تناولت الدكتورة زاجية لزرق، في كتابها “البنيوية.. من الأصول الفلسفية إلى الفروع المنهجية” الصادر حديثا عن “ألفا للوثائق”، تتناول البنيوية باعتبارها واحدة من التيارات الفكرية الكبرى التي أثرت في مختلف مجالات المعرفة. وتلاحظ الكاتبة أن اجتياح الإجراء البنيوي ميادين الدراسات الإنسانية صعّب البحث في البنيوية، خاصّة وأن هذه الأخيرة ليست مجرّد مذهب فلسفي، بل هي منهج علمي وطريقة لمعاينة الواقع الإنساني.
صدر حديثا عن دار “ألفا للوثائق” كتاب “البنيوية.. من الأصول الفلسفية إلى الفروع المنهجية” للدكتورة زاجية لزرق. يتناول الكتاب، في 366 صفحة، موضوع البنيوية، باعتباره أحد التيارات الفكرية الكبرى التي أثرت في مختلف مجالات المعرفة خلال القرن العشرين.
الـبـنيويـة.. المـفهوم والأصول الـفلسفيـة
في مقدّمة كتابها، تبيّن الكاتبة الدكتورة زاجية لزرق أن الباحثين قد أجمعوا على أن البنيوية ليست مجرد مذهب فلسفي ينبثق عن مدرسة فكرية واحدة، كما يمكن أن يُقارن بالمذاهب مثل “الوجودية” أو “الماركسية”، بل هي منهج علمي وطريقة في معاينة الواقع الإنساني وقراءة الظواهر المحيطة. وتؤكد الكاتبة أن البنيوية لا يمكن أن تُعتبر في أي حال من الأحوال موضوعًا لعقيدة أو فلسفة تعطي الظاهرة أبعادًا تُغيّب جوهرها، على غرار فلسفة “فوكو” التي أعلنت “موت الإنسان”.
وتمثل البنيوية، كما تشير الكاتبة، أحدث الاتجاهات الفلسفية التي وصل إليها الفكر الإنساني، وذلك بعد أن تَعلق هذا الفكر طويلاً باتجاهين رئيسيين: الأوّل موجه نحو الذات المشخصة، حيث يعتبر الفرد أو “الأنا” محور التأمل الفلسفي، والثاني مضاد لهذا التوجه ويهتم فقط بالظواهر المحسوسة، مما أدى إلى ظهور الفلسفة الوضعية والوضعية المنطقية بصورها المتعددة. لكن البنيوية تمثل ثورة على كلا الاتجاهين؛ فهي لا تهتم بالفرد نفسه كما في الفلسفات الوجودية، ولا بالجمع أو “نحن” كما في الفلسفات الاجتماعية. بل تذهب إلى ما هو أبعد، محاولةً الكشف عن باطن الظواهر، أو بمعنى آخر، عن البنية التي تؤسس هذه الظواهر.
وفي إطار تناول أصول النظرية البنيوية، تشير الدكتورة لزرق إلى أن نشوء البنيوية لم يكن مفاجئًا، بل هي تحرك فكري امتد جذوره في عمق التراث الفكري الغربي، الذي كان رافدًا أساسيًا في تشكيل فلسفات الغرب ومناهجه المتنوعة. وتعتبر الكاتبة أن مرجعية البنيوية هي النقطة الأساسية لفهم الظاهرة البنيوية، وإدراك المعادلة الحضارية التي يشكل فيها التراث الفكري الإنساني ركيزة أساسية، خاصة في فترات التحوّل الفكرية التي أثرت في مسار العلم الحديث.
بــين المنهج والـفلـسفــة
وتشير الكاتبة إلى أن موضوع البحث في الكتاب يتعلّق بأصول النظرية البنيوية، معتبرة أن البحث في الأسباب الحقيقية والخلفيات الفلسفية التي دفعت بالبنيوية إلى إصدار أحكامها بشأن الإنسان والتاريخ والفلسفة أمر ضروري. وتُظهر الكاتبة حرصًا على وضع المبادئ التي ترتكز عليها البنيوية على محك النقد الموضوعي، دون إصدار أحكام قطعية بشأن أصولها الفلسفية. بل الهدف، كما توضّح الكاتبة، هو إثارة النقاش وفتح باب التساؤلات التي تمثل محطات بحث رئيسية في الكتاب.
