مجلـة “عصـور” في عـدد جديد

بحـوث علميـة تستقــرئ الإرث الحضـاري

فاطمة الوحش

أصدرت مجلة “عصور” شهر جوان الجاري عددها الجديد، حاملة معها مجموعة من الدراسات العلمية المحكمة التي تعكس عمق البحث الأكاديمي في مجال التاريخ والعلوم الإنسانية والاجتماعية..

تميّز هذا العدد بجملة من الدراسات التي تقترب من قضايا الذاكرة الوطنية، وتسلّط الضوء على وجوه وشخصيات لعبت أدوارًا تربوية وثقافية وإصلاحية في عمق المجتمع الجزائري، كما تتناول محطات حساسة من تاريخ الثورة التحريرية، فضلًا عن قراءات أنثروبولوجية وفنية تذهب إلى تحليل مظاهر الحياة اليومية والعمران والفكر الشعبي.
ومن بين الموضوعات التي نشرت في هذا العدد، نجد دراسة للدكتور محمد محمدي حول الشيخ أحمد شطة، أحد الوجوه الإصلاحية بمنطقة الأغواط، حيث تتبع الباحث جهوده التربوية بين عامي1900 و1950، مسلطا الضوء على دوره في بعث الوعي الديني والثقافي في الجنوب الجزائري خلال فترة استعمارية اتسمت بمحاولات طمس الهوية ومصادرة الفعل التربوي. وفي الإطار نفسه، تطرق الدكتور بغداد شاشي بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور سفيان لوصيف إلى الدور الثوري الذي لعبته الكشافة الإسلامية الجزائرية في منطقة المدية بين سنتي 1947 و1962، وذلك من خلال قراءة تحليلية تستند إلى شهادات ووثائق تاريخية، تظهر كيف شكلت الكشافة مدرسة للنضال والتنظيم والعمل الجماعي في وقت دقيق من مسار الثورة.
ووجد هذا العدد من المجلة في مساهمة الدكتورة وردة بورزق والدكتور مصطفى سعداوي معالجة دقيقة لمساعي الولاية الرابعة التاريخية لعقد مؤتمر الصومام في قلب الولاية الثالثة، من خلال المذكرات الشخصية للفاعلين في الثورة، وهي وثائق نادرة تعكس النقاشات والخلافات الداخلية التي سبقت ذلك المنعطف الحاسم في تنظيم العمل الثوري. أما الباحث عبد الحكيم هادي والدكتور سمير مزرعي فقدّما قراءة في أسباب ثورة 1871 بمنطقة القبائل، من خلال مقاربة جديدة للعوامل التي قادت إلى اندلاع واحدة من أكبر الانتفاضات ضد الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر.
وتناول الدكتور عبد الوحيد جلامة سياسة التفكيك الاجتماعي التي انتهجها الاستعمار الفرنسي، من خلال دراسة قانون الحالة المدنية الصادر في 23 مارس 1882، حيث كشف الباحث كيف كان لهذا القانون أثر مباشر في تفتيت البنية القانونية والاجتماعية للأهالي، وربطهم بالنظام الإداري الفرنسي بعيدًا عن تقاليدهم وأعرافهم. كما قدمت الباحثة خديجة أورزيفي دراسة أنثروبولوجية حول عادات الأكل في الجزائر خلال العهد العثماني (1519–1800)، تكشف من خلالها كيف كانت الثقافة الغذائية تعبيرا عن هوية المجتمع وتماسكه الداخلي، وتوثق لأطباق وممارسات ما زال بعضها حيا في الذاكرة الشعبية المعاصرة.
ومن خلال دراسة في الأرشيفات وكتابات المستشرقين، تناول الدكتور فؤاد عزوز طقوس وعادات استقبال المولود في الجزائر خلال فترة الاحتلال الفرنسي، مركزًا على كتابات “ديسبار مي” كنموذج لفهم كيف حاول الاستعمار تصوير الحياة الاجتماعية في الجزائر من منظور استشراقي مشحون بالأحكام المسبقة.
وفي مجال التراث المادي والعمراني، نشر الدكتور محمد عبد الجليل شيخي دراسة وصفية حول حمام سيدي بلحسن العماري، أو “حمام الصباغين” كما يُعرف في تلمسان، باعتباره نموذجًا لروائع العمارة المرابطية التي امتازت بالبساطة الجمالية والتصميم الوظيفي المتقن. وفي دراسة أخرى، سلّط الدكتور يونس جحيش الضوء على الكتابات الجصية في عمائر مدينة قسنطينة خلال العصر الإسلامي، من خلال مقاربة فنية تحليلية تربط بين الزخرفة والرمزية والدلالات الاجتماعية للنقش.
واهتمت المجلة كذلك بمباحث متعلقة بالمتاحف والآثار، حيث قدّمت الدكتورة سعاد بن شامة دراسة وصفية عن المجموعات المتحفية من الفترة العثمانية المعروضة بالمتحف الوطني العمومي بشرشال، وركّزت على القيمة الأثرية لتلك القطع ودورها في حفظ الذاكرة الفنية والإدارية لتلك المرحلة.
من جهته، تناول الدكتور حسين بن طيبة تقنيات بناء السفن القرطاجية، مستعرضا طرق التصنيع والنماذج الهندسية التي مكنت قرطاجة من فرض سيطرتها البحرية في البحر الأبيض المتوسط، في حين ناقشت الدكتورتان عائشة بن عقري ونجمة سراج أهمية علم الجيوماتيك في حفظ المواقع الأثرية، مسلطتين الضوء على أدوات وتقنيات حديثة باتت أساسية في صيانة الإرث التاريخي.
وفي مجال الدراسات الفكرية، قدّم الدكتور محمد بومدين والدكتور محمد بن عدي دراسة حول واقع العلوم اللسانية في المغرب الأوسط بين 962 هـ و1245 هـ، بما يعكس تطور النحو والبلاغة واللغة في السياقات الثقافية المختلفة التي عرفتها المنطقة.
ولم يغفل العدد الاهتمام بأدب الرحلة، حيث ضم دراسة للباحث طه محمد فرمان بمشاركة الأستاذ الدكتور محي الدين صف الدين حول مساهمات علماء المغرب الأوسط في هذا الجنس الأدبي بين القرنين 12 و15 الميلاديين، في حين تناولت الباحثة فاطمة بنت ناصر بن خلف الحاتمية بالاشتراك مع الأستاذة الدكتورة فاطمة بليواري رحلة أحمد بن قاسم الخطري سنة 1641م في كتابه “ناصر الدين على القوم الكافرين”، وهو نص أدبي - ديني يحمل الكثير من المضامين السياسية والاجتماعية. كما ساهم الباحث مصطفى حاج عبد القادر والأستاذ الدكتور مصطفى حجازي بدراسة معمقة حول العلاقات الثقافية.
تعد “عصور” واحدة من أبرز المجلات العلمية نصف السنوية المتخصصة في الحقول التاريخية في الجزائر، حيث تصدر منذ سنة 2002 عن مخبر البحث التاريخي ـ مصادر وتراجم ـ بكلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية بجامعة وهران 1، وتكرس أعمالها لاحتضان البحوث الجادة في مختلف الفترات التاريخية والفضاءات الحضارية، منطلقة من رؤية معرفية منفتحة على التخصصات المتقاطعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19796

العدد 19796

السبت 14 جوان 2025
العدد 19795

العدد 19795

الخميس 12 جوان 2025
العدد 19794

العدد 19794

الأربعاء 11 جوان 2025
العدد 19793

العدد 19793

الثلاثاء 10 جوان 2025