الكثير من قضايا اللغة، ما زالت مجالا للطّرح والنقاش في زمن تخطّت فيه التكنولوجيا حدود الإنسان، وكان لزاما على اللغات أن تتكيّف والواقع الجديد، في اليوم العالمي للغة العربية التي تجلّت إسهاماتها في صناعة الحضارة البشرية. تعود هذه الإشكاليات للواجهة وتتكرّر من جديد زوايا هذا الطرح، حول السبيل لمواكبة اللغة العربية للتطور التكنولوجي الذي يشهده العالم.
يقول الدكتور عبد الرحيم شنين، أستاذ النحو العربي والدراسات اللغوية بالمدرسة العليا للأساتذة بورقلة، إنّه رغم دخول الآلة كلَّ مجالات حياة الإنسان في عصر التكنولوجيا، إلا أنّ اللغة تبقى وسيلة التواصل المثلى لدى بني الإنسان، فقد يستخدم شكلاً من أشكال اللغة المنطوقة أو المكتوبة في تواصله مع الآخرين، إلا أنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يستخدم غيرها على النطاق الأوسع.
وقال الدكتور شنين، «إن من يعرف اللغة العربية وأسسها الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية، وقدراتِها على الاشتقاق والتوليد والتعريب والاقتراض حقَّ المعرفة، يدرك ما تشتمل عليه هذه اللغة من مقومات»، مشيرا إلى أنّها استطاعت بفضل هذه الأسس والمقومات وبفضل جهود علمائها القدامى، أن تحتوي العلوم الناشئة بها كالنحو والصرف والعروض والبلاغة وعلم الكلام والفقه والتفسير والعلوم الوافدة إليها عن طريق الترجمة كالفلسفة والطب والرياضيات والفلك والهندسة وغيرها...، «بل استطاع هؤلاء العلماء أن يطوّروا هذه العلوم، لتسعها اللغة العربية وتعبّر عنها دون إشكالات تُذكر، فوُضعت المصطلحات الدقيقة للتعبير عن تلك المدلولات الجديدة دون التباس يُذكر، ولعلّ تلك المقومات هي التي كتبت للغة العربية بقاءها طيلة هذه القرون».
وأضاف شنين أنّ التحدّي الأكبر أمام اللغات هو مستوى استعمالها في سياقات التواصل، إذ نشأت مستويات جديدة للأداء اللغوي على شبكات التواصل، مبرزا أنّه في العربية شاع استعمال العامية بشكل كبير جدّا، وفي الفرنسية والإنجليزية شاع استعمال الاختصارات واستعمال العبارات العربية بحروف أجنبية محتوية على أرقام، بدل الحروف غير الموجودة في تلك اللغات كرقم 3 للدلالة على حرف العين، و7 للدلالة على الحاء، وغيرها.
المد الهائل للتكنولوجيا في حاجة لتغيير السياسات اللغوية
إنّ هذا المدَّ الهائل في الاستعمال، أصبح واقعا لا يمكن إنكاره، ولاحتوائه لا بدَّ من جهود كبيرة تنطلق من التغيير في السياسات اللغوية للبلدان المعنية، فضلا عن الجهود الحثيثة للمؤسسات المعنية كالمجامع اللغوية والجامعات، وصولا إلى مؤسسات المجتمع المدني والأفراد، حسبما أشار إليه أستاذ النحو العربي والدراسات اللغوية.
وفي ذات السياق، قال المتحدّث عن مواكبة اللغة للتطور الحاصل في حياة البشر، «إنّ حاجات الإنسان ومستجدات حياته تنعكس على لغته بالضرورة، إذ هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم كما يعرفها أبو الفتح عثمان بن جني (392هـ)، ولذا فإنّ من الواجب للفاعلين في الميدان اللغوي من حكومات ومجامع لغوية أن تواكب التطورات فتضع المصطلحات المناسبة للمخترعات والمستجدات اللغوية، قبل شيوع التسميات الأجنبية لدى مستعملي اللغات الأم».
وتحدّث الدكتور عبد الرحيم شنين على سبيل عن وضع المجمع اللغوي السوري مصطلح «المرناة»، الذي يمثل اسم آلة على وزن مِفعال من الفعل «رنا»، لكن مصطلح التلفزيون شاع لدى المستعملين، ولم يكتب لهذا المصطلح أن يقاوم أمام التلفزيون، فضلا عن الأمر الثاني الذي ما زال بعيدا في وطننا العربي ـ يقول المتحدث ـ رغم عدم استحالته، ويتمثل في أن الاختراع يجب أن يكون في بلداننا لتكون التسمية الأولى للمنتج عربية.
وتطرّق محدّثنا إلى جانب آخر، ذكر من خلاله أن العولمة جعلت العالم أجمع قرية واحدة، وهو ما يلهب صراع الهُويّات، ويجعل كثيرا من الهُويات غير القوية تتماهى في الهويات الأقوى الغالبة، قائلا بأنه لهذا السبب نرى صراعا مثلا بين قطبي الصين والولايات المتحدة، وهو صراع يظهر في شقه الاقتصادي جليا لكن صراع الهويات هو ما يحرّكه، وأضاف «لعلنا نرى من أبسط المظاهر لتجنّب ما أشرنا إليه من تماهي الهويات شروط الصين في توظيف سائقي الأجرة أن يكون السائق غير متقن لأي لغة أجنبية، ليضطر الأجنبي إلى تعلم اللغة الصينية، ممّا يبرز التمسك بالهوية، ولهذا فالحفاظ على هويتنا عموما وعلى شقها اللغوي بشكل خاص يتطلب منا تضافر الجهود، بدءا من مستوى الحكومات، فالمجامع اللغوية، فالجامعات، فالمخابر، فالأساتذة والأكاديميين.