لطالما ارتبط المسرح بفكرة الأداء الحي المباشر، الذي يجمع بين جسد الممثل وحضور الجمهور في فضاء مكاني وزماني محدد. ولكن مع تطوّر الوسائط الإلكترونية، وانغماسها في الممارسات اليومية حتى صارت تمثّل واحدا من مكونات المجتمعات المعاصرة، بدأ مفهوم المسرح يتوسّع ليشمل أشكالا جديدة من التجربة الفنية، تعتمد على تقنيات رقمية متقدمة تتيح للعرض المسرحي الانتقال من العلبة الإيطالية إلى الفضاء الافتراضي.
يشهد مفهوم المسرح مزيدا من التّوسّع يوما بعد يوم، لأسباب من بينها تطور الوسائط الإلكترونية، التي تلعب دورا محوريا في هذا الانتقال. وشكّلت دراسات عديدة قاعدة لفهم كيفية تغيير الوسائط الإلكترونية طبيعة المسرح، من فن قائم على الحضور الجسدي المباشر إلى فن متعدد الأبعاد والزمن.
تحوّلات المسرح في العصر الرّقمي
تناولت الدراسات المعاصرة مفهوم “الحضور المسرحي” من منظور متجدّد يدمج بين الجسد الفيزيائي والوجود الافتراضي. مثلا، ترى الباحثة الكندية “سارة باي-تشنغ” أن الرقمنة ليست مجرد وسيلة تقنية، بل تمثّل “إعادة تشكيل للحضور المسرحي” عبر شبكة من الوسائط المتعددة، حيث تتداخل الصورة والصوت والزمن في بناء تجربة أداء جديدة. وتؤكّد الباحثة على أن “المسرح الرقمي يعيد توسيع مفهوم الأداء الحي، ليشمل التجربة التي تمتد عبر فضاءات تكنولوجية مختلفة”.
في السياق ذاته، نجد في دراسات المسرح مفهوم “الجسد الشبح” (أو الجسد المنفصل، الجسد الغائب، الحضور الطيفي، والتجسد الغيابي) ويشير إلى حضور الجسد في الأداء رغم غيابه المادي المباشر، حيث يُستدعى الجسد عبر وسائل تقنية أو فنية مثل الصوت أو الصورة، ما يخلق حالة من التوتر بين الحضور والغياب. ناقش هذا المفهوم باحثون مثل “مارفن كارلسون”، و«بيغي فيلان”، و«أليس راينر”، ووظّفه المخرج الألماني “هاينر غوبلز” في أعماله، معبّرا عن حضور رمزي للجسد في عروض تعتمد على التكنولوجيا الرقمية، حيث يصبح الأداء امتدادا لأجساد افتراضية تتفاعل مع الجمهور في فضاء متشظٍ من الواقع والخيال.
من جهته، يُبرز الباحث البريطاني ستيف ديكسون، في كتابه Digital Performance (الأداء الرقمي)، كيف تدمج الوسائط الرقمية بين فنون المسرح، الرقص، والفنون التشكيلية، بحيث يصير الأداء المسرحي مجالا مفتوحا لتجارب هجينة توظف التكنولوجيات الجديدة لإعادة تعريف الفضاء الزمني والمكاني.
الوسائط الإلكترونية..وتطوير المسرح
يمكن القول إنّ دور الوسائط الإلكترونية في الارتقاء بالمسرح يتجلى في مجموعة من المحاور، لعل أولها “توسيع الجمهور والوصول الجغرافي”: حيث أتاح البث الرقمي والمحتوى المسرحي عبر الإنترنت وصول العروض إلى جماهير واسعة، تتجاوز القاعات التقليدية. مثال بارز هو مشروع “NT Live” الذي أطلقه المسرح الوطني البريطاني في 2009، حيث تمّ بث عرض “فِيدرا” لهيلين ميرين مباشرة إلى نحو 70 قاعة سينما في المملكة المتحدة، وتوسّع المشروع لاحقًا ليشمل أكثر من 200 قاعة حول العالم، موفّرا تجربة مسرحية رقمية لجمهور قد لا يتمكّن من الحضور جسديا. ويؤكّد هذا المشروع على أن الوسائط الرقمية لا تقتصر على تقنيات العرض فقط، بل تسهم في إعادة تشكيل بنية جمهور المسرح.
ومن تجليات دور الوسائل الإلكترونية “تعزيز التفاعل والاندماج الحي”: ونجد مثالا حيّا لذلك في عرض “Sleep No More” الذي يسمح للجمهور بالتجول بحرية داخل الفضاء المسرحي، مع استخدام تقنيات تتبع الحركة لتفعيل تجربة حسية تفاعلية. وقد أُعيد تقديم العرض في لندن (2003)، نيويورك (2011)، وشنغهاي (2016)، ما يؤكّد إمكانية مزج الأداء الحي مع الوسائط الرقمية لتعميق التجربة المسرحية.
ونذكر أيضا محور “توثيق المسرح والذاكرة الرقمية”: إذ توفّر الوسائط الإلكترونية آليات جديدة لتوثيق العروض المسرحية، ما يتيح للحركات، والحوار، والجو المسرحي أن تتخطى حدود الزمان والمكان، ويتم الاحتفاظ بها في أرشيف رقمي. ويسمح ذلك بإعادة تقديم العروض وإعادة تفسيرها عبر الزمن، كما تؤكد دراسات حول “ذاكرة الأداء”.
