الذّهابُ إلى «وهران» مشياً على الموسيقى

بقلم: أسماء جزائري كاتبة صحفية

هل بإمكان أغنية ما أن تتحوّل إلى مدينة ثم إلى عالم بأسره؟
في حاجة الإنسان إلى أن يعرف سيذهبُ بعيداً في اكتشاف ما يلزمُه ليفعل ذلك، سيعثُر على الكثير من وسائل النّقل التّي تُساعده على الوصول إلى تلك المناطق المبتغاة، سواء أكانت تلك الوسائل تقليديّة أو التّي يستطيع الحصُول عليها وهو في مكانه من اطلاع وملاحظة وسماع، المناطق التّي يُمكنها أن تأتي إليك على شكل عواطف وتستحضِرها النوستالجيا ثم تنشرها مثل عطر يُستدلّ به على جزيرة معبدك الذّي تُصلّي فيه كلّ تلك الأشياء التّي بقيتَ معلقاً على شجرة بركتها، إنّ الرّحلة إلى معرفة شيء ما قد لا تحتاج دائما إلى قدمين أو تذكرةٍ، ربّما يكون كافياً أن تمتلك في داخلك قابليّة أن تتحرّك لكن فكرياً وعاطفياً عن طريق الخيال وانبعاث روائح الذّاكرة، أن تُنقل إلى أماكن أخرى لكن بقدمين يسيران الآن على لوحة ما أو داخل رواية ما أو فوق سلّم موسيقيّ ما، إنّنا لا نستدّل على الأمكنة بالخرائط فقط كما هي العادة بل يحدث هذا أيضاً عن طريق إحداثيات فنّيّة ليُصبح بعدها للخريطة نفسها حدود غير تلك المتواجدة على ذلك الرّسم الجغرافيّ المعتاد، حدود من كلّ أولئك الذّين يشتركون في معانيها أو ألوانها أو ألحانها، خريطة قد تضمّ العالم بأسره كدولة واحدة.
في بداية الخمسينيّات ظهرت أغنية تشبهُ تماماً بلدة صغيرة فوق مكان مرتفِع يمكنك - وأينما وقفتَ - مشاهدتها من كلّ نقطة، فقط يحتاج الأمر إلى أن ترفع راسك قليلاً، أغنية حملت بين كلماتها بيوتٌ وساحات عامّة، مقاهي ووجوه أصدقاء لهذا عنت في بعض الأحيان فكرة الهُروب منها الرّغبة في النّجاة ما سيقود هذا إلى مواصلة تجاهل تلك البلدة بترويض الرّقبة على الانكسار والرّأس على المُستوى المستقيم أو المطأطأ، لكنّ إيمانويل كانط الذّي قال يوماً» نمثّل أننا لا نبالي لكن في الحقيقة، نحن نهتّم بكلّ شيء» يضيفُ آلية محاولة هزم الرّغبة بالاستمرار في اضطهاد ما نُريد فعلا، لهذا غالباً لا يدُوم ذلك التّجاهل المغصُوب، ففي إمكان أحد ما ودون رغبةٍ منه في ذلك أن يرفع رأسكَ وتستيقظ فيك كلّ تلك الأشياء دُفعة واحدة مثل أن تصعد سياّرة أجرة في بلد غريب وتذاعُ أغنية «وهران رحتي خسارة» في المذياع، أغنية مثل رائحة البلاد تماماً ومثل يد تأخذ بيدكَ حينما لا تستطيعُ العودة مجدداً، فعندما غنى أحد أعمدة الأغنية الوهرانية أحمد وهبي أغنية «وهران رحتي خسارة»، لم يكُن يعلم أنّها ستكون لاحقاً دليلا سياحياً إلى مدينته الأم، ولا أن تتحوّل