سيد أحمد بلكبير حط الرحال فيها

البليدة.. مواقع عمرانية ومآثر تاريخية خالدة

بقلم: عبد القادر حمداوي

كانت ليلة أول نوفمبر 1954 حاسمة في تاريخ المنطقة فقد تجندت خلايا جبهة التحرير وجيش التحرير وانطلقت في مهاجمة ثكنة بيزو بالبليدة وبوفاريك، حيث قام الفدائيون بعدة عمليات في هذه الليلة تحت قيادة رابح بيطاط وسويداني بوجمعة .عرف أهل مدينة البليدة بالشموخ والأنفة والنضال السياسي الدائم والتضحيات الجسام، كما سقط الكثير من الشهداء.
إنها البليدة التي ترصد “الشعب” تطورها عبر العصور ومعالمها التاريخية والحضارية في ركن “مدن و تاريخ”

تقع مدينة البليدة في سهل متيجة شمال الجزائر تتمتع بموقع جغرافي جميل ، فالأطلس البليدي يحتل جزءا هاما منها زادها جمالا ورونقا بغابات شريعة ومناظر طبيعية خلابة ومواقع عمرانية ومآثر تاريخية خالدة .
أسسها الأندلسيون بعد سقوط غرناطة عام 1492 ، خرج الوالي الصالح سيدي احمد بالكبير رفقة ابنه ، وصل إلى المنطقة المعروفة بمياهها العذبة والكثيرة.
بدأ العمل فيها وقد سماها البليدة بعد تأسيسها وكان ذلك عام 1525 وبه نشأت الخلية العمرانية الأولى للمدينة وكان هذا الرجل على دراية بشؤون التهيئة والعمران، كان عالما في الفقه والقضاء وخبيرا من خبراء الري وأصله من اشبيليا ، درس في جامعة قرطبة، خالط سكان المنطقة ونال احترامهم وثقتهم وقد زاره الكثير من سكان المنطقة وقدّموا له يد العون وحققوا معه المشاريع واستطاع أن يجعل كل الروافد المائية تصب في واد واحد والمعروف بواد سيدي الكبير.
فكّر في تهيئة المدينة وتسويتها وجعل لها سبعة أبواب هي باب الجزائر، باب الزاوية، باب الخوخة ،باب الرحبة..الخ
وكان نشاطه متميزا في إرشاد الناس وكان يعقد مجلس الصلح والحكم بين القبائل بالشريعة التي سميت بهذا الاسم نسبة للشريعة الإسلامية وكان يقصدها المتخاصمون القاطنون بها .
كان كثير التنقل بين القبائل المجاورة يتفقد أحوالها ويصلح من شؤونها ومن بينها بني الصالح وبني ميسرة وبني علاي منها .                
كان مسموع الكلمة لما  يتحلى به من خصال عالية كالإخلاص والصدق وحسن الفهم ونبل الغاية، الأمر الذي جعل خير الدين باشا يزوره في بيته ويقدم له يد العون لتحقيق بعض المآرب كالمسجد، الفرن والحمام والمطحنة واتفق الشيخ معه على الاهتمام بجلب الفارين من اضطهاد ( جيوش ملوك الكاثوليك ) والمقيمين بمتيجة وجبال شنوة إلى وسط مدينة البليدة.
وكان بعض هؤلاء من أصحاب الحرف فانظموا إلى السكان وساهموا في تحسين الظروف، وقد عرف سكان البليدة بالتفتح على الغير وكرم الضيافة والاحتفاء بكل زائر فأنت إذا نزلت بالبليدة سمعت اللحن وشممت الروائح العطرة كيف لا وهي التي احتضنت الفن الأندلسي وكان لها حظ خاص بها زال بدخول الاستعمار الغاشم ، فقاوم سكان منطقة البليدة الاحتلال الفرنسي. شن دي بورمون حملة عسكرية على البليدة يوم 24 جويلية 1830 ليختبر رد فعل السكان لكن المقاومين الجزائريين أرغموه وجيشه على الانسحاب في اليوم التالي بعد أن انقضوا عليهم واشتبكوا معهم ، لقد ضرب أهل المنطقة أروع الأمثلة في الجهاد فأذاقوا الاستعمار الأمرين ببأسهم الشديد وإقبالهم على الشهادة.
لم يتمكن المستعمر الفرنسي من احتلال كامل الشمال الجزائري إلا بعد حوالي أربعين سنة من 1830 إلى 1870، فالبليدة لم يستطع العدو دخولها إلا بعد 14 سنة ، وكان ذلك تحت قيادة كل من الشيخ ابن زعمون والشيخ بن عيسى.
قرّر الأمير عبد القادر أن يهاجم العدو في متيجة وأصدر الأمر بأن تحرق الخيام الفرنسية عن آخرها ، بعث الأمير عبد القادر إلى ولاة المناطق يدعوهم إلى تطبيق المثل البليدي في المقاومة ، فقد كان أفضل أنواع الدفاع.
لقد كتب الأجانب عن المنطقة وعالجوا في كتاباتهم النواحي التي تخدم مصالحهم الخاصة ويقول السيد (شالير ) في كتابه لمحة تاريخية عن الدولة الجزائرية أن سهول متيجة تعتبر من أحسن الأراضي وأوسعها في العالم وذلك نظرا لمناخها وخصوبتها وموقعها وهي تمتد على مساحات شاسعة ولقد اغتصب العدو الفرنسي ملايين الهكتارات من الأراضي الخصبة سواء كانت من أملاك الدولة الجزائرية أو من أملاك العروش والخواص ثم وزعتها على الكولون من الجيش أو المرافقين له وعلى عدد من الشركات الفلاحية التابعة لمختلف المؤسسات الفرنسية وأصبح الفلاحون الجزائريون مجرد خماسين يعيشون من التسول أو من الأعشاب والنباتات.
أصبحت الجزائر مزرعة تمول أوروبا بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في 1939 بدأت الحركة الوطنية تنمو ببطء وبتدرج لأن الإدارة الفرنسية شدّدت قبضتها على البليدة وراقبت سكانها مراقبة شديدة بواسطة حراسهم وأعوانهم ولأنهم الزعماء والعلماء ركّزوا نشاطهم السياسي في المدن الكبرى .
كان الشيخ الطيب العقبي رحمه الله يزور البليدة ويجتمع بأعيان المدينة يرشدهم ويحثهم على بناء مشروع تعليمي. وتأسست جمعية محلية وانظم إليها عدد كبير ، وقد اشتعل الفتيل فترك جذوة متقدة تدفع الجمعية لبناء مدرسة فيها خمسة أقسام وإدارة وساحة .
ثم توالت زيارات أعضاء جمعية العلماء عبد الحميد بن باديس، محمد البشير الإبراهيمي، الطيب العقبي ، أمبارك الميلي ، أبو يعلي الزواوي ، وكان من أثر زيارتهم المتكررة أن ذاق أهل البليدة حلاوة الإيمان فأسسوا نادي الإصلاح ، فكان مجمعا يؤويهم لإرشادهم وتوجيههم وبذلك حدث انقلاب كبير في تطويرهم، حيث أحدثوا وبعثوا في السكان روح المقاومة والصمود ضد الاستكانة للسياسة الفرنسية والتفقير والتجهيل ولقد ولدت مجازر 08 ماي 1945 تذمرا كبيرا بين سكان هذه المنطقة فبذلوا جهدا منقطع النظير ضد فرنسا وصاروا يتحدثون عن الحركات السياسية.
كانت مظاهرات مدينة البليدة في 08 ماي 1945 قد تحولت إلى مجازر، حيث تجمع حوالي 8000 شخص استعدادا لانطلاق المسيرة التي كانت متوجهة نحو الساحة من باب الرحبة حتى دار البلدية حيث استقبل المتظاهرون بالرشاشات وأطلق العساكر الفرنسيون النار عليهم فسقط منهم الشهداء والجرحى ، يشتهر سكان البليدة بشدة تدينهم واهتمامهم البالغ بحفظ القرآن الكريم وتجويده وترتيله وبدراسة وإتقان اللغة العربية وعلومها.
طبق العدو الفرنسي هذه السياسة بكل قسوة وشراسة لا نظير لها ، دمّر كل المؤسسات التعليم وخرّبها واستولى عليها.

