حَوصَلَــــــةُ رَمَضـــــــــان 2025 فِـــــــي الدّرامَـــــــــا الجَزَائِرِيَّـــــــــة:

مُلَاحَظَـاتٌ جَوهَرِيَّـــة وَتَوصِيَـــاتٌ فَنِّيَّـــة

بِقَلَم: عَمَّار قواسمية

 

تَشهَدُ الدّرامَا الجَزَائِرِيَّة تَطَوُّرَاتٍ مُتَبَايِنَةً بَينَ مُحَاوَلَاتِ التَّجدِيدِ وَالتَّقَيُّدِ بِأَنماطٍ تَقلِيدِيَّةٍ لَم تَعُد تَتَمَاشَى مَعَ تَطَلُّعَاتِ المُشَاهِدِ المُعَاصِر. وَرَغمَ الجُهُودِ المَبذُولَةِ لِلِارتِقَاءِ بِجَودَةِ الإِنتَاجَاتِ التِّلفِزيُونِيَّة، إِلَّا أَنَّ العَدِيدَ مِنَ المُسَلسَلَاتِ الجَزَائِرِيَّة مَا زَالَ يُعَانِي مِنْ مُشكِلَاتٍ جَوهَرِيَّةٍ عَلَى مُستَوَى البِنَاءِ السَّردِيّ (Narrative Structure)، وَالأَدَاءِ التَّمثِيلِيّ (Acting Performance)، وَالأُسلُوبِ الإِخرَاجِيّ (Directorial Style).


