حينما يتأمل الناظر في حال الأمة الثقافي والمعرفي، يدرك جليا أسباب التخلف الذي ران على الأمة من شرقها إلى غربها، وكأنها تنزل الدركات إلى الحضيض على إيقاع واحد. يقودها حشد من الأسباب القاهرة، ويدفع بها كالقطيع إلى ذلك الدَّرك المظلم الذي انتهت إليه اليوم. وربما نجد في قول من أقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، بيان هذا التقهقر نحو التخلف الفكري، والتقوقع في الظلمات، وكأنها المنتهى الحتمي الذي سيؤول إليه كل من سار على ذلك الدرب، من دون أن يرفع رأسه قليلا ليطل به على العلامات التي أقامها المحذرون على أطراف الطريق.. فقد قال رحمه الله: «هجر المسلمون القرآن إلى الأحاديث، ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة، ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلدين، ثم هجروا أسلوب المفكرين وتزمتهم إلى الجهال وتخبطهم».
كان النبي عليه السلام قد أشار إلى هجر القرآن الكريم أول الأمر، كما حكاه عنه الله عز وجل في كتابه في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} ثم جاء من يهجر الحديث بحجة أن كثيره موضوع أو مكذوب، ثم جاء من يتخطى أقوال العلماء زعما بأنها أقوال مشروطة بالزمان والمكان، وأنها لا تصلح لزمانه لتغيُّر الأحوال وتبدُّل القضايا وتعقُّدها. ثم جاء من يلتفت إلى المفكرين الذي ربطوا أنفسهم بمناهج استجلبوها من الغرب، وحاولوا الدخول بها إلى الدين، والقرآن، والحديث، وهم يعلمون أنَّها إنَّما وُضعت في منابتها لتُسائل فكرا مختلفا في خصوصيته ومنبته، ونصه. ولكنهم زعموا أن الأدوات واحدة، وأنه يمكن استثمارها هنا كذلك بنفس الموضوعية والعلم. ثم جاء من نادى بالتقليد الذي كان منبوذا في الأزمنة الأولى ومعيبا فيها حتى بين البسطاء من الناس، ليضع رقبته في يد شيخ يُحلِّل له ويُحرِّم عليه، وهو يقرأ في كتاب الله عز وجل قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، ثم جاء من يُسْلم نفسه لما يُروَّج له بين العامة والجهال من خبط في الفكر والقول والفتيا...إنها آخر الدَّركات التي وصلنا إليها اليوم، بعد ما تبين عُوَار كثير من الشيوخ، وافتضح أمرهم، وبات واضحا أننا أمام من يؤتمن في علمه، ولكن لا يؤتمن في مقاصده، فقد يكون عالما بما يقول، ولكنه يوظفه في وجوه الدنيا المتعددة التي تُعرض عليه.
نحن اليوم في هذا الوضع المزري حقا..وأنه يجب على الخطابات كلها: دينية، وفكرية، وأدبية، وسياسية...أن تنتبه إلى فداحة الخطب، وأن ترسم لنفسها مسارا عكسيا، يرفع الناس من ظلمات التخبط العشوائي إلى درجات يرون فيها النور من خلال كتاب الله، وأحاديث رسوله، وأقوال العلماء والمفكرين المستنيرين بذلك المصدر الرباني.