يحاول مواكبة تراكم النـصوص الإبداعيـة

الـنّقد الأدبـي بالجـزائر.. عقود من الـتـأصيـل والتطوّر

أسامة إفراح

النقد الأدبي هو أحد التخصّصات التي تحلّل وتقيّم الجوانب المختلفة للأعمال الأدبية.. ويحاول النقّاد الكشف عن خفايا النصّ وتقييم الجدارة الفنية للعمل، بتفسير الموضوعات والشخصيات والرموز والأسلوب الذي يستخدمه المؤلّف. ولم تتوقّف حركة النّقد بالجزائر عند تيار أو مدرسة أو منهج نقدي بعينه، بل انتقلت في كلّ الاتجاهات، ما قد يؤشر على مواكبة فعلية للمثقّف الجزائري لما يدور حوله.

يعمل النّقد الأدبي على تقديم رؤى حول تعقيدات العمل الأدبي، وكشف الفروق الدقيقة التي قد لا تكون واضحة للقارئ العادي، ويعمّق بذلك فهمنا وتقديرنا للأدب.
ويقول يوسف بن نافلة (جامعة الشلف) إنّه إذا كان النّقد الأكاديمي يميل إلى تفسير النصّ الأدبي بخارجه، أيّ بالظروف المحيطة به، اجتماعية، أو نفسية، أو تاريخية، فقد سمي النّقد الذي مارسه “رولان بارت” ورفاقه بـ«النّقد الجديد”، وأعاد الاعتبار للنصّ الأدبي بالقبض على معناه، واكتشاف بنيته، وسرّه، وكنهه، وجوهره، وهذا يتحقّق بتقاطع اللّسانيات، والبنيوية، والسيميولوجيا، والتحليل النفسي، فتتعايش كلّ هذه المجالات المعرفية داخل عملية التأويل.

تـطوّر الـنــّقد الأدبـي بالجـزائـر

يعتبر صالح جديد (جامعة الطارف) أنّ حركة النّقد في الجزائر لم تتوقّف في مرحلة ما عند تيار أو مدرسة أو منهج نقدي بعينه، بل انتقلت في كلّ الاتجاهات، وهذا التنقّل وتلك الحركية يؤكّدان حقيقة المواكبة الفعلية للمثقّف الجزائري لما يدور حوله، سواء في العالم العربي أو الغربي، من تجاذبات في عالمي الأدب والنّقد.
ويلخّص الباحث تطوّر النّقد الأدبي الجزائري في عدد من المحطات الرئيسية:
 أولا، في مرحلته التقليدية من الاحتلال إلى الاستقلال، لم يخرج النّقد عن القضايا التي اهتم بها النقاد العرب القدامى (اللّغة والبلاغة والمضامين في مفاهيمها التقليدية)، وذلك بحكم المرحلة (الاحتلال وحداثة عهد الاستقلال).
ثانيا، برز النّقد الجزائري في المرحلة التقليدية بصورة واضحة في المقالات النّقدية التي ظهرت في صفحات الجرائد والمجلات الجزائرية والعربية، واحتشام انتشار الكتب المطبوعة لأسباب مالية وفنية كنقص دور النشر والمطابع، زد على ذلك نقص وعي المثقفين في تلك المرحلة بالدور الفعّال للنّقد من منطلقات الأدب الجزائري، والتركيز على الأدب العربي قديمه وحديثه. غير أنّ الصحافة الثقافية كانت نشطة وبفضلها برزت الأسماء التي تعلو تاج النّقد الجزائري.
ثالثا، غلب التوجّه التربوي والتأريخي للنصوص النّقدية على الأبعاد الجمالية والفنية، ويمكن أن نعد نقد هذه المرحلة بالنّقد “الشمولي الهاوي”، عدا أعمال كان أصحابها من أهل الاختصاص أو الأكاديميين.
رابعا، انتقل النّقد في مرحلة الستينيات والسبعينيات إلى النقد المنهجي؛ أيّ القائم على تتبع ظاهرة نقدية سواء بالتنظير أو التطبيق وفق المقولات النّقدية الغربية، وهذه الممارسات ظهرت مع النقّاد الأكاديميين، فأغلب ما ظهر منها هو في حقيقته رسائل جامعية معدّة لنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه ثم قام أصحابها بطباعتها ونشرها، وتم ذلك في الغالب على حساب مؤسّسات الدولة الجزائرية.
خامسا، غلبت موجة النّقد الماركسي والبنيوي على نقد هذه المرحلة إلى غاية تسعينيات القرن الماضي، حيث سجّلنا تراجع العمل النّقدي القائم على الأيديولوجيا إلى النّقد القائم على العلمية، وبخاصّة ما ارتبط منه باللّسانيات بكلّ أنواعها.
سادسا، ظهر جيل من النقّاد الجزائريين الشباب الساعين للتحكّم في فلسفات المدارس النقدية ومناهجها، وبخاصة الغربية منها، ومحاولة استثمارها في النص والنقد الجزائري.
وفي دراستها للنّقد الأدبي الجزائري الحديث، نوّهت صباح لخضاري (المركز الجامعي النعامة) بجهود رواد النّقد في الجزائر الذين بحثوا عن منهج نقدي جزائري، وكان هذا النّقد متشبّعا بالعديد من المشارب النّقدية العربية والغربية، خاصّة منها النّقد الاجتماعي لأنّه كان يساير الأوضاع السياسية الوطنية والعالمية في تلك الآونة.
وبعد ما أسماه مصايف “النقد التأثري” الذي عرفته الجزائر، وهو النّقد الذي واكب تطوّر النّقد العربي عموما، والتجديد في الإبداع العربي نتاج التأثر بالتيارات الأدبية والنّقدية الغربية (التي جعلت الذّات الإنسانية قطب اهتمامها)، التفّ جلّ الأدباء والمهتمين بالدراسات الأدبية بالمنهج الاجتماعي أو المنهج الواقعي الذي تفرّع أنصاره إلى منهج الواقعية القومية ومنهج الواقعية الاشتراكية، وتقول الباحثة إنّ سبب هذا الالتفاف، الظروف الاجتماعية والسياسية في الجزائر، إذ كان هذا المنهج أقرب للمبدع في التعبير عن هموم وطنه وشعبه الذي يعاني من نير الاستعمار، ليزداد ترسّخه في الجزائر بعد الاستقلال لتأثير الإيديولوجيا السائدة آنذاك، لتصبح وظيفة الأدب وظيفة اجتماعية، لكن مع عدم نسيان الذات، إذ هي في علاقة جدلية مع الواقع والمجتمع وهي التي تعبّر عنه بتآلفها مع الذوات الأخرى داخله.
ونتج عن هذا ما سمي بـ«أدب الالتزام” الذي كانت الحرية - هو الآخر - شريعته وديدنه، وهي الحرية التي يعتبرها الكيبي “ضرورية للأديب”، مضيفا أنّ “الفنان الصادق هو الذي ينطلق في التعبير من أصالة فكره واقتناعاته”.

