المعنـى يـكـتـمـل فـي كـل شـطـر مـن القـصيدة
يعتبر “تيسيواي” أو “الشعر” عند مجتمع إيموهاغ ظاهرة ثقافية فريدة من نوعها، رافقته منذ تواجده عبر مختلف الأزمنة والعصور، فكان وسيلته للتعبير عن مكنوناته وأرائه، فأبدع وتفنّـن في قوله بمختلف ألسنتهم، ليشكل بذلك العديد من القصائد.
قصائد تُصنف ضمن الزخم الكبير والمتعدّد الذي يزخر به التراث اللامادي للمجتمع التارقي، جعلت عدد من المهتمين به على قلتهم السعي للحفاظ عليه، من خلال دراسته والوقوف على كل ما يتعلّق به على مدى تاريخه الطويل، نظرا للأهمية التي يكتسيها في جميع مجالات حياة مجتمع الإيموهاغ..
يقول الباحث في التراث الثقافي للمنطقة مولود فرتوني، في تصريحه لـ«الشعب”، إن الأمر الذي يشدّ انتباه دارس الأدب التارقي أنه أدب شفوي في جميع ألسن لغتهم (تماهاق، تماشاق، تمازغ) وحروف هذه اللغة تسمى تيفيناغ، وهي أبجدية نظيفة يرجع وجودها إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد تقريبا.
يضيف المتحدث، بخصوص ماهية مصطلح الشعر، فيؤكد في لسان لغة التوارق لا وجود لمصطلح يقابله، ولكن هناك مقابل لمصطلح القصيدة، والتي تقابلها كلمة (تساويت) كلفظة مفردة، وجمعها (تيسيواي) وهي بمعنى قصائد أي “أرسل لذلك”، قيل للقصيدة (تسساويت) بمعنى المرسلة.
وكمثال على ذلك يستدل مولود فرتوني، بقول الشاعر أخمدو أوسوك، الذي يقول بالتارقية “تسساويت كمت تكات هانيت أولهين دزكريات”، أي بالعربية (القصيدة المرسلة لك فيها قلبي وذكرياته)، وقد سميت القصيدة “تسساويت” لأنها ترسل في الأغلب الأعم عن طريق راوية، ولهذا يضيف إذا ما نظرنا لتقصيد القصيدة نجد أنها تعتمد على نظام الشطر الواحد لأن المعنى يكتمل في كل شطر.
في نفس الصدد، تطرّق مؤلف رواية “سرهو”، إلى تعريف عدد من المصطلحات المرتبطة بالشعر، على غرار مصطلح الشاعر التارقي هو (أمسيواي)، وبيت القصيدة يسمى (إهن أن تساويت) وكلمة “إيهن” قديما وحديثا تطلق على الخيمة، وحاليا تطلق على البيت أو الدار، بينهما الأبيات الأقل من سبع أبيات تسمى “أظل”، أما فيما يخصّ المصطلحات المرتبطة بالشعر كفن أو علم له أصول، فهذا أمر يؤكد المتحدث لا تقبله سجية التارقي لأنه يتعاطى الشعر كأي فن من فنون الحياة وهو أسير للشفهية مثل أي فن في الحياة التارقية على امتداد تواجد التوارق بل كل علم عندهم هو على حدّ قول أحدهم بهؤلاء الناس لما سئل عن كتاب علم التوارق قال: “الفظن الكتاب نسن” (أن كتاب علمهم قد ابتلعوه).
فالشاعر يقول مولود فرتوني، هو حسب رأي الشاعر لحسن مادية رحمه الله “إما هو من يبدع القصيدة أو من ينقلها عن مبدعها” كما نقل عنه: “أن الشعر هو حمال لغة” وفي حوار أجري معه يتحدث عن “برجغلو” شاعر من قبيلة “إسقامرن” عاش زمن الأمانوكال موسى أق امستان، قال “عندما أستمع إلى شعره أعتقد أن اللغة التارقية انتهت عنده”.
لــغـة “تسـيـواي”.. واللغـة الـعـادية
يؤكد مؤلف كتاب “الشعر عند إيموهاغ كممارسة ثقافية”، أن من الأمور التي تشدّ الانتباه “أن اللغة الشعرية عند التوارق تظهر مختلفة عن اللغة العادية ذلك أن أي تارقي بسيط يمكنه أن يتفطّن أنه أمام لغة تختلف عما يتحدث به، والذي يجعله يتفطن لذلك كون التارقي أولا وقبل كل شيء متحدث بارع”.