ومن القضايا التي تطرقت إليها الدكتورة لزرق في هذا السياق، قضية تعريف البنيوية نفسها، التي أثارت جدلاً كبيرًا بين العلماء. فالبعض يراها منهجًا في المعاينة وطريقة في الرؤية، ويعتبرها وليدة الدراسات اللسانية الحديثة، بينما ينفي عنها صفة المذهبية أو كونها حركة فكرية أو فلسفية. بينما يرى آخرون أن لها جذورًا فلسفية، تعود إلى الفلسفة الكانتية، ولكن دون أن تتضمن “الذات المتعالية” التي تُعد من ركائز الفلسفة الكانتية. لكن التساؤل الذي يطرحه الكتاب على وجه التحديد هو: إذا كانت البنيوية قد ظهرت كاتجاه للبحث في العلوم، بدايةً من علم اللّغة (اللّسانيات) ثم انتشرت في الأنثروبولوجيا وعلم النفس، فما علاقة ذلك كله بالفلسفة؟.
وفي هذا الإطار، تسلط الكاتبة الضوء على دور اللسانيات في نشوء البنيوية، مشيرة إلى أن اللسانيات قدمت المصطلحات والآليات التي ساعدت على تطبيق البنيوية في مجالات ثقافية أخرى. ومع ذلك، تؤكد الكاتبة أنه لا يمكن تجاهل المناخ الفكري والفلسفي الذي ساهم في نشوء البنيوية كفكرة قبل أن تتحوّل إلى مشروع راسخ في القرن العشرين. وتستشهد بما ذكره الدكتور فؤاد زكريا حول وجود أساس فلسفي تستند عليه الحداثة الغربية، معتبرة أن البنيوية تعدّ من أبرز مشاريع الحداثة الغربية وأكثرها تداولًا في مجال النقد.
وترى الكاتبة أن المناخ التاريخي لنشوء المشاريع النقدية الحداثية في الغرب كان مترابطًا، حيث لم تنشأ هذه المشاريع مبتورة الصلة عن بعضها البعض. بل إن كل مشروع نقدي ظهر كنتيجة طبيعية لتراجع المشروع السائد، مؤكدًا أحقية المشروع البديل. وبالتالي، فإن الوقوف عند حقيقة ما قاله الدكتور فؤاد زكريا ـ الذي اعترف بوجود أصل فلسفي للاتجاه البنيوي ـ يفضي إلى الإقرار بوجود جذور فلسفية أسهمت في ميلاد مشروع البنيوية في القرن العشرين.
وبذلك، تشرح الكاتبة كيف أن البنيوية لم تنشأ في فراغ فكري، بل كانت نتيجة طبيعية لتراكمات فكرية سابقة أسهمت في تشكيلها. وتختتم الكاتبة الكتاب بتأكيد أهمية دراسة الخلفيات المعرفية التي ساهمت في نشوء هذا المشروع، معتمدة على النقد الحواري والمنهج الوصفي التحليلي في رحلة البحث عن أصول النظرية البنيوية.
هندسة الكتاب
تشتمل هذه الدراسة على أربعة أبواب، عنونت الكاتبة الباب الأول منها بـ«البنيوية: المفهوم والأعلام”، حيث بحثت فيه مفهوم “البنية” و«البنيوية” في محاولة لتعريفهما، على الرغم من كونهما “من أصعب المفاهيم التي يمكن إعطاءها تعريفًا موحدًا”، مع إبراز ما يتمتع به المصطلح من خصائص ومميزات. ثم انتقلت إلى توضيح نقطة جوهرية تمثلت في العلاقة بين البنيوية والتاريخ، ثم علاقتها بالفلسفة الوجودية مع إبراز لمظاهر التعارض بينهما. بعد ذلك، تناولت الكاتبة الحديث عن أشهر مؤسسي البنيوية، وهم أعلام متعددو التخصصات الذين أسهموا في بلورة البنيوية وتحديد مبادئها ومرتكزاتها.