وَلَعَلَّ أَبرَزَ التَّحَدِّيَاتِ الَّتِي تُوَاجِهُ الصِّنَاعَةَ الدّرامِيَّة فِي الجَزَائِرِ التَّذَبذُبُ بَينَ مُحَاكَاةِ النَّمَاذِجِ العَالَمِيَّةِ على غَيرِ تَبَصُّرٍ وَرَوِيَّة، وَبَينَ التَّمَسُّكِ بِأَسَالِيبَ تَقلِيدِيَّةٍ تَجعَلُ الأَعمَالَ تَفتَقِرُ إِلَى هُوِيَّةٍ درامِيَّة مُستَقِلَّة. وَمِن خِلَالِ تَحلِيلِ الأَنماطِ المُتَكَرِّرَةِ فِي الإِنتَاجَاتِ الرَّمَضَانِيَّة الأَخِيرَة، يُمكِنُ تَحدِيدُ المَآخِذِ الأَسَاسِيَّةِ وَاقتِرَاحُ حُلُولٍ تَتَمَاشَى مَعَ المَعَايِيرِ السِّينِمَائِيَّةِ العَالَمِيَّةِ.
يُعَانِي العَدِيدُ مِنَ المُسَلسَلَاتِ الجَزَائِرِيَّةِ مِن تَفَكُّكِ الحَبكَةِ (Plot Fragmentation) وَغِيَابِ التَّرَابُطِ السَّردِيِّ (Narrative Coherence)، مِمَّا يَجعَلُ تَطَوُّرَ الأَحدَاثِ مُتَنافِرَ البُنيَان؛ إِذ غَالِبًا مَا يُتَوَسَّلُ بِالفلاشباك العَشوَائِيِّ (Unmotivated Flashbacks)، أَو بِإِدخَالِ خُطُوطٍ سَردِيَّةٍ ثَانَوِيَّةٍ (Subplots) دُونَ رَبطِهَا بِالحِكَايَةِ الإِطَارِيَّة. وَلِتَجَاوُزِ هَذِهِ الإِشكَالِيَّة، يُمكِنُ الِاستِفَادَةُ مِنْ تِقنِيَاتِ الكِتَابَةِ السِّينِمَائِيَّةِ المُتَقَدِّمَةِ، مِثلَ السَّردِ المُتَوَازِي (Parallel Narratives) أَوِ الحَكْيِ المُتَشَابِكِ (Interwoven Storylines)، بِحَيثُ يُصبِحُ كُلُّ تَفصِيلٍ فِي العَمَلِ جُزءًا مِن نَسِيجٍ درامِيٍّ مُتَكَامِل، بَدَلًا مِنَ الِاعتِمَادِ عَلَى الحَشوِ السَّردِيِّ (Narrative Padding) لِإِطَالَةِ عَدَدِ الحَلَقَاتِ دُونَ مُبَرِّرٍ درامِيٍّ وَاضِح.
ثُمَّ إِنَّ تَكرَارَ المُمَثِّلِينَ فِي أَدوَارٍ نَمَطِيَّةٍ (Typecasting) بَاتَ مُشكِلَةً وَاضِحَةً فِي الدّرامَا الجَزَائِرِيَّة، حَيثُ يَظهَرُ بَعضُ المُمَثِّلِينَ فِي الشَّخصِيَّاتِ ذَاتِها عَبرَ عِدَّةِ أَعمَال، مِمَّا يُؤَثِّرُ عَلَى مِصدَاقِيَّةِ الشَّخصِيَّة (Character Credibility)، كَمَا أَنَّ الأَدَاءَ التَّمثِيلِيَّ يُعَانِي أَحيَانًا مِنَ المُبَالَغَة أَوِ الِافتِعَال نَتِيجَةَ ضَعفِ التَّوجِيهِ الإِخرَاجِيِّ (Directorial Guidance). وَعَلَى النَّقِيضِ تَمَامًا، نَجِدُ أَنَّ السِّينِمَا العَالَمِيَّةَ تَعتَمِدُ عَلَى تِقنِيَاتِ التَّقَمُّصِ النَّفسِيِّ العَمِيقِ (Method Acting) وَالتَّوجِيهِ عَالِي الدِّقَّة (الميكروسكوبي) (Micro-Directing)، وذلك مِمَّا يُمَكِّنُ المُمَثِّلِينَ مِن النَّفاذِ إلى أغوارِ شُخُوصِهم، نَفاذًا أقرَبَ إلى الوَاقِع وأدنَى إلى طَبِيعَتِه وأشَدَّ بِه شَبَهًا. ومِنْ هَذَا المُنطَلَقِ فَإِنَّ بَرمَجَةَ وَرشَاتٍ تَمثِيلِيَّةٍ احتِرَافِيَّةٍ ضِمنَ عَمَلِيَّةِ التَّحضِيرِ لِلْأَعمَالِ الدّرامِيَّة قَد يُسهِمُ فِي تَحسِينِ الأَدَاءَاتِ وَيَمنَحُ المُمَثِّلِينَ فُرَصًا لِتَطوِيرِ أَدَوَاتِهِمُ الفَنِّيَّة.
أَمَّا الإِيقَاعُ الدّرامِيّ (Dramatic Rhythm) فَيُعَدُّ أَحَدَ التَّحَدِّيَاتِ الكُبرَى فِي الدّرامَا الجَزَائِرِيَّة، حَيثُ تَمِيلُ بَعضُ الأَعمَالِ إِلَى التَّمطِيطِ السَّردِيِّ (Narrative Padding) لِإِطَالَةِ مُدَّةِ المُسَلسَلِ، بَينَمَا تَقَعُ أَعمَالٌ أُخرَى فِي فَخِّ السَّردِ المُتَسَارِعِ (Narrative Haste)، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى قَفزَاتٍ غَيرِ مُبَرَّرَةٍ فِي تَطَوُّرِ الشَّخصِيَّاتِ وَالأَحدَاث. وَلِتَجَاوُزِ هَذَا الخَلَل، يُمكِنُ اِعتِمَادُ نَمُوذَجِ “التَّدَرُّجِ الدّرامِيّ المُتَصَاعِدِ” (Gradual Narrative Build-Up) الَّذِي يَسمَحُ بِتَطَوُّرِ الشَّخصِيَّاتِ وَالأَحدَاثِ بِوَتِيرَةٍ مَدرُوسَة، مَعَ الحِفَاظِ عَلَى التَّشوِيقِ المُستَمِرِّ (Sustained Suspense)، كَمَا هُوَ الحَالُ فِي الأَعْمَالِ العَالَمِيَّةِ النَّاجِحَةِ الَّتِي تَحرِصُ عَلَى ضَبطِ إِيقَاعِهَا بِدِقَّة.