إلى مدينة»الحنين» العالميّة، كانت أغنية مليئة بالوحشة وبذلك الأنين الوجوديّ لطفل العالم الذّي أبُعد عن صدر أمّه الوطن، أغنية تفتّقت فيها كلّ تلك الجُروح التّي قمت بخياطتها حتّى تتجاوز غيابك عنها بشوارع أنظف وبيوت أجمل ومجتمع أفضل، فالأشياء التّي رحلت لأجل تحقيقها هي نفسها من ستبعثُ فيك تلك النوستالجيا وماهيّة الغربة، هي نفسها ما ستتعذّب بها في كلّ مرّة ستحاول النّجاة، فكل ما حصلت عليه هو – وبطريقة ساذجة- كلّ ما ستتذكر به ما تركته خلفك، ستهربُ إلى وهران الأغنية لتحتمي من قذائف مدنك البعيدة، ستهربُ من وهران التّي تركتها خلفك إلى وهران التّي جئتها كأغنية.
 بعدها بسنوات أعاد «الشاب خالد» هذه الأغنية وكأنمّا بعثها من جديد للعالم بعصرنة لحنها، كلّ شيء فيها بدا وكأنّما صافرة قطار مغادر أو ذلك النّداء الأخير للّحاق برحلتك في صالات الانتظار، وانطلاقاً من صوت خالد نفسهُ الذّي حوّل الكلمات إلى خريطة يستدلّ بها كلّ الذّين يشتركون في الغُربة ازدادت تلك البلدة الصّغيرة فوق المرتفع ظهوراً ولفتاً للانتباه، كأنّما شيئاً ما ارتفع في حجمها، ربّما أضاف سُكانها طوابق جديدة من البشر أو رائحة ما هبّت كعاصفة من ورود معانيها المتدليّة على أسوار بيوتها حاملة معها ملامحنا هُنالك، تلك الملامح الجائرة التّي يصعبُ تجاهل صوت مرورها بين الأزقة، تمرّ الوجوه، تمرّ المدن بشوارعها وأسواقها، تمرّ حياتك هنالك، ومن خلال خالد وصلت الأغنية إلى العالميّة ومعها وصلت وهران إلى كلّ أذن في العالم وضمّت هي نفسها كلّ مسامعهم وتأوهاتِهم، دخلت هران البيُوت والحانات والملاعب وصالات القِمار والمسارح وذهبت إلى المدارس والحدائق والمقابر والمُدن والقرى ومُدن الملاهي، وصعدت الحافلات والقطارات والبواخر وسيارات الأجرة والأحصنة والحمير، انتقلت وهران من وهران إلى أوروبا وأمريكا وآسيا وانتشرت في أفريقيا، انتقلت وهران من وهران المدينة إلى وهران «الوطن»، فخالد بصوته الرجوليّ الذّي يحفر عميقاً وبوحشيّة مستخدماً الكلمة كرأس سكين استطعنا من خلاله أن نرى الذّات من الدّاخل عبر التّنهيدات أو تلك الأوجاع التّي تخرجُ على شكل دموع، أو قلق أو إشعال سيجارة، بعث خالد من جديد ذلك المخلُوق الذّي غطّيناه جيداً بالتقدّم نحو الغد وجعل كلّ النّاس يودّون لو يذهبون إلى وهران، هذه المدينة الأمّ حتى أولئك الذّين هم ليسوا بجزائريين وأصبحوا منها رمزياً، هذه البلاد التّي سيتمنون لو كان في مقدوُرهم الفعليّ كما العاطفيّ العودة إليها، أن يرفعوا رؤوسهم وينهاروا تحت التلّة لمرة واحدة وللأبد.