إشكـالــيــة المنهج

يشير كلّ من محمد رندي وعلي ملاحي (جامعة الجزائر2) إلى ريادة عبد الله الركيبي في تطبيق المنهج التاريخي في النقد الجزائري، من خلال مؤلّفات له على غرار “تطوّر النثر الجزائري الحديث”، و«الشعر الديني الجزائري الحديث”، وبالأخصّ “القصّة الجزائرية القصيرة”. كما يعتبر محمد مصايف علامة فارقة في النّقد الأدبي السياقي الجزائري، فهو “شيخ النقّاد الذي تتلمذ على يده كثيرون (...) رغم امتناعه عن حقيقة المنهج الذي يتوسّله، وهو المنهج الاجتماعي”، وهو ما تجلّى في أعماله، خاصّة “دراسات في النّقد والأدب” و«النثر الجزائري الحديث”. وهو المنهج الذي وظّفه بعده عمار بلحسن، ومحمد بوشحيط، وواسيني الأعرج، ومخلوف عامر. أما أحمد حيدوش، فقد امتاز بتوظيف المنهج النفسي، وتبعه عبد القادر فيدوح وزين الدين المختاري وغيرهما.
بالمقابل، لاحظت صباح لخضاري أنّ هاجس التأصيل لنقد جزائري عربي بدأ يظهر في الجزائر مع عبد الملك مرتاض منذ الثمانينيات، بعد أن حاول هضم التراث العربي والاطّلاع على النّقد الغربي، وعبد الملك مرتاض من جيل النقّاد الأوائل، عمل جاهدا على إسماع صوته، وإحراز مكانة مرموقة بين النقّاد العرب مشرقا ومغربا. وهو يتميّز أيضا بمنهج شمولي، إذ لا يؤمن بمنهج واحد في الدراسة النّقدية، بل يعتمد منهجا تركيبيا مفتوحا على مجموعة من المناهج التي يراها فعّالة في استنطاق النصّ وتفكيكه، لذلك نجده يجمع بين الآليات النّقدية العربية القديمة والإجراءات الغربية الحديثة، حتى اتّهم باللامنهج، مع العلم أنّه على دراية تامّة بهذا المزج والتركيب بين المناهج في أعماله النّقدية، فقد تبنّى إستراتيجية اللاّمنهج ودعا إليها منذ إصدار كتابه “النصّ الأدبي من أين؟ وإلى أين؟” عام 1983، وأدّى به المزج بين المناهج إلى تبنّي استراتيجية القراءة بدل اعتماد مصطلح النّقد، فهو يعدّ نفسه مجرد قارئ محترف، لذلك كان النّقد عنده مجرد قراءة شخص محترف لنصّ أدبي ما، والأدوات التي يصطنعها في فهم النصّ أو قراءته أيّ تأويله هي التي تحدّد معالم التحليل الذي ينشأ عـن مسعاه الأدبي. وتبقى الآليات النقدية عند عبد الملك مرتاض، كيفما كانت فاعليتها في استنطاق النصّ، مجرد وسيلة لفهم النصّ وتذوّقه وليست غاية في حدّ ذاتها.
وخلصت لخضاري إلى أنّ الإيمان بشمولية المنهج النّقدي، والاحتراز من استخدام منهج معين في الدراسة الأدبية، وعدم تحديد المقاييس النّقدية وتركها مفتوحة، والمزج والتركيب بين العديد من المناهج قديمها وحديثها، من خصوصية الناقد الجزائري “الذي يمقت حبس نفسه في سياج منهج معين، بل يترك نفسه حرّا طليقا لممارسة العملية النّقدية”.
وأضافت أنّ السمة الغالبة على النّقد الجزائري عدم التمكّن من تحديد منهج معين لنقّاده، لأنّ أغلبهم يؤمن بحرية النّاقد في الممارسة النقدية التي يركب فيها بين العديد من المناهج، إلا أنّه لا يمكن تجاوز ذكر بعض المحاولات النّقدية التي عملت على تطبيق صرامة منهج معين في دراستها مثل أعمال بورايو ورشيد بن مالك التي طبّقت المنهج السيميائي.

