ترنو الشّاعرة سليمة مليزي إلى ملامسة غدق البحر في موبساته الحالمة، من خلال قصيدتها “كغيمة..الصمت” مبوءة لنفسها مكانا قصيا، إلى جانب الطبيعة وممرات الساسة والعابرين، سندقّق في غورها بكل ما يستكين أمامنا من استظهار لعناصر البوح لديها، ونتمنى أن يكون صدرها شموليا لقوت ما نلامس، لأنها قلم جاد ومحبوب.
❊ ١ ـ سيمائية العنوان العاصف:
في “التقدير المنهجي” يعد العنوان (مبراة جاسية) تحور كل عنصر يدخل من خلالها الى “لون جميل”، استعملت “حرف الكاف” كتشبيه مروري الى حد السير، فالكاف والغيمة متلازمان للحركة، وعندما يغط الصمت غير بعيد عن منظارها، لا تتحرك وكأن الحركة ما تشرع لتبدأ حتى تسكن، ولكن هل هذا الامر هو ما قصدته فعلا؟ لنرى ذلك بإعادة تبئير العنوان كتناص، فقد شبهت “الغيمة بالصمت”، لو نقارب مجال تحرك “الغيوم” فعلا قد يخالنا الصمت عندما نتوسم حالة “الخفة” في سريان او
«مشي الغيوم” بين أطراف الفضاء واماكن السديم يكون هناك كالنفس فهي “تصامت الان”، سكون الغيم وعدم احداثه للحركة الجامدة المولدة للرعود، ففي نظرها لازال ذلك “صامت” يشبع “الغيمة الموزعة” إلى قرارها المتين، تمر في غير عجالة لانها مدركة ان زمن وصولها حتما آت فلما العجلة. أظن أن الشاعرة أفضت من العنوان الى تلاطف شيء ما لم تحكم عليه بعد لانها بدأت رحيمة وديعة كما هو حالها دائم.
❊ ٢ ـ مواسم الصّمت والبوح
تفصل بوحها بشكل “منصف” ياخذ منها زمنا يمزج بين “سفر متعب” اسمته( منفى الروح) رغم ان الارواح تتزوار ولا تنفى، وبين “اللهو”، لو نحاول اقامة مراجعة بسيطة بين (اللهو...والمنفى..والمتمتع) سنكتشف استفاقة الالم بعد “العذاب” لانها تريد ان يصبح” كسر في الماضي “لا يمكن الرجوع إليه، وتؤكذ ذلك من تفعيل دور الصمت (تلهو في منفى الروح...كغيمة تمر على صمت اخرس) من خلال ما أبرزت فقد أصمت الصمت بالخرس، وهذا ائتمان باطني بعدم العودة إلى واجهة المشكل كالذي يتأفّف منذكر سيرة يكرهها يتمنى خرسها قبل تغيبها، فهي تحاول هنا أن تحي شيئا يؤرقها، وها هي تصرح، “تعود الى حركتها العادية” بعدما سافرت بين الصمت والطيران فوق الروابي الصامتة..
❊ ٣ ـ مواسم البوح والهوى
تعيد من جديد دورتها الى “التصريح” وأمام من تخجل العاشقات ملامسته خوفا من كبريائه تعطيه “بالانفة” لقبه المكنى قبل”خلقه في الرحم” كان “هو” مضغة فعلقة بالحقيق إنسان أو ضمير
«لا بشري”،ولكن مستتر هو انت...ذلك الشخص الذي بدا يستعمل العقل “المنحة الالهية”..تقول عنها بدأ يفكر في غد احسن من الصمت، اسمته الافضل فالسياق التخاطبي عادي جدا لانها تخاطب انسانا ربما “أناني” يفكّر كيف يكون الغد تاركا يومه لبعضه المتخفي فيه، إن الشاعرة هنا تراهن على “غياب الوعي” في مفكر لا يفكر بل يحاول ان يفكر في غد لا مدروس سياتي على
«غفلة”، وفي أشياء سامية مفرحة ذات “بلهنية” يظنها من الافضل، يفكر على طريقة اغبياء الحروب كيف ينتصرون ويغنمون؟ طرحت له مقابل
«الفراء” النافذ في العقل أن يستوعب “قوت العصافير”، هنا تذهب متسابقة الى تعظيم “القوة الالهية” التى ترزق الحوت والطير قائلة وكانها “تنهره” الا تنظر الى “قوت العصافير” التي تفتح فمها او التي تقتات لصغارها وهذا دفه اعجازية لتوليفه بالدليل بقولها (وأنت تفكر في غد افضل...فكر في قوت العصافير) واساس “المقارنة” نزحت الى “حمائم العبور” التى تجنح الى “مقارعة السلم”، هناك بعيدا عن الضمور وعن المطاردة والملاسنة ما كانت الا لتوجه له سؤالا “دراماتكيا” قبل ان يفكر في “الغد الافضل”، عليه ان يفكر في مئات الحاملين لافكارهم ولمؤنهم الفارين من “اللاعودة” في ظل سفاسف “الترهات الموزعة” من الغاصبين، انظر قولها (في دروب أغلقت أبوابها في وجه المارين.... العابرين إلى ضفة السلام)،تجنح سليمة مليزي بعمقها الحضاري بقضية العدالة التي صبها الراحل بومدين “نحن مع فلسطين ظالمة او مظلومة”، هي واحدة من الملايين التي تغنت بهم “الشاهقة السورية “وين العرب وين وين الملايين”، هذا الوطن المعقد بالاقاويل والمنتحب بالشعارات قالت فيه (في وطن اصبح فيه السلم...مجرد حلم على جناح الحمام..)