البعد الجغرافيّ الفنّي:

فهل تعني الأغنية دليلا فنياً يجلبُ السّياح إلى المدينة ليتعرّفوا على حي قمبيطة الذّي تربّى به خالد؟ هل يريدون أن يعرفوا من هم أولاد الحمري وسيدي الهواري فحسب؟ أم أن الأغنية هي تلك التّي ستذوبُ فيها مدناً كثيرة مختلفة بتحولها إلى رمزيّة وجوديّة عن الاغتراب؟

هل يريد النّاس زيارة وهران باعتبارها مدينة فحسب أم أنّهم يفعلون ذلك حينما يعجزون عن زيارة وطنهم الأم الجغرافيّ؟ وماذا شكلّت الأغنية في طبقات الناس الوجدانيّة؟

يقول جان بول سارتر: قرّرت أن أفقد القُدرة على الكلام وأن أعيش في الموسيقى، وهذا نوع من تحوّل فكرة الموسيقى إلى مكان، أن تمتلك حدوداً وعناوينَ نقصدها، أن تصبح مقبولاً، وبدُون أن تضع جواز سفرك تعبر الحُدود، هذا ما استطاعت أغنية وهران أن تفعله، انتقالها من المكان إلى الموسيقى ثمّ من الموسيقى إلى المكانة الرّمزيّة، فالسياحة الأدبية هي نفسها السّياحة الموسيقّية وكلاهما ينسلان من شال صوفيّ واحد: «السّياحة الثقافيّة»، فقد يأتي النّاس من نصُوص المؤلفين الخيالية، ليتبعوا طُرق أبطالها ويجلسوا أينما جلست الشّخصيات، يدخلون متحفاً زارته الشّخصية أو حديقة أو سوق وأشياء كثيرة تحدث لدرجة أنّهم قد يسيرون على دروب سار عليها كاتبٌ ما ومقهى جمع كتاباً يحبّهم أو منزل الكاتب عينه، فأوّل ما أرى شاطئ تيبازة أتّحول وبطريقة غير مباشرة إلى رواية الغريب، شاطئ أصبح يتعلّق بمسرح جريمة حيثُ قتل ميرسو العربي تحت شمس الجزائر التّي عشقها ألبير كامو وتغنى بها في كلّ مكان ما يعني التحول إلى رواية الغريب ككلّ، الأمر نفسه إذا ما مررتُ من أمام مقهى «نجمة» بقسنطينة فيخطر ببالي فوراً «كاتب ياسين»، فالكتابة استولت على المكان بطريقة أدبيّة بالرّغم من أنّ المكان كان موجوداً قبل الكتابة، وهذا نوع من التوّسع عبر الروابط الثقافية فتضيفُ إلى قطعتك الجغرافيّة عالماً بأسره وتكتسب منتمُون جدد تربطهم رابطة ثقافيّة أبعد ممّا قد يحدّه المكان المعنيّ، إنّك تغلي الآن في حياة الآخرين وجذورك قد امتدت وبدأت تظهرُ فروع جديدة تحمل أوراقاً طريّة على شجرة عائلتك، الأمرُ نفسه إذا ما تحدثنا عن الموسيقى والتّي يمكنها أن تستحوذ هي الأخرى على المكان والمكانة، فأغنية «وهران رحتي خسارة» التّي استولت على ماهيّة الوطن، الوطن باعتباره مدينة كاملة أو بلدة أو بلادا ما هي إلاّ انتماء موسيقي للمغتربين بشتىّ انتماءاتهم بل انتماء أيضا ً للمغتربين داخل أوطانهم، غربة الذّات والماهيّة لا المكان، تلك التأّويلات التّي حملتها الأغنية في شقّها الوجوديّ عنت بها ظُهور المدن «الرمزيّة» من خلال اللّحن والكلمة، أغنية لها بعدٌ جغرافيّ فنّي ورمزيّ، حيث يصبح في الأغاني تحديداً بلدان ينتمي إليها البشر، وأحيانا ينتمُون إلى كذا أغنية في الآن ذاته، فهذه أغنية يحمل محبيّها انتماءهم لفكرة الحبّ، وأخرى انتماءهم لألم الخيانة، وأخرى انتماءهم لوحشة الغربة، وحينما غنى أحمد وهبي أغنية وهران كان يريدُ فقط أن يضع جراح غربتهِ على طاولة العالم، أن يبكي علناً، لكنّه وبطريقة ما وضع جميع المغتربين أمام هذه الأغنية، فانتمى إليها كلّ من تركوا بلدانهم خلفهم، ومثلّت وهران ذلك الصّراخ أمام صمت الإله وتلك الدّموع على خذ ديار العودة، فتحوّل الحنين الذّي يشعر به كلّ المغتربين على اختلاف بلدانهم إلى وهران الأغنية كطريقة عزاء ووهران المدينة كوسيلة وصُول إلى مدينتهم، لهذا جاءها الناّس عبر عواطفهم قبل أقدامهم، جاؤوها عبر خيالهم قبل المراكب، وفي هذه الرّحلة بحثوا عن معالم مشاعرهم تلك التّي عاشُوها داخل الموسيقى، وأخذت بيدهم الكلمات كما لو أنّها دليلهم في أزقّتها، سيشاهدون الأمكنة بالموسيقى، ويشاهدون مدنهم عبوراً من وهران الرّمز وهذا كافي لأن تحوّل الموسيقى نفسها إلى وجهة يركضون نحوها حينما يتعطل من حولهم الشعور بالانتماء، فهي ملجأ الأرواح التّي جرحتها السعادة كما وصفها إميل سيوران، وسنختار الذّهاب إلى وهران مشياً على الموسيقى في كلّ مرّة نعجزُ عن ترك أنفسنا تذوب في مجتمعات أخرى.
ـ عن مجلة «فواصل»- العدد 6

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024