حكاية وطن إجباري وشعب مسلوب من كل شيء
نقد لواقع وحال الشّعب اليومية
‘’ في عشق امرأة عاقر’’ هو عنوان رواية لصاحبها سمير قسيمي، مع أنّها صدرت عام 2011 عن منشورات الاختلاف، إلاّ أنّها لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه، ولو صدرت في بلاد غير الجزائر لأصبحت من بين الرّوايات العالمية المشهورة التي قوّضت النّظام السياسي، وقدّمت نقد واقع وحال الشّعب اليومية، كرواية «رجال بأربع أصابع» لـ: ميودراك بوتوفيتش، ورغم بساطة لغتها وعمق طرحها، إلاّ أنّها استطاعت تفكيك الواقع الجزائري والنّخر فيه، من خلال قضايا اجتماعية يومية، أعاد النّظر فيها الرّوائي سمير قسيمي من زاوية مختلفة أكثر واقعية بطريقة فلسفية وبأسلوب ساخر.
في حين مازال بعض الرّوائيّين يجترّون واقع الأزمة الجزائرية، وموضوع الإرهاب ليثبتوا أنّهم مازالوا في السّاحة الإبداعية وأنّهم روائيّون رغم أنوف النّقاد، فهم مازالوا عالقين في الماضي، نحتاج لآلة الزّمن حتى يعيشوا معنا في زمن الوطن الإجباري الذي يسلب شعبه من كل شيء، مازالوا عالقين في العشرية السّوداء، في حين أصبح لدينا العشرات والمئات من الأيام والليالي السّوداء، فالمجتمع والشباب والجيل المعاصر له قضاياه وأزماته إن لم يستطع الرّوائي مواكبة عصره ومشكلاته، فلا داعي لأن يسوقوا لروائيّين دون المستوى على حساب روائيّين مغمورين أو مرغمين على عدم الظهور، هذا هو واقع شعب يقرأ دون أن يقرأ، أو بالأحرى يقرأ ممّن لا يقرأ.
ومن بين الرّوايات التي أخذت على عاتقها معالجة قضايا اجتماعية معاصرة، يعيشها الإنسان أو المواطن الجزائري في الوقت الحالي، نجد رواية في «عشق امرأة عاقر»، حكاية شخصيات من مختلف الفئات والمستويات داخل وطن أجبروا على العيش فيه لأنهم ببساطة ولدوا على أرضه، وقد تفنـّن الروائي في رسم شخصياته والتي تعبّر عن حال كل جزائري ومثقّف يغار على بلاده، ولا يستطيع فعل شيء رغم علمه بكل شيء.
الولوج إلى واقع حياة الشّعب المهمّة أو المقصاة من قاموس الحياة الاجتماعية
استطاع سمير قسيمي بإبداعه وذكائه غير المعتاد عند بعض الروائيين أن ينفذ إلى واقع حياة الشعب المهمة أو المقصاة من قاموس الحياة الاجتماعية العادية والمحترمة.
قام الرّوائي باستثمار عدة قضايا اجتماعية بعيدا عن الموضوع الرّئيسي للرّواية، والذي كان هدفه الأول هو تقويض حال البلاد والنّظام السياسي، ومن بين القضايا التي شدّت انتباهي، جاءت في الفصل الحادي عشر، تحت عنوان: مرحاض عمومي، تعرّض هنا سمير قسيمي لمشكلة البطالة بأسلوب مختلف، من خلال شخصية شاب مثقّف متخرّج من الجامعة يشتغل في مرحاض عمومي، فالشّخصية تحمل اسم
‘’أحمد مولاي، يبلغ من العمر خمسون سنة، يحمل شهادة مهندس دولة في الميكانيكا العامة، يتقن اللغات العربية، الفرنسية، الأمازيغية والانجليزية، فمنذ أن تخرّج من الجامعة وعمله باحث عن وظيفة، ثم التحق بعمل حقيقي وهو مشرف على مرحاض عمومي’’.
ضيّع «أحمد» كل شبابه في البحث عن عمل، مع كل المؤهّلات التي يحملها وكل الملفّات التي أودعها، حتى لم يعد يتذكّر كم عدد المسابقات التي اجتازها ولم يستطع الحصول على عمل محترم يضمن له الاستقرار والدخل الشهري، إلا أنه ومنذ سنتين استقال من وظيفة الباحث عن وظيفة والتحق بعمل حقيقي، وصار من الممكن أن يضيف شيئا إلى سيرته المهنية التي لم تتغيّر منذ أن تخرّج وبحساب عدد السنوات التي ضيّعها في البحث عن وظيفة، إذا