❊ ٤ ـ مواسم اليقظة والانبعاث:
لما استعصى في “عرف الشاعر” ان يكون ذلك الوطن وما يفكر فيه، اشبه بحلم هناك من ينام على دبيب الطمأنينة واللذة المتعاوية في بهرج الاسن الوارف الممزوج بالدفء الماشط على اخاميم الوصلات العصبية، وها هي تفصل لذلك الذي (زعما) يفكر في الغد الافضل (وأنت تنام على فراش من حرير)، وطالبت بثنائية مبهرة ان لا يكف من “نغنغة الحرير” بمقابل ان يفكر في اطفال الياسمين، الذين كانوا اطفالا للحجارة اصبحوا بعمق “عار المفكرين” على اراديم النعيم الفاخر ياسمين،بطون...يتفرشون القديد والصر والصرابيل الغاشية، ويلتحفون “ليلة نواحة” ذات غيم داكن في السواد، فكلها كغيمة صامتة مثل الليل، احسنت واصبت في وصف الغناء لليلة السوداء (فكر في أطفال الياسمين...يفترشون الأرض ويلتحفون ليلة غماء)، وتزيد في وصفهم مشاقهم وهي تضمر البكاء قائلة (حفاة وعراة) ينهش الصقيع البارد الداسر على اجسامهم الغضة المكتنزة بعبير الزيتون ونغنغة النسائم النبوية في ارض الرسالات (وأجسادهم ألغضه اكل منها الصقيع..حفاةً عراةً..إلا من انتماءهم لفكر حطام) تشدد من المها وغضبتها على الانتماء لامة تقتل يوميا ملايين الاجساد الغضة وتستمتع لقطف رؤوسهم من على تيارات الشمال الزاحفة بقنابل عنقودية تطأ العرب “تفقع عيون الغفلى” (عرب..والعروبة لم تجد حيزا للمنام)، وعندما يطالك الغضب ايها المتعض تطلب منه سليمة ان يتلبس برنوس الشهامة (وأنت تصرخ بملء غضبك) تطلب منه ذلك الهوى ان يفكر عن وأد الكلام، باستباحة ارواحهم اما بالرجم الحارق، (فكر في من حظرهم عن الكلام، كانوا كشمعة تضيء الظلام) ارتقت سماحتهم وداعتهم نصاعتهم كلها وضعتها الشاعرة في شكل غيمة ستمر رغم صمتها ذات يوم وتذرف لسكان الارض رزق الحياة، في زمن اصبح فيه الحلم غَمام...والكلمات ترفرف في جسدك كالهيام) لا شيء يطال غربتها ولا افتكاك نصرها من هذا الغيم الصامت الا تلك الكلمات المرفرفة كأنها العشق تزهو فيك سواء كنت صوتا بطوليا او طفلا صادحا يحلم بغد جميل (تحلم بأزهار اللوز تزهر الزمان).
فعلا ساويت بين “متون الرفض والانبعاث”، حيث سجلت مقاربة جميلة بن من يفكر ومن يريد ومن يتذكر وكلهم تعبير عن محنة العربي في ترك الوطن وطن الرسالة مهجورا الا بالنواح، فالغيمة وان طال صمتها حتما سينزل سيلها، ذات يوم ويزهر معه الزمان، اشكر لك رقة الابداع والشعور والتزامن وحبكة المزدوج لتحقيق المقاربة الايجابية.
كغِيمةِ.. الصمتْ؟
بقلمي سليمة مليزي
تلهو في منفى الروح
كغيمةٍ تمر على صمتٍ أخرس
وأنت تفكر في غدٍ أفضل
فكر في قوتِ العصافير
في دروب أغلقت أبوابها في وجه المارين
العابرين إلى ضفة السلام
في وطن أصبح فيه السِلمُ
مجرد حلم على جناح الحمام
وأنت تنام على فراشٍ من حرير
فكر في أطفال الياسمين
يفترشون الأرض ويلتحفون ليلة غماء
وأجسادهم ألغضة أكل منها الصقيع
حفاةً عراةً..إلا من إنتمائهم لفكر حطام
عرب..والعروبة لم تجد حيزا للمنام
وأنت تصرخ بملء غضبك
فكر في من حظروهم عن الكلام
كانوا كشمعة تضيء الظلام
في زمن أصبح فيه الحلم غَمام
والكلمات ترفرف في جسدك كالهيام
تحلم بأزهار اللوز تزهر الزمان
الجزائر