معركة في قلب مدينة البليدة:

كيف فكر العقيد بونعامة [ 1926 ـ 1961] في النزول إلى المدينة، لقد عقد اجتماعا للمسؤولين في الشريعة وشرح لهم الوضعية التي كانت تعيشها الولاية الرابعة التاريخية و هي محاصرة حصارا شديدا .
فالعملية تحتاج إلى بحث، كان البطل منهمكا في العمل يتحدى الموت، وبينما هو ورفاقه في مركز القيادة في قلب مدينة البليدة فوجئ بقوات العدو الفرنسي تحاصره من كل جهة بعدما اكتشف العدو وجود سي محمد في المكان الذي كان به فأرسل إليه بفرقة الكموندوس الخاصة من الخارج واشتبك سي محمد ورفاقه مع العدو وكانت معركة حاسمة..فاستشهد سي محمد في [ 8 أوت 1961] في هذه المعركة، ولا زلنا إلى حد الآن نجهل موضع قبره.
فالصخور و السهول والجبال والوديان والأشجار و الحجر لو قدر لها أن تتكلم لقالت: بطولات و أمجاد من مروا من هنا.

تاريخ الجزائر شأنه عظيم..
وعندئذ أعلنت مصالح الإعلام الفرنسية عن موت أسد الونشريس وأبو التنظيم وهو الذي حبك لقاء ما يسمى بقضية الايليزي في 10 جوان 1960.
ثم قام بتولي قيادة الولاية الرابعة ونظم صفوف جيش التحرير الوطني بالجبال، والمدن حيث وضع مصالح التوعية و الإخبار في صميم قلب متيجة والعاصمة.
وشهد شاهد من أهلها فاللواء ماسو وهو أحد كبار الجيش الفرنسي في كتابه بعنوان “حقيقة حرب الجزائر “ الطبعة الاولى.
اعترف ببطولة وصمود أهل المنطقة ورغم دمويته لم يقوى على إنكار ما كان يجري بجبال البليدة والشريعة كلها.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024