شهدت أسئلة مادة الفلسفة، في امتحان البكالوريا لهذا العام، اختيار نصوص فسلفية لأسماء جزائرية من مختلف الأجيال، على غرار البخاري حمانة رحمه الله، ومحمد شوقي الزين، وعبد الرزاق بلعقروز.. وهو ما احتفى به محمد كرد، عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة معسكر، ورأى فيه عودةً للنص الفلسفي الجزائري إلى الواجهة، وإعادةً للارتباط بالأصل، أي “أن نقول الفكر لا من موقع التبعية، بل من موقع الانتماء”.
في نص نشره تحت عنوان “نحو إعادة الاعتبار للفلسفة الجزائرية”، احتفى الأستاذ الدكتور محمد كرد، عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة معسكر “مصطفى اسطمبولي”، بتضمين أسئلة الفلسفة في بكالوريا 2025 نصوصا فلسفية جزائرية.
ويتعلق الأمر بنص للبخاري حمانة (سؤال شعبتيْ اللّغات الأجنبية والفنون)، وآخر لمحمد شوقي الزين (شعبتيْ العلوم التجريبية والرياضيات)، ونص ثالث لعبد الرزاق بلعقروز (شعبة آداب وفلسفة).
ومن خلال التمعن في تلك الأسئلة، “تتبدى لنا علامة تنادينا إلى الإصغاء: عودة النص الفلسفي الجزائري إلى الواجهة”، يقول محمد كرد، مضيفا: “إن استدعاء كتابات الفلاسفة الجزائريين يجب أن يفهم باعتباره استجابة لنداء الوجود الجزائري في أفق الفكر. وهذا ما يجعلنا نقول، بل نصغي إلى القول، بأن الفكر الفلسفي الجزائري لم يكن غائبا، بل كان ينتظر لحظة الانكشاف، لحظة تمثل الذات الجزائرية لوجودها كذات قادرة على التفلسف من صميم تجربتها”.
وما يلفت الانتباه، أيضا، في حضور هذه النصوص هو راهنيتها، يلاحظ كرد، فهي بحسبه “أصوات تنبض في قلب الحاضر، ينطق بها فلاسفة في أوج العطاء، شباب لم تفسدهم الأقنعة ولا أغوتهم الأطر الجاهزة. ومن ثمّ، فإن هذه النصوص تحايث قضايا الوجود الراهن، وتعيد مساءلتها في ضوء أسئلة كبرى: ما معنى أن تكون الفلسفة اليوم؟ ما موقعها في زمن يفتّت فيه المعنى أمام فيض التقنية وتحوّل المعرفة إلى إنتاج محض؟”
ورأى كرد أن العودة إلى نصوص تتناول الثورة الجزائرية، كما في فكر البخاري حمانة رحمه الله، لا تعني تمجيد الماضي لذاته، بل استدعاء حدث أصلي، حدث تأسيسي، يعيد ربط الذات بذاتها، أي بذات كانت، وتريد أن تكون. فالثورة، من هذا المنظور، إمكان لتجاوز السقوط في اللامبالاة والانحطاط، وهي بذلك لحظة وجودية، تفتح فيها الحقيقة أمام الكائن الجزائري كما ينبغي له أن يكون.
وإذا كان محمد شوقي الزين يعيد مساءلة ماهية الفلسفة، وإذا كان عبد الرزاق بلعقروز يعيد التفكير في علاقة الفلسفة بالعلم، وبالأخص في نقده العميق للبسيكولوجيا، فإن ذلك كله يمثل انبثاقا جديدا للفكر الجزائري من حيث هو ممارسة للوجود في أفق السؤال، يشير كرد، مضيفا: “بهذا المعنى، فإن إعادة الإصغاء إلى هذه النصوص هي دعوة إلى إعادة الارتباط بالأصل: أن نقول الفكر لا من موقع التبعية، بل من موقع الانتماء، لا من موقع التكرار، بل من موقع الإبداع. حينها فقط نستطيع، كذوات جزائرية، أن نكون جديرين بنداء الظهور، أن نعيد لأنفسنا مكانتها الإنسانية، أن نخط مصيرنا لا كما يراد لنا، بل كما ينبغي أن نكون”.
وأكد كرد أن في الجامعات الجزائرية، عبر جميع ربوع الوطن، فلاسفة ومفكرون لا يقل عطاؤهم الفلسفي عن عطاء كبار المفكرين، بل يمتازون بقدرتهم على الربط بين التجربة الجزائرية والرهانات الكونية. وهؤلاء “فلاسفة لهم القدرة على جعل الجامعة الجزائرية فضاء للقول الأصيل، للعودة إلى السؤال، للعبور من مجرد التعليم إلى التفلسف الحقيقي”.
وتوجه كرد بالشكر إلى وزارة التربية الوطنية، لأنها “أعادت للنصوص الجزائرية مكانتها في فضاء التعلم والسؤال”، وهي “عودة مباركة إلى ذات تفكر”، ما من شأنه “أن يعيد للفكر اعتباره، ولأساتذة في الجامعات الجزائرية، تميزوا علما وحكمة، مكانتهم التي يستحقونها”. كما شكر “كل من آمن بأن للفكر موطنا في هذه الأرض، وأن الفلسفة لا تستورد، بل تولد من عمق التجربة الجزائرية”.
في المقابل، تأسف البروفيسور كرد لسماع بعض الدعوات “لنبذ الفلسفة أو إلغائها، وكأنها عبء زائد على العقل أو عائق أمام التقدم”، وفي ذلك “عجز عن رؤية الأفق الذي تفتحه الفلسفة للذات والمجتمع”، خاصة وأن “الفلسفة كانت عبر العصور اللبنة الأولى لأي مشروع حضاري. لقد كتب ديكارت: “الفلسفة هي التي تُعلّمنا كيف نكون سادة الطبيعة وممتلكيها”، وهو قول واضح بأن الفلسفة هي التي منحت الغرب ذاته الأدوات الأولى للانطلاق نحو العصر الحديث”.
وذكّر العميد بأن “كل الثورات المعرفية الكبرى بدأت بفلاسفة: من سقراط إلى كانط، من هيغل إلى هوسرل، ومن نيتشه إلى فوكو”، لذلك، يرى كرد أن في المطالبة بإلغاء الفلسفة واستبعادها غلقا للنافذة الأخيرة التي تتيح لنا أن نفكر بحرية. “إننا ندافع عن الفلسفة بوصفها شرطا للوعي، ولهذا فإن الدعوة إلى إلغائها ليست فقط اعتداء على العقل، بل على كرامة الإنسان نفسه”، يؤكد محمد كرد في ختام نصه.