أكّد محمد جديدي أنّ الأخلاق ليست المدخل الوحيد لتناول الذكاء الاصطناعي من زاوية فلسفية. وأشار أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة إلى طرحين سائدين: أحدهما متفائل بمستقبل البشرية بفضل تقدّم الذكاء الاصطناعي، وآخر متشائم من هيمنة الآلة على الإنسان بفعل تخلّيه عن جزء متزايد من إنسانيته لصالح الآلة. وخلص جديدي إلى أنّ الهدف النهائي في هذا التقدّم التقنو-علمي سيكون «البحث عن التحكّم في التحكّم».
تطرّق أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة، محمد جديدي، إلى النقاش الدائر حول الذكاء الاصطناعي وأثره على مستقبل الإنسانية، والكتابات والنقاشات والمنشورات التي توالت مؤخرا حول الذكاء الاصطناعي، منذ بروزه كظاهرة جديدة (مع أنّها ليست جديدة إذ تعود لعقود تقارب خمسين سنة على الأقلّ) وانتشاره على نطاق واسع في وسائل الإعلام والتواصل، وكذا الاهتمام الكبير في مجال البحث الأكاديمي، ومنه الفلسفي الذي اختصر في الغالب في جانبه الأخلاقي.
بيد أنّ الأخلاق (وحتى لا نقع في التضليل الأخلاقي) ليست هي المدخل الوحيد لتناول الذكاء الاصطناعي من زاوية فلسفية، ولا يمكن حصره في هذه الزاوية الإتيقية، وإن بدت هي الأهم؛ ذلك أنّ مقاربة موضوع الذكاء الاصطناعي ممكنة عبر نوافذ فلسفية وميتافيزيقية ووجودية لا تقلّ أهمية عن المنظور الأخلاقي.
هذا بالضبط ما سعى محمد جديدي إلى تبيانه في مداخلة عنوانها «ألا يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي سانحة أخرى للبشرية؟» قدّمها الأكاديمي الشهر المنصرم، ضمن ندوة نظّمت في إطار المؤتمر العالمي للفلسفي بروما، أين عقدت مائدة مستديرة تناولت الذكاء الاصطناعي خارج المسألة الأخلاقية. وحمل التساؤل في عنوان المداخلة بذور تفاؤل وتحميل الحقيقة أوجها أخرى غير السائدة، «وتلك مهمة الفيلسوف في التنقيب عن ملامح الحقيقة في غير ما هو معطى وعدم مسايرة المتاح».
ويقترح جديدي النظر للذكاء الاصطناعي من زاوية مخالفة غير التي اعتاد الخطاب الفلسفي الأخلاقي تقديمها والترويج لها، بالتحالف مع توجّهات خطابية منسجمة في ترديد خطاب الكارثة والاستثناء الإنساني والتفوّق الأبدي للإنسان. إذ قد تتعدّد مداخل الذكاء الاصطناعي – فلسفيا - من جهة أنطولوجية أو كوسمولوجية، وأخرى حضارية، وثالثة سوسيو-ثقافية، ورابعة أنثربولوجية، وهكذا تتنوّع المقاربات وتتباين، لتصبّ - في النهاية - في النظر والتحليل لظاهرة تكنولوجية علمية ميّزت راهن الإنسان، وألقت بظلالها على واقعه اليوم، ففرضت عليه التعامل معه والالتفات إليه كجزء لا يتجزأ من الحقيقة الإنسانية الحالية في أبعادها المختلفة.
هنا يتساءل جديدي: لماذا لا ينظر للذكاء الاصطناعي كمنتج بشري مثل غيره من المنتجات الثقافية والعلمية والتكنولوجية، على أنّه فرصة أخرى في تاريخ الإنسان، بدلا من اعتباره خطرا يهدّد الإنسان ومصيره؟ ألا يكون الذكاء الاصطناعي بمثابة المرآة التي يتحدّد معها لقاء الإنسان بالآلة في صورة متقدّمة ومتجدّدة؟.
ويلاحظ جديدي أنّ الذكاء الاصطناعي فرض على واقعنا ممارسات وتطبيقات تسرّبت إلينا تدريجيا وبلطف، من دون أن نعي حجم أثرها وتأثيرها على سلوكاتنا، ومن دون أن ندرك مدى التغيّر الذي طرأ على تعاملاتنا فيما بيننا كبشر من جهة، وفيما بيننا وبين الآلات من جهة ثانية.