فالشعر عنده يضيف مولود فرتوني من أهم مكملات اللغة، وإن كانت اللغة العادية لا تخرج عن الاستعمال العادي للألفاظ، إلا أن الشاعر التارقي هو إنسان متفتح على كل ما يدور في مجتمعه من مصطلحات، وهو يستعمل العربية والفرنسية إلى جانب التارقية، أحيانا فيقوم بتحوير اللفظة وينطقها حسب ما يبتغي وحسب ما تسمح به لهجته، كما أن القصيدة لا تتأثر بالتكرار، بحيث نجد لفظة عربية وأخرى تارقية مترادفتين في تركيب شعري كأن يقول: “بايس يقور” و«يقور” ماهي إلا تكرار للفظة “بايس”، بيد أن اللغة الشعرية لها سمتها التي تزاوج بين الألفاظ كلغتين مختلفتين، مضيفا أن هذا التلاقح يعود إلى أن اللغة التارقية تعيش إلى جانب اللغة العربية وذلك ظاهر في شعر الشاعر “أفني أق أكي” الذي يقول في “إميدوين اصخبيات”، والمعنى “أصدقائي يا أصحابي”.
وأضاف أن ما يلاحظ في المقطع مزج اللغة العربية من خلال كلمات (الصحابيات) مع كلمات العربية، وأحيانا يفعل ذلك من أجل جبر خلل وزني متوقّع في المقطع الشعري هو ما يلاحظ في قصيدته عندما يقول “نكو مخبوس” أي “أنا محبوس”، وخاصة في المقطعين “يا لخالقو أتقعد قوم”، والمعنى “أيها المخلوق انهض وقم”.
ويتجلى في هذا المقطع المزج بين اللغة التارقية واللغة العربية واللهجة الدارجة، وذلك من خال كلمات: (الخالقو، اتقعد، قوم)، ونجد الشاعر يقوم بترتيب الكلمات مثلما فعل في المقطع الثاني لغاية وزنية، كما لا يهتم بدلالتها بالعربية بقدر ما يكفيه منها توصيل المعنى الذي يريده الشاعر وهي سمة في قصائد هذا الشاعر خاصة.
”تـسيـواي” وفـنون الـغـنـاء
يرى صاحب كتاب “الأنكوفي”، أن من مظاهر الاحتفاء بالفارس والشاعر عند العرب هو ذاته وبنفس الحدة ما نراه عند التوارق، قائلا: “فالشعر في هذه يلازم الفرد من فترة المناغاة إلى فترة الشيخوخة، نحن نرى أن الطفل لما يزداد تستقبله القابلة بزغرودة موشحة بأغاني بها سمات شعرية”.
وأضاف أنه في فترة طفولته الأولى يهدهد بمقاطع شعرية تعرف بـ«إسيوضاص” أي (أغاني ما قبل النوم)، ولما يشتد عوده يجد نفسه يرقص على تهويهات “إسوات” و«اجاقمي” بنوعيه “إدغندغ، السريع” و«تقرقاس، الثقيل” وهذه الرقصات كلها تستند إلى مقاطع شعرية مأخوذة من قصائد، والمقطع لما يؤخذ من القصيدة يسمى “أظلي” ويجمع على “إظلان”، وقد يشتهر المقطع دون قصيدة وينتقل بين الأقطار، بينما أحيانا يجمع المقطع على آخر خاصة في أغاني “التيندي”.
ويشير المتحدث إلى أن أهم ما يتناوله المقطع الشعري لا يخرج عما تتناوله القصيدة في عمومه، فهو في الغالب يتحدث عن أخلاق التوارق وعن عاداتهم وحبهم وكراهيتهم وعن سلمهم وحربهم وحلهم وترحالهم.
في نفس السياق، يقول مولود فرتوني “إن القصائد التي احتوتها تواشيح التيندي بكل إيقاعاتها ورناتها تظل علامة فارقة، لما عرف عن الأمم الأخرى من فن، وفي نشأة هذا النوع من القصائد المغناة حكاية وعبرة، فأصل أول قصيدة يقال إنها ترجع إلى امرأة تدعى “أبونيتي” كانت تتوجّه يوميا إلى بئر الماء تتزود منه، وفي أحد الأيام التقت بثلاثة رجال كانوا قد سرقوا جملا وذبحوه، وكان أن عرضوا عليها أخذ نصيبها مما غنموا ترغيبا لها وخوفا من اكتشاف أمرهم، ولكنها رفضت هذه السرقة ولسان حالها يردد (الجوع يعالج بالقناعة) أي (لاز إتاكس الشك)، ثم ذهبت إلى خيمتها ولم تبح بالسر، وبمرور زمن طويل على الحادثة تلقت المرأة من أحدهم جزاء لتكتمها ولجميل صنعها، قصيدة (أبونيتي) وكلها مدح وثناء على المرأة الجليلة التي أنقذتهم من الفضيحة والعار”.