الـتــأسـيـس لدرسة نـقديـة جزائريـة

ينقل عتاوية بن عطوش (جامعة سيدي بلعباس) رأي مخلوف عامر القائل بأنّ الزخم التراكمي في الإنتاج الأدبي يقابله تخلّف في الحركة النّقدية، وسبب هذه المفارقة يرجع إلى الحركة البطيئة للنّقد، وعزوف الذين يدرسون الأدب عن النّقد مفضّلين الكتابة الإبداعية شعرا أو نثرا، والحظ الأوفر كان للرواية، ويضيف أنّ التجربة النّقدية في الجزائر تبقى بحاجة إلى تطوير رغم وجود بعض النقّاد أمثال المرحومين محمد مصايف وعبد الله ركيبي اللذيْن واكبت تجربتهما فترة معيّنة، مشيرا إلى وجود أعمال أدبية روائية واكبت الإنتاج العربي والعالمي بحاجة إلى أقلام نقدية تخدم الحركة الإبداعية الروائية بالجزائر، وأثنى على جهود بعض الأقلام المميّزة من أمثال السعيد بوطاجين وآمنة بلعلى..
كما يستأنس بن عطوش بما قال حبيب مونسي، حين اعتبر أنّ الدرس النّقدي لم يؤثر في الرواية، ولم يصنع فيها توجيهات وتيارات، ولا هو غيّر من أفق المبدعين من خلال التقييم والتقويم.. لأنّ الملاحظ اليوم هو استمرار المبدع في مضماره يسير أماما لا يلوي على شيء وقد سدّ أذنيه أمام الأصوات الباهتة التي تأتيه من اجتماعات المقاهي والجلسات الخاصّة. واستمرّ الدارس ـــ هو الآخر ـــ خاضعا لصنمية منهج لا يعرف عنه إلا بعض تجلّياته الأدبية بجريه هنا وهناك بنفس الطريقة، فيكرّر نفسه في كلّ محاولة حتى غدت كثير من الدراسات تتشابه في عناصرها ولغتها وخططها.
ويؤكّد مونسي أنّ “النّقد الذي لا يقتل ولا يحيي هو النّقد البارد الفاتر.. هو ذاك الواصف الذي يتدجّج بمناهج واصفة أفرزتها الحداثة الغربية. هذا النّقد يركن إلى الوصف المحايد الذي يعجز عن التفرقة بين نصين من حيث القيمة الجمالية والفكرية، وغدت كلّ النصوص صالحة لأن تكون موضوعا للدراسة.. فالمناهج الواصفة لا أمام أصحابها فرص التدبّر الفكري في المسائل المطروحة.. ولا يهمها ما يقوله النصّ.. ولماذا يقوله؟ وإنّما المهم عندها هو الكيفيات التي يقول بها النصّ أشياءه.. ومن ثمّ فليس المهم جديد الفكرة أو فرادتها، أو تميّزها وإنّما المهم أن تكون قولا قيل بكيفية معيّنة، لأنّ الدارس لا يجرأ على أن يصدر في شأنها حكما أو أن يبدي فيها رأيا”.
وخلص بن عطوش إلى أنّ المشكلة تكمن في عدم قدرة الباحث على مناقشة الأفكار، ولكن الأدب يبشّر بالخير ما دامت الساحة النّقدية تعجّ بقراءات وتحليلات للنصوص الإبداعية باختلاف أجناسها، وخاصّة في مجال الرواية التي تشهد تراكما كميا وكيفيا في الساحة الأدبية.
من جهته، لاحظ صالح جديد أنّه رغم وجود العديد من دور النشر والطباعة، إلا أنّ كثيرا من الأعمال النّقدية الجادة والأكاديمية لم تر النور بعد، ومازالت حبيسة رفوف المكتبات الجامعية. كما لاحظ انحسار الاهتمام الإعلامي بحركة النّقد، إلى جانب “غياب رؤية واضحة من قبل نقّادنا للتكتّل في مؤسّسة رسمية تجمع شملهم وتوحّد كلمتهم”، و«انغلاق حركة النّقد على النخب والأكاديميين والجامعيين وعدم القدرة على الانفتاح على المتلقين بمختلف ثقافاتهم ومؤسّساتهم”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024