تحديات تواجه المسرح الرّقمي
مع كل هذه الإمكانات، تواجه الوسائط الإلكترونية تحديات حقيقية قد تؤثّر على إمكانية دمجها الكامل مع المسرح، نذكر من بينها التحديات التقنية والبنية التحتية، حيث تعاني بعض الفعاليات المسرحية الرقمية من مشاكل تقنية مثل ضعف جودة البث أو تعطل الخوادم، كما حدث في مهرجان “MPA Digital Season” في إيطاليا عام 2021، حيث لاحظت دراسة افتقار العديد من الفنانين إلى الخبرة الرقمية، ومواجهة عروضهم تحديات تقنية كبيرة.
وهناك أيضا فقدان / افتقاد الحضور الجسدي، وفي هذا الصدد، يرى بعض مخرجي المسرح (مثل توماس أوسترماير) أن تجربة الحضور الجسدي والاتصال المباشر بين الممثل والجمهور لا يمكن استبدالها بوسائط رقمية، باعتبار أن هذا الحضور هو “جوهر المسرح”.
كما تبرز إشكالية حقوق الملكية الفكرية، فعمليات البث والتوزيع الرقمي تثير مخاوف قانونية تتعلق بهذه الحقوق، وقد تحجم الفرق المسرحية عن الانتقال إلى الفضاء الرقمي بسبب تخوفها من فقدان السيطرة على حقوق أعمالها.
المسرح الرّقمي..بديل أم امتداد؟
عديدة هي الأمثلة عن تواصل الإقبال على القاعات رغم الحلول التي توفرها التكنولوجيا. تشير نتائج مرصد المشاركة الثقافية البريطاني (Cultural Participation Monitor) في صيف 2023 إلى تفضيل واضح للجمهور للحضور المباشر للعروض المسرحية مقارنة بالمشاهدة الرقمية أو السينمائية، وهو تفضيل عام عبر مختلف الفئات العمرية (رغم انفتاح الشباب أكثر على اعتماد المنصات الرقمية والتلفزيون). ومع ذلك، يؤكد التقرير أن المسرحيات الجديدة والمسرحيات الموسيقية هي الأكثر جاذبية عبر جميع منصات المشاهدة.
قد يدل ذلك على أنّ المستقبل الأرجح هو إنتاج مسرحي هجين يجمع بين الخصائص التقليدية والتقنيات الحديثة، ولا يمكن اعتبار المسرح الرقمي بديلا كاملا في المدى القريب.
من هذا المنطلق، يمكن القول إنه رغم تأثير الوسائط الإلكترونية العميق على تطور المسرح، وإمكانيات العرض والتفاعل التي وسعتها، يبقى المسرح الرقمي مكمّلا ومعزّزا لتجربة المسرح التقليدي بدلا من أن يحل محله..بل إن المستقبل في مسرح هجين، يدمج بين الحضور الجسدي والفضاءات الرقمية ليخلق تجارب مسرحية متعددة الأبعاد.
”دول الجنوب” والفجوة الرّقمية
عرفت “دول الجنوب”، في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا الجنوبية، تاريخا مسرحيا غنيا يتجذّر في الممارسات التقليدية، الطقسية، والاجتماعية، لكنه غالبا ما اصطدم بضعف البنية التحتية، والتهميش، وقلة الدعم المؤسساتي. في هذا السياق، لا يمكن النظر إلى الوسائط الرقمية كعنصر سحري يحل المشكلات، وإنما كأداة ذات طابع مزدوج: تقدم إمكانات جديدة، لكنها تطرح أيضا أسئلة جوهرية حول التفاوتات التكنولوجية والمعرفية.
وقد تسمح الوسائط الرقمية بتجاوز الحواجز المكانية والجغرافية التي لطالما كبلت المسرح في هذه الدول، فالعروض المسرحية التي اقتصرت، في كثير من الأحيان، على جمهور محلي محدود، أصبحت قادرة على بلوغ جمهور عالمي من خلال المنصات الإلكترونية.
كما توفّر الوسائط الرقمية فرصة لحفظ الذاكرة المسرحية، من خلال أرشفة العروض، وتسهيل تبادل النصوص والتقنيات عبر الحدود، وهو ما لم يكن متاحا بالسهولة نفسها من قبل. وتتيح الوسائط الرقمية إمكانية التكوين عن بعد، وهو أمر حاسم في دول كثيرا ما تعرف محدودية في التكوين الفني المستمر.
ولكن وجب وضع هذه الإمكانيات في سياقها الاجتماعي والتقني، فضعف الاتصال بالإنترنت، وارتفاع كلفته، وصعوبة الوصول إلى معدات التصوير والإنتاج تطرح قيودا حقيقية في عديد الدول.
ولا تتعلق الفجوة الرقمية بالبنية التحتية فقط، بل أيضا بالكفاءات الرقمية، فالفرص التي توفرها الوسائط الرقمية ليست بالضرورة متاحة للجميع، ما من شأنه أن يقصي فاعلين يعملون في سياقات تقليدية أو شفهية الطابع.
وعليه، فإنّ الوسائط الرقمية يمكنها المساعدة في ترقية المسرح في “دول الجنوب”، ليس بوصفها بديلا جاهزا ولا وصفة سحرية، وإنما باعتبارها أداة ضمن مشروع ثقافي أوسع يتطلب إرادة سياسية، ودعما مؤسساتيا، وإدماجا نقديا للتكنولوجيا في السياقات المحلية. ولا يتعلق الأمر فقط بإدخال الكاميرا إلى قاعة العرض، بل بإعادة التفكير في العلاقة بين المبدع، والجمهور، والفضاء، واللغة، والمعرفة. وفي هذا المنظور، تظل التكنولوجيا محفزا، لا غاية بحد ذاتها.