وَلَا يُنكِرُ أَحَدٌ التَّحَسُّنَ التَّدرِيجِيَّ فِي استِخدَامِ الكَامِيرَا وَزَوَايَا التَّصوِيرِ (Camera Angles & Shot Composition) فِي المُسَلسَلَاتِ الجَزَائِرِيَّة، إِلَّا أَنَّ العَدِيدَ مِنَ الأَعمَالِ لَا تَزَالُ تَفتَقِرُ إِلَى هُوِيَّةٍ بَصَرِيَّةٍ مُتَفَرِّدَةٍ (Visual Identity). وَيَتَجَلَّى هَذَا فِي غِيَابِ التَّنَاسُقِ بَينَ الإِضَاءَةِ وَالتَّلوِينِ السِّينِمَائِيِّ (Cinematic Color Grading)، نَاهِيكَ عَن الِاعتِمَادِ المُفرِطِ عَلَى اللَّقَطَاتِ القَرِيبَةِ (Close-Up Shots) دُونَ تَوظِيفِهَا فِي سِيَاقٍ درامِيّ وَاضِحٍ وَمُقنِع. وَيُمكِنُ تَحسِينُ هَذَا الجَانِبِ مِن خِلَالِ اِعتِمَادِ فَلسَفَةِ “الِاقتِصَادِ البَصَرِيِّ” (Visual Economy) الَّتِي تُرَكِّزُ عَلَى جَعلِ كُلِّ عُنصُرٍ بَصَرِيٍّ يَخدُمُ القِصَّةَ وَيُحَقِّقُ وَظِيفَتَهَا، بَدَلًا مِن استِخدَامِ المُؤَثِّرَاتِ البَصَرِيَّةِ استِخدَامًا يَزِيدُ عَنِ الحَاجَةِ دُونَ تَأثِيرٍ درامِيٍّ حَقِيقِيّ.
 فإن التَفَتنَا إلى ما احتَوَتهُ هذه الأعمالُ مِن مَضامِينَ، قُلنا إن بَعضَ المُسَلسَلَاتِ الجَزَائِرِيَّة تَتَطَرَّقُ إِلَى قَضَايَا اجتِمَاعِيَّةٍ حَسَّاسَةٍ، لَكِنَّهَا وَقَعَت فِي مُعضِلَةِ الِازدِوَاجِيَّةِ الخِطَابِيَّةِ (Narrative Inconsistency)، حَيثُ تَتَنَاقَضُ الرَّسَائِلُ الضِّمنِيَّة مَعَ السِّيَاقِ العَامِّ لِلحَبكَة أَو مَعَ القِيَمِ الثَّقَافِيَّةِ لِلمُجتَمَعِ الجَزَائِرِيّ. عَلَى أنَّ طائِفةً مِن هذه الأعمال تُبدِي هَيئَاتٍ مَائِلَةَ السَّنَن، مُختَلَّةَ التَّوَازُن، في تَصويرِها لِبَعضِ الصَّنائِعِ أو الطَّبَقات مِن النَّاس، مِمَّا قَد يُوَلِّدُ اِنطِبَاعَاتٍ مُنَفِّرَةً لَدَى الجُمهُور. وَمِن هُنَا، يُصبِحُ اِعتِمَادُ نَهجِ “المَسؤُولِيَّة السَّردِيَّة” (Narrative Responsibility) ضَرُورَةً مُلِحَّةً لِضَمَانِ أَنْ لَا تَقتَصِرَ الدّرامَا عَلَى التَّرفِيهِ، بَل أن تَضطَلِعُ بِدَورٍ نَبِيلٍ قِوَامُهُ تَقدِيمُ قَضَايَا المُجتَمَعِ بِأُسْلُوبٍ نَقدِيٍّ مُتَّزِن، يُرَاعِي السِّيَاقَ الثَّقَافِيَّ المَحَلِّيَّ وَيُحَافِظُ عَلَى الجَودَةِ الفَنِّيَّةِ فِي آنٍ.
وَفِي مَا قَلَّ وَدَلَّ أَقُول: إِنَّ تَطوِيرَ الدّرامَا الجَزَائِرِيَّة يَتَطَلَّبُ رُؤيَةً إِنْتَاجِيَّةً أمضَى حِرَفِيَّةً، تَتَجَاوَزُ التَّجرِيبَ العَشوَائِيَّ نَحوَ بِنَاءٍ سَردِيٍّ مُتَمَاسِك، وَأَدَاءٍ تَمثِيلِيٍّ مُحكَم، وَتَوظِيفٍ بَصَرِيٍّ مُتَجَدِّدٍ. وَمِن خِلَالِ التَّوَسُّلِ بِتِقنِيَاتِ السَّردِ السِّينِمَائِيِّ، وَتَعزِيزِ الوَرشات التَّمثِيلِيَّةِ، وَتَحسِينِ الإِخرَاجِ البَصَرِيِّ، يُمكِنُ لِلإِنتَاجَاتِ الجَزَائِرِيَّةِ أَنْ تَرقَى إِلَى مَصَافِّ التَّنَافُسِيَّةٍ وَالمُتَنَافِسِين، بَعِيدًا عَن أَنماطِ التَّكرَارِ وَالمُعَالَجَةِ الدّرامِيَّة السَّطحِيَّةِ. وَيَبقَى التَّحَدِّي الأَكبَرُ أَن نُحَقِّقَ درَامَا لَا تَكتَفِي بِجَذبِ المُشَاهِدِين، بَل تُساهِمُ في تَرسِيخِ هُوِيَّةٍ دراميّة جَزائِرِيَّة مُتَفَرِّدَة، قَادِرَةٍ على مُنافَسَةِ الإنتَاجَات العَرَبِيَّة والعَالَمِيَّة.
مترجم – مدقّق لغوي
مهتم بالشأن الثقافي

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19741

العدد 19741

الأحد 06 أفريل 2025
العدد 19740

العدد 19740

السبت 05 أفريل 2025
العدد 19739

العدد 19739

الجمعة 04 أفريل 2025
العدد 19738

العدد 19738

الأربعاء 02 أفريل 2025