الـنقـد الذاتي ضـروري لـتميــّز الكاتب.. والتأمل مع القراءة عاملان مهمــّان لـ ”الإلهـام”
مهنة الــكتابة تـفرض الـتعامل معها بـاحـترام والتزام وظـيفـي
حـين تـكون الكتابـة صناعة.. ينبغي أن تحترم السوق التي تتوجــّه إليهـا
الـتفكير الإبداعي.. عضلة يجب على الكاتب أن يمرّنها يوميـا
نـعرف قدر الكاتب بعدد الصفحات المـتلفة وليس بعدد الصفحــات المنشورة
القول إنّ اللغة عنصر غير مهم في الـرواية مثل الــقـول إنّ الـنوتـات غير مهمة للموسيقي
معظــم الاستحقاقات التي يحصل عليها الكتــّاب.. مجرّد مجامـلات
أكّدت الدكتورة نسيمة بوصلاح أنّ الأعمال الأدبية توصف بكونها أدبية بقدر ما يتحقّق لها من فنية، وأشارت في حوار مع “الشعب” إلى أنّ الفكرة هي بذرة كلّ عمل فني، وهي ما نسميه في السرد المستوى المنطقي للدلالة الذي تنحلّ إليه كلّ المستويات الخطابية، وأضافت أنّ الكتابة الفارقة التي تستطيع جمع القراء حولها من مختلف أنحاء العالم، هي كتابة “فوق معيارية”.
- الشعب: ماهي المعايير التي تجعل الكتابة عالمية؟
الدكتورة نسيمة بوصلاح: الكتابة المدهشة عادة ما تكون منفلتة من المعيار، منزاحة عنه ومفارقة له، لذلك فالمعايير والقواعد والضوابط والحدود يتبناها كتّاب مبتدئون أو مسالمون للمعيار القديم، وعادة ما يجد هؤلاء أنفسهم في صراع دائم مع التيارات التجديدية.. أما الكتابة الفارقة التي تستطيع جمع القراء حولها من مختلف أنحاء العالم فهي كتابة “فوق معيارية” حتى لا يفهم من قولنا منفلتة من المعيار أنّها غير خاضعة له.. كي أصنع كرسيا علي أن أتقيّد بالقواعد التي تجعله ثابتا على الأرض ومريحا ووظيفيا، وكي أصنع كرسيا جميلا وفارقا علي أن أحقّق هذه المعايير وأضيف عليها اللمسة الجمالية التي تجعله مختلفا. قد يبدو هذا المثال بسيطا لكنّه يجيب دائما عن الأهمية الوظيفية للأعمال الفنية، لذلك قلت إنّ الكتابة الفارقة كتابة فوق معيارية.. إذا أردنا أن نتحدث عن المعايير دعينا نحوّل السؤال تجاه الكاتب..
- ما هي المعايير التي ينبغي على الكاتب الذي يملك فرصة كي يكتب عملا عالميا، أن يلتزم بها؟
المعيار الأول والأساس الذي نفتقده في عالمنا العربي، هو أن يمتهن الكتابة، أن يعاملها باحترام والتزام وظيفي وأن يذهب إلى الكتابة بثياب العمل، وأن يوظف من يساعده.. المحرّر الأدبي مهنة مفقودة عندنا في العالم العربي، وليس ثمّة من يدفع لقاء الحصول على تدقيق لغوي لأعماله.. لذلك لا تزال الكتابة تراوح مكانها في العالم العربي بوصفها (هواية) لا (صناعة).
إذا ما تجاوز الكاتب فخّ أن يكتب في بيته في لحظاته الحميمة فقد قطع شوطا كبيرا في الاتجاه إلى أخذ الكتابة مأخذا جادا. ما يساعد الكتاب في البقاء على قيد الإبداع اهتمامهم بالتفكير الإبداعي، التفكير الإبداعي عضلة على الكاتب تمرينها كلّ يوم ليس شرطا أن تكتب، لكن تمرّن يوميا.
التأمل والقراءة عاملان أساسيان من عوامل الحصول على الإلهام كذلك، فقد عرف علم النص، النص بأنّه ما تنكتب فيه القراءة.. لكن ليست كلّ الإلهامات التي نحصل عليها قابلة للنشر، تعرف قدر الكاتب بعدد الصفحات التي أتلفها وليست تلك التي عرفت طريقها إلى النشر، فالنقد الذاتي عملية حيوية جدا لتميّز الكاتب وفرادته.. “أن تكون رقيبك”، سلوك اجتماعي لم نتربّ عليه، دائما ثمّة سلطة ما نأخذ منها اعترافا بالاستحقاق، السلطة الأبوية وسلطة المدرسة وسلطة مدير العمل والسلطة المجتمعية والدينية والقانونية.
والكاتب العربي عموما والجزائري بشكل خاص يعاني من هذا الأمر، ينتظر اعترافا بالاستحقاق من المحيطين، وغالبا ما يكون هذا الاستحقاق غير حقيقي ومجاملاتي، ويلغي رقابته الذاتية على ما يكتب. لذلك ففي المرات النادرة التي يواجَه فيها عمل ما بالرفض من طرف جموع القراء يجد الكاتب صعوبة بالغة في تقبل ذلك بل يسجّل الكتاب ردّات فعل ممتعضة قد تصل حدّ اتهام القراء بالجهل والمصادرة والظلامية.