لهذا، يحتّم علينا الذكاء الاصطناعي من خلال بروزه المكثّف، الذي انتشر به قبل سنة تقريبا، التساؤل فلسفيا حول مآلاته ومستقبل الإنسانية إذا ما تعمّم استخدامه. فهل سيكون التخوّف من فرط استعماله مشروعا، أم إنّ ذلك مجرد هاجس غير مبرّر؟ ومن الأسئلة الفلسفية العميقة التي ستظلّ تلازمنا ضمن جدلية الإنسان والآلة، ونحن نرى وننتظر ما يعدنا به خبراء التكنولوجيا والبيوتكنولوجيا: ما هي مكانة الإنسان على السلم الكوني وهو يشهد في بدايات الألفية الجديدة تراجعا أنطولوجيا لصالح الآلة؟ وهل سنقف على نهاية الإنسان وموته؟ أيّ هل ستكون هذه النهاية هي الديستوبيا التي لم تكتب بعد؟ أم إنّ هذه التصوّرات والأفكار هي مجرد تخيّيلات وتوهّمات لا أساس لها من الصحة وأنّها مجرد ترويج لنهايات غير مرتقبة من طرف الذين يشيعون خطاب الكارثة؟
يعتبر جديدي بأنّ العاقل، الذي سيتأمل بجدية وموضوعية محاسن الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في الميادين المختلفة (الصحة، التعليم، الفلاحة وأخرى) ويوازنها بما قد ينتج عنها من مساوئ، سيقف على أهميتها وفائدتها الجمّة لصالح الإنسان والإنسانية جمعاء. ويدعو بعض المحلّلين والخبراء إلى التريّث والتأنّي في إصدار أحكام عاجلة ومستعجلة بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي وتطوّر هذا الاستخدام، وأنّه من السابق لأوانه البتّ بشكل قاطع ونهائي حول ما بلغته البشرية اليوم مع تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعميم استعمالها، فقد تعلّمنا من درس التاريخ أنّ كلّ فكرة جديدة أو نظرية علمية أو تقنية مستجدّة إلا وجوبهت في بداية أمرها بالنقد والاعتراض، بل والمنع أحيانا، لا لشيء سوى أنّها أمر غير مألوف، وككلّ الأشياء غير المألوفة تجد احتجاجا عليها، كذلك الذكاء الاصطناعي الذي يعتبر جديدا نسبيا (مع أنّ إرهاصاته تعود إلى أزيد من 70 سنة مع ألان تورين) بيد أنّ انكشافه الأخير على نطاق أوسع للجمهور جعله يبدو في صورة مستجدّة.
وفي ظلّ تباين المواقف حول الذكاء الاصطناعي نجد أنفسنا أمام طرحين على الأقلّ: أحدهما متفائل بمستقبل الإنسان في ظلّ تقدّم سريع للذكاء الاصطناعي، ولا يخشى من هيمنة هذا الأخير حينما يستخدم بحكمة وتبصّر لصالح الإنسانية، بل إنّه فرصتها في بلوغ تقدّم أعلى وأرقى تحقّق لها في ظرف وجيز ولم تحصل عليه على مدى قرون، وإن مثلت أرضية هذا الازدهار. وآخر متشائم من تقهقر في الطبيعة الإنسانية جرّاء زيادة هيمنة الآلة على الإنسان وتعميقها أكثر بفعل تخلّ واعٍ من الإنسان عن جزء يكبر في كلّ مرة من إنسانيته لصالح الآلة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لتسارع الابتكارات التي كشفت عنها التكنولوجيات مؤخرا وأهمها تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي مسّت جميع قطاعات ونشاطات الإنسان. لذلك، من الصعب اتخاذ القرار عندما نواجه معضلة قديمة قدم الإنسانية، وهي معضلة تحديد متى يتعلق الأمر بمبارزة بين الإنسان والآلة. وبينما يشعر ميغيل بيناساياغ (Miguel Benasayag) بالقلق من التحوّل الرقمي السريع للعالم الذي يلحق الضرر بأدمغتنا، يثق جيل دويك (Gilles Dowek) في الإنسان لتحقيق أقصى استفادة من الأداة التي ابتكرها.
وكلّ التخوّف، المشروع طبعا، يقبع في القدرة على التحكّم إذا أوكل هذا التقدّم إلى الآلة، فإنّ مفاتيحه ستكون بيد التفرد (La singularité) وهي المرحلة التي تخطّط ما بعد الإنسانية لبلوغها، حينها يصير التخوّف مشروعا ومبرّرا، ويكون موقف رائد البيوإتيقا فان رانسيلاير بوتر مؤسّسا، إذ يصبح الهدف النهائي في هذا التقدّم التقنو-علمي هو البحث عن التحكّم في التحكّم كحكمة جديدة.