تنوير القارئ ودعوته إلى القراءة والتفاعل مع مختلف أشكال الإبداع الجديرة حقا بالبقاء والتداول واستشراف آفاق الكتابة الإبداعية وفضاءات قيمها الرمزية والفكرية من دون الاستناد إلى آراء قبلية تتجلى ببحثها عن ما يناسب إيقاع توجهاتها الظرفية في غياب قراءة مسحية شاملة لمختلف توجهات القراء أينما كانوا في المدن والمد اشر والقرى وفي كل مكان.