- كيف تتعامل الرواية مع اللغة؟
هناك صرعة جديدة تبرر للغة السيئة في بعض الروايات، بأنّ اللغة عنصر غير مهم في الرواية، وطبعا هذا الطرح غريب وغير واقعي، فإذا كانت القصة في علم السرد هي مجموعة الأحداث كما وقعت أو كما يجب أن تقع، فإنّ الرواية هي هذه الأحداث مروية عن طريق اللغة .
هل هناك من يجرؤ على القول إنّ النوتات غير مهمة في الموسيقى؟ أو الألوان والظلال والخطوط غير مهمة في الرسم، أو الحركات غير مهمة في الرقص؟! هذه هي القناة التي ستوصل قصتك لقارئها، لذلك فالعناية بها وإتقانها وجعلها تؤدّي وظيفتيها التواصلية والجمالية أمر لا يملك أيّ روائي الخيارَ في الاعتراض عليه، اللغة الرديئة في الرواية تدلّ على أنّ كاتبها تنقصه الاحترافية.
- هل أنت مع أم ضدّ الكتابة بالعامية؟ ولماذا؟
أنا مع الكتابة الجميلة.. كثيرون يعتقدون أنّ العامية هي تردٍّ فني، ولكن لسانيا العامية هي مستوى لهجي من لغة فصيحة ينطبق عليها في الإبداع ما ينطبق على اللغة الفصيحة، وقد سَرَدت كثير من العاميات العربية السير الشعبية والملاحم وكانت أعمالا خالدة.. لست ضدّ العامية، لكنّني ضدّ اتخاذها درعا واقيا عندما يعجز الكاتب عن كتابة رواية بلغة عربية سليمة.
- وهل أنت مع أو ضدّ المعالجة الأدبية والفكرية للطابوهات؟
لا أحد من حقّه أو بإمكانه محاربة الأفكار في الفن، أنا ابنة الأدب الشعبي، وهو سيد المسكوت عنه، والتابو بامتياز.. لا يمكنني أبدا أن أحارب هذا النوع من الطروحات، ولكنني ضدّ أن يقدّم بابتذال وبشاعة.. الأعمال الأدبية توصف بكونها أدبية بقدر ما يتحقّق لها من فنية.
كيف تقاس فنية العمل؟ بمفارقته للمعيار بزاوية تصنع جمالا، ما هو المعيار بالنسبة إلى الرواية؟ هو قصتها والقصة كما ذكرنا سابقا هي الأحداث كما وقعت أو كما يجب أن تقع، تنتقل هذه الأحداث كي تصنع عملا سرديا جميلا، إذا اشتغل كاتبها على زاوية المفارقة على الإعتام والقطع والحذف.. المجتمع سيد فيما يقبل، وسيد فيما يرفض، والكتابة بوصفها صناعة يجب عليها أن تحترم السوق التي تتوجّه إليها.
- في تقديرك.. ما قيمة الرؤية الفكرية كمحور للعمل السردي؟ هل مشكلة التعامل مع الأعمال الأدبية هي مشكلة قارئ أم مشكلة كاتب؟
الفكرة هي بذرة كلّ عمل فني، وهي ما نسميه في السرد المستوى المنطقي للدلالة الذي تنحلّ إليه كلّ المستويات الخطابية.
في النهاية مهما طال الخطاب الروائي وتشعّب وكثرت أحداثه وبرامجه السردية، سينتهي إلى مقولة “معنمية” قوامها ثنائية ما (خير/شر، حرب/سلم، حب/كره، نور/ظلام…) إذن، لا وجود لأيّ فني عموما وسردي خصوصا دون رؤية فكرية إذا عجز الكاتب عن إيصالها، فهو كاتب متخبط، ولا يمكننا بأيّ حال من الأحوال أن نلوم القارئ، لأنّ القارئ ليس فردا.. نعم فعل القراءة فردي، لكن إذا أجمع فعل القراءة لدى مجموعة كبيرة من القراء على أنّ ثمّة إشكال ما في العمل، لا يمكننا - بأيّ حال من الأحوال - أن نمارس الإعماء وذر الرماد في العيون ونلوم القراء.
أنا كاتبة، ولكنّني مع القرّاء ضدّ الكاتب، ومعلمة، ولكنّني مع الطلاب ضدّ الأستاذ، إذا تعطلت الرسالة لديك بوصفك منتجا للخطاب، فإنّ الإشكالية لديك وليس لدى المتلقين.
على الكتّاب الذين يثورون تجاه أيّ انتقاد لأعمالهم، أن يستوعبوا هذا الأمر جيدا، وأن يحاولوا تفعيل “الرقيب الذاتي”، لأنّ أغلب ما حصلوا عليه من استحقاقات لحدّ الآن، ليس حقيقيا كما ذكرنا.