فمنذ هذه الحادثة عُرف تندي وأخذت كلماته تمزج الصحراء والشعور وتشكل ملحمة شعرية فريدة تلتقي فيها الكلمات وجمال صوت المرأة وإيقاعات تيندي، وعلى روحه تتساوى الكبيرة والصغيرة، والنبيلة والوضيعة والحرة والأمة، فهن على شفير القصيدة وحرقة البوح سواء، كما لم يتساوين في أمر سواه.
أما عندما نتحدث عن إمزاد يضيف المتحدث فإن لقصيدته حضورا آخرا في نفسية التارقي، كما لها وقع آخر على فئات المجتمع، ذلك أن هذه الألة تختص النساء في العزف عليها ولقصيدتها دور في إثارة همم الرجال إلى الحرب ودعوتهم إلى الأخلاق الحميدة،” وعند خروج التوارق للحرب يجتمعون ليلة هجومهم على العدو أو خروجهم للغزو جميعا يستمعون إلى الإمزاد حتى الصباح، حيث ينطلق الجميع على جمالهم باتجاه العدو، والذي يتخلف يذكرونه بليلة الإمزاد، فيتقدم لأن الجميع سيسمعون ليلة ما قبل العودة أخبار المعركة تغنى على الإمزاد وتذكر الشجعان كما تذكر الجبناء، ولكون القصيدة الإمزادية تتميز عما سواها من القصائد لأنها تأتي على فترات تنتقي فيها المرأة أجمل القصائد وأعمقها لتؤديها، بينما يلتف الرجال والنساء حولها للاستماع إليها.
وتتراوح مواضيع القصيدة حسب الباحث بين الغزل والوصف والمديح وأحيانا تصل إلى الذم، وقد تذم المرأة صفات شهدتها من رجل فإما يشار له بالاسم عندما يكون من أسافل القوم، وإن كانت فعلته كبيرة وهو من أكابر القوم يشنع عليها ويشار له بها، وقد تتخذ إمارة ً تاريخية.
أشكال الـتعبـير الـــشعري
وفي سياق متصل، استعرض صاحب الديوان الشعري “على باب عشقها” أشكال التعبير الشعري، والفنون المرتبطة بتسيواي، على غرار قصيدة “إصوضاس” أو ما يعرف بـ«الهدهدة”، والتي تؤديها عادة الأم من أجل أن ينام طفلها ويمكن أن تكون هي من ألفها، أو أنها قصيدة تراثية تصرفت فيها حسب ما يقتضي الحال، فهي قطعة شعرية قصيرة تقوم الأم بترديدها إلى أن ينام الطفل وترافقها أصوات للمناغاة، وهناك الكثير منها قد حفظه لنا التراث ّ التارقي، ومن بين أشهرها القائلة:
بللولبا...... بللولبا
أبارضين يار إيضص
تمراولت أويد إيضص
بللولبا..... بللولبا
و انم إيطس واني يوقي
بللولبا..... بللولبا
ومعناه بالعربية
بللولبا.... بللولبا
صغيري يريد النوم
والأرنبة “أنثى الارنب” تجلب النون
بللولبا..... بللولبا
صغيري نام... صغيرك أبى
بللولبا....بللولبا
ويقول، إن ما يلاحظ في هذا المقطع أنه بسيط، بدأ بمقطع صوتي تردّده الأمهات من أجل تنويم الطفل، وقد ربط المقطع بالأرنب وذلك يعود لكون الثقافة التارقية تحتفظ للأرنب بمكانة خاصة في التراث المحكي على لسان الحيوانات، كما أنه ما هو معروف عن الأرنب أنه قليل النوم..
ومن قصائد تيندي، من باب الفخر، قصيدة “نرهى إمانين”، وتقول:
”كلا أتليغ نرهي إمانين”، ومعناه كنت أعرف بحب نفسي..
”كانغ إقباس يارقانين”.. أعدل نياط (حبل) جملي..
”توليلغ إتبشانين”.. مفتخر بشعري الطويل
”تاليض ننهي ادنغ تانين.. وكل فتاة أراها أقول إنها ملكي
هذا المقطع يتحدث عن حالة تاريخية يفتخر فيها كاتبها بنفسه ويعتد بها.. فالقصيدة يقول مولود فرتوني مجهولة المؤلف، معروف عنه أنه من منطقة “تمسنا” التابعة لدولة النيجر أغلب سكانها من التوارق، تعود للخمسينيات أو الستينيات من القرن الماضي.. وغيرها من التعابير الشعرية والنماذج الشعرية “تسيواي”.
ليخلص الشاعر والباحث في التراث الثقافي للمنطقة، ليؤكد أن النظرة الأولى للشعر التارقي تُظهر اقترابه من الشعر العربي من خلال تشبيهاته التي تتمحور حول المرأة والغزل وغيرها.. ويقول إن “غزل التوارق يراوح بن العفيف والماجن، وتلتقي قصائد الحب في الشعر التارقي مع الشعر العربي في رقته”.