وعنونت الكاتبة الباب الثاني بـ«البنيوية بين المنهج والفلسفة”، وحاولت فيه التماس مرجعية البنيوية بغية فهمها وترجمتها في قالب واضح وبسيط، فكان لزامًا عليها تحديد مغزاها أولًا: هل هي فلسفة؟ وهل هي نظرية إبستمولوجية أم طريقة لقراءة الواقع الإنساني وما يتصل به من فن وثقافة وإبداع؟ وقد سعت الكاتبة في هذا الباب إلى دراسة الأسس الفلسفية التي تمد البنيوية والتي كانت أحد أهم الأسباب المفضية لبروزها، لذلك توجهت بالدرس إلى المبحث الأنثربولوجي مع كلود ليفي ستروس وطريقته البنيوية التي استهدفت تحويل الدرس الإثنولوجي من التحليل الفلسفي والميتافيزيقي والدراسة التاريخية إلى المعاينة الآنية أو السانكرونية الهادفة أساسًا إلى اكتشاف البناءات والأنساق التي تتحكم في منطق الثقافة البدائية.
وبحثت الكاتبة في هذا الباب عن الأصول الفلسفية للبنيوية في محاولة للإجابة عن السؤال المركزي: هل البنيوية منهج أم مذهب؟ كما درست البعد الفلسفي في فكر ليفي ستروس باعتباره أحد أشهر مؤسسي أو أعلام البنيوية في القرن العشرين. توصلت الكاتبة إلى استعراض النزعة الكانطية في فكر ليفي ستروس. وكان غرض الكاتبة من هذا العمل النقدي هو الوقوف على المقدمات والممهدات الأساسية التي كانت تقف وراء ظهور البنيوية.
وتناولت الكاتبة في الباب الثالث “الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربية”، ولم يكن هدفها في هذه الدراسة شرح المذاهب الفلسفية الأساسية في الفكر الغربي الحديث، بقدر ما كانت تهدف إلى الوقوف على جوهرها وحقيقة ترابطها البنيوي الداخلي بين هذه المذاهب، وإن بدت في الظاهر تيارات ومذاهب متناظرة ومتناقضة. عادت الكاتبة إلى المراحل الأولى من تكون العلم الحديث، أو ما يسمى بعصر النهضة، وتوقفت عنده طويلًا بالشرح والتفصيل لأهم أسس وأعمدة نتاجات الفكر الحديث وما أحدثوه من انقلاب كوبرنيقي في عصر النهضة، هذا الانقلاب الذي أرسى دعائم الفكر الغربي الحديث، وذلك بعدما تعرفت على مفاهيم الحداثة بشكل عام وعلى الطابع العام للحياة الفكرية في العصور الوسطى. حاولت الكاتبة بعدها الوقوف على أهم الحقائق التاريخية والخلفيات الفلسفية العميقة التي شكلت الوريث الشرعي لأهم مشاريع النقد الحداثية الغربية (البنيوية)، بدءًا من الفلسفة التجريبية على يد “لوك” و«هيوم”، مرورًا إلى الفلسفة العقلية (المثالية) على يد “كانط” و«هيغل” و«ديكارت”، وصولًا إلى الفلسفة الظاهراتية عند “نيتشه”.
وعنونت الكاتبة الباب الرابع بـ«البنيوية في اللسانيات”، واستعرضت فيه ـ بشيء من التفصيل والتحليل ـ أبرز وأشهر النظريات والمفاهيم اللسانية البنيوية، بهدف الوصول إلى حقيقة الدرس اللساني الحديث، واستعراض الأبعاد التصورية والأصول النظرية للمنهج اللساني البنيوي. لتحقيق ذلك، تعرفت الكاتبة على أهم الاتجاهات اللسانية في مرحلة ما قبل البنيوية، بدءًا من القرن السابع عشر إلى غاية القرن العشرين. ثم تعرضت بالشرح والتحليل لأهم المدارس اللسانية – الأوروبية والأمريكية – البنيوية المختلفة في محاولة للمقارنة بين اتجاهات اللسانيات في المرحلتين، بغية التماس الثورة التي أحدثتها البنيوية في لسانيات القرن العشرين، من جهة، وعلاقات التأثر والتأثير بين الاتجاهات والمدارس اللسانية المتباينة من جهة أخرى.
واختتمت الكاتبة منجزها بمجموعة من النتائج والتصورات التي قد تساعد في فهم هذه الظاهرة النقدية البارزة، على أن تتم معالجتها بدقة ووضوح، لأنّ توسع الإجراء البنيوي واجتياحه ميادين الدراسات الإنسانية جعل البحث في البنيوية ليس بالأمر الهيّن، وهذا ما أوجب توفر فضاء معرفي ووعي متعمق بالفلسفات والمناهج الحديثة.