التّـراث الجزائري يزخر بروائـع المديـح والإنشاد

حينما يتوشّح الفنّ بالقيم الرّوحيّة

أسامة إفراح

 لطالما كانت الأناشيد الدينية مكوّنا أساسيا من مكونات الثقافة الجزائرية، ومن أكثر مظاهر الإبداع التي تغلغلت في المجتمع بمختلف فئاته، كونها تجمع بين الغرض الإيماني، والذوق الجمالي. وإذا كانت المناسبات الدينية مثل شهر رمضان المعظم، العيدين، والمولد النبوي، مواسم يتجلى فيها النشيد الديني، فإنه يكاد يكون دائم الحضور في سائر الأيام، لاقترانه بطبوع موسيقية من عمق التراث، وأسماء فنية راقية لها وزنها ومكانتها.
تجمع الأناشيد الدينية بين الموسيقى أو اللحن، وما له من قوة تأثير وإعجاب وإطراب، والنص أو الشعر، ولعل من مميزات الشعر العربي، سواء الفصيح أو الشعبي، ارتباطه الوثيق بالوزن والإيقاع، ما يجعله غنائيا بطبعه.
ولما كانت الجزائر البلد القارة، والضارب في جذور التاريخ، فقد تنوعت طبوع النشيد فيه، لحنا ونصا، فنهلت الأناشيد الدينية من نصوص التراث ومقاماته الموسيقية، وتنوعت تنوع المناطق واللغات، وإذا كانت العقود الأخيرة قد عرفت تأثرا بالمشرق العربي، فإن ذلك لم يزد النشيد الجزائري إلا غنى وثراءً.
الإنشاد الدّيني..المفهوم والخصائص
 تعتبر صليحة رحالي (جامعة باتنة)، أنّ الإنشاد الديني وعاء يحفظ القيم وينمّيها في ذات الوقت، باعتماد الكلمة السليمة والهادفة، والأداء الملتزم والجيد، واللحن الشجي. فبالرغم من الاختلاف الذي حصل حول الإنشاد وفوضى مصطلحاته، إلا أن هذا الاختلاف لا ينفي الدور الذي يؤديه الإنشاد الديني في المحافظة على القيم الدينية ونقلها من جيل إلى جيل، فهو يسهم في النهوض بالثقافة والهوية الفكرية والاجتماعية والوطنية، ويثير في الأفراد ويحرك فيهم النخوة والحمية والانتماء للقيم وللرموز الوطنية، وهو عامل مهم في إثارة الهمم وتحمل أمانة الدين ونشره في العالم.
والأنشودة في اللغة: الشعر المتناشد بين القوم ينشده بعضهم بعضا، أو قطعة من الشعر ينشدها القوم على إيقاع واحد والنشيد الصوت، ورفعه مع التلحين. والأنشودة قطعة من الشعر أو الزجل في موضوع حماسي أو وطني تنشده جماعة.
وتقول الباحثة إن الإنشاد الديني قد عالج مواضيع وألوان مختلفة، دينية، اجتماعية سياسية، وطنية، اقتصادية، أخلاقية، وتخلل جميع حياة الناس الخاصة والعامة مما أكسبه صفة الشمولية، ومنها: قصص البطولة التي تتغنى ببطولات بعض الأبطال الشعبيين، أبطال الكفاح أو أبطال الصبر، يسمعها الناس فيطربون بها، ويرددونها، ويكادون يحفظونها عن ظهر قلب. والملاحم الشعبية، وأغاني الأعياد والأفراح والمناسبات السارة، وقد ابتكر الناس أغاني وأهازيج لحّنوها وغنوها بأنفسهم في أحوال ومناسبات مختلفة مثل جني الثمار أو القطن وغيرها.
وتذكر الباحثة هنا موقف تشجيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -للصحابة أثناء حفر الخندق بإنشاده، حين قال منشداً: اللهم إن العيش عيش الآخرة ** فاغفر للأنصار والمهاجرة. فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا ** على الإسلام ما بقينا أبدا.

السّماع الصّوفي
 يشير امحمد شيخ (جامعة تلمسان) إلى أن العلاقة بين الموسيقى والتصوف علاقة وظيفية، مذكّرا بأن “التصوف ممارسة روحية وقيمية انتشرت في ثقافات عدة في العالم وعلى مر العصور”. وقد “كان السماع والموسيقى إحدى وسائل التي انتهجها بعض الطرق الصوفية، ومن بين أولى هذه الطرق الطريقة المولوية التي أسسها جلال الدين الرومي، فجعل من السماع والرقص في الأذكار الصوفية إحدى أسس طريقته، فالسماع يصنع لنا إيقاعات مؤثرة على النفوس”.
ويستشهد الباحث بكتاب “السماع الروحي في التقليد الصوفي” لمؤلفه جان دورين، الذي يرى أن السماع في التقليد الصوفي هو الاستماع إلى الموسيقى بهدف بلوغ حالة النشوة الروحية أو “تغذية الروح” كما يعبر المتصوفة عن ذلك، فالأمر إذن يتعلق بتقليد احتفالي للموسيقى والإنشاد في طقوس معينة إلى حد ما، أي أن جوهر الموسيقى الصوفية هو روحي، فهي موسيقى تتملكنا وتحتوينا من خلال التأمل ولها مستويات يحياها المتلقي فيها، وترجع في إنشادها إلى ما نظمه شيوخ الصوفية من شعر وأدعية وأوراد، وقد ألف بعضها بلغة هي مزيج بين الفصحى والعامية، وألفت أخرى بإحدى اللهجات الأمازيغية إمعانا في استنهاض القوم بلسانهم.
ومن ميزات الموسيقى الصوفية أنها تستعمل المقامات، ووفقا للباحث فإن 12 هو عدد الطبوع الموسيقية الأندلسية المعتمدة عند المتصوفة. كما تتميز باحتوائها على الرقص حيث كان وسيلة ناجعة في التأثير وجلب القلوب لها. وتتميز أيضا بأنها عمل جماعي، ولا تكون حلقات الذكر إلا بالحضور الجماعي الذي يعبر عن التضامن والتوحد بين أفراد الطريقة.
من جهتها، تقسّم خديجة بغدادي (جامعة وهران 2) السماع إلى ثلاثة أنواع باختلاف المستمع: السماع العام، وهو خاص بالمريدين المبتدئين، والسماع بالحال، وهو نوع من التأمل الذي يطرأ نتيجة التأثر بالمسموع، والسماع الخالص الذي يرتبط بـ “العارفين”.
وقد قامت الباحثة بدراسة ميديانية من مقاربة أنثروبولوجية، وقابلت مقدمات ثلاث زوايا (الهبرية، التيجانية، والعلوية)، وخلصت إلى أن فن السماع يكتسي أهمية كبيرة لدى المريدات وحتى زوار الزوايا، حيث أن طريقة إنشاده كانت كفيلة بإثارة باطن البعض منهم، ممّا يؤدي إلى حالة من السلم الروحي والاطمئنان النفسي، الذي تفسره “الفقيرات” على أنه نوع من التطهير النفسي.
المديح النّبوي في الجزائر
كثيرة هي أنواع وأصناف الأناشيد الدينية في الجزائر، كثرة وتنوّع منابعها ومصادرها، من السماع الصوفي إلى الموسيقى الأندلسية، وحتى الألوان المعاصرة ذات الطابع المشرقي التي انتشرت عندنا في العقود الأخيرة. ولكنّنا سنخص بالذكر، في هذا المقال، المديح النبوي، باعتباره أسمى هذه الأنواع غرضا، وأكثرها عراقة، وأعمقها تغلغلا في المجتمع الجزائري.
وقد لخّصت عائشة لطروش (جامعة مستغانم) مجموعة من تعاريف المديح النبوي، بقولها إنّه “من الفنون الأدبية، له قالب شعري نابع عن قلوب متشبعة بالإيمان، ينظم في النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاكرا أخلاقه وصفاته ومعجزاته، إضافة إلى الغزوات والأماكن التي يتردّد عليها، إلى مناجاته والشوق إليه”.
وتقول الباحثة إنّ المدائح النبوية عرفت انتشارا واسعا في الشعر الجزائري باللغة الفصحى والعامية، فمن الشعراء من كتب سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كاملة، ومنهم من تحدث عن معجزاته ووصف جماله الظاهر والباطن، وذكر أخلاقه، وإلى جانب هذا عبر عن شوقه إلى الكعبة والبقاع المقدسة، ومزج هذا كله بالشوق إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم -
ويفرّق عبد الله الركيبي بين نوعين من المدائح النبوية في الشعر الجزائري الحديث: “النوع الأول هو ما كان امتدادا للتراث القديم في هذا الموضوع، وهو يرتبط أساسا بالنظرة الصوفية إلى حد كبير. أما النوع الثاني فهو الذي اتخذ من مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبدأ للدعوة إلى النهوض واليقظة، وذلك بعد أن تطورت الحياة الفكرية والأدبية والسياسية. فالنوع الأول كان تعبيرا عن مرحلة حضارية عاشتها الجزائر، وأصبح الدين فيها هو القوة الوحيدة التي بقيت للناس في حياتهم. أما النوع الثاني فكان تعبيرا عن مرحلة حضارية جديدة انتقلت إليها الجزائر”.
ويزخر التراث الجزائري بعديد الأسماء في هذا الصدد، على غرار الشاعر لخضر بن خلوف، والشاعر المنداسي، والشاعر ابن التريكي الذي يقول: “دمعي سْكيبْ
والنار فاكبادي / يا شمس المغيبْ
سلّم على الهادي / طه الحبيبْ
هو غاية مرادي”.
ويعتبر عبد الرحمن بغداد (المركز الجامعي بمغنية)، أن قصائد المديح النبوي تمثل البذور الأولى للشعر الديني. ويقترح الباحث قراءة في ديوان عبد الله بن مسايب، أحد أبرز أعلام الشعر الشعبي في الجزائر خلال القرن الثامن عشر. وينقل الباحث نماذج من أشعار بن مسايب، على غرار:
«ذكرك زهو قلبي / يقوى فيك حبي
يا محبوب ربي / يا النبي الامجد زين الحزام
كيف يكون طبي / إذا وقع شي لي سيدي خصام”.

ويقول أيضا:

“حبي من نهواه بدر /  البدور سبحان من علّاه
فاق كلّ نورعزّه الكريم واعطاه
 زهو الصدور منه زهات الناس /   قطب الفلاح”.
وممّا خلص إليه الباحث، أنّ ابن مسايب كان ينظر في الكثير من قصائد المديح النبوي إلى النبي عليه الصلاة والسلام نظرة روحية خالصة، بحيث ينبني المديح عنده عادة إلى جزأين متقابلين: أحدهما يجسد بعد الغياب ممثلاً في الذات الناقصة (السالك / الشاعر)، والآخر يجسد بعد الحضور ممثلاً في الذات الكاملة أي (النبي صلى الله عليه وسلم) لينتهي المديح باجتماع الناقص بالكامل اجتماع توسل.
من جهتها، تسلّط رزيقة رويقي (جامعة تبسة) الضوء على الموشحات المولدية، “التي مثّلت أنموذجا فنيا مكتملا ومظهرا من مظاهر التجديد في الشعر المولدي خلال القرن الثاني عشر للهجرة”. وتنقل الباحثة عن المولديات في الجزائر ما أفاد به الفقيه العلامة أحمد بن عمار الجزائري (ت 1204هـ) في مقدمة رحلته “نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب” أن بلاد الجزائر من أكثر البلدان احتفاء باليوم العظيم، وكان أدباؤها وشعراؤها ينظمون مختلف القصائد والموشحات لإنشادها ليلة المولد، يقول: “وقد جرت عادة أهل بلادنا الجزائر، حرسها الله من الفتن وحاطها من الدوائر، أنه إذا دخل شهر ربيع الأول، انبرى من أدبائها وشعرائها من إليه الإشارة وعليه المعول إلى نظم القصائد المديحيات والموشحات النبويات، ويلحنونها على طريق الموسيقى بالألحان المعجبة، ويقرؤونها بالأصوات المطربة، ويصدعون بها في المحافل العظيمة والمجامع المحفوفة بالفضلاء والرؤساء والنظيمة من المساجد والمكاتب والمزارات، وهم في أكمل زينة وأجمل زي وأحسن شارات، تعظيما لهذا الموسم الذي شرف به الإسلام واحتفالا بمولده عليه الصلاة والسلام”.
وقد خصّت الباحثة نونية بن عمار الجزائري بالدراسة، باعتبارها نموذجا عن هذه الموشحات، وهي التي يقول فيها:
“يا نسيما بات من زهر الربا
يقتفي الركبان / احملن مني سلاما طيبا
لأهيل البان / اقرأن مني سلاما عبقا
إن بدت نجدُ / إن لي قلبا إليها شيّقا
شفّه وجدُ / وفؤادي يجتنيها حرقا
وضنى يعدو / ودموع العين تهمى سحبا
قطرها هتان / والكرى عن مقتلي قد غضبا
وجفا الأجفان”.
إن من تجليات أهمية الإنشاد الديني في الجزائر، “بناء الرصيد والمخزون الوجداني والعاطفي لثقافة الأمة”، تؤكد صليحة رحالي (جامعة باتنة)، مضيفة بأن للجزائر ثروة ضخمة من الأشعار والقصائد التي جعلت من الإسلام محورها الرئيسي، فالتراث الشعبي الجزائري في مجال الأشعار المكتوب وغير المكتوب غني ومتنوع، يتناول مواضيع مختلفة تشمل جميع نواحي الحياة، وتعتبر مرجعا أصيلا للمنشدين والفرق الإنشادية والمغنين، وهي أشعار نابعة من البيئة، معبرة عن قيمها، ومجسّدة لتقاليدها وعاداتها. وهذه النصوص تحتاج فقط إلى من يمسح عنها الغبار، لتشكل لوحات إنشادية رائعة تطرب لها الأسماع.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19722

العدد 19722

الأربعاء 12 مارس 2025
العدد 19721

العدد 19721

الثلاثاء 11 مارس 2025
العدد 19720

العدد 19720

الإثنين 10 مارس 2025
العدد 19719

العدد 19719

الأحد 09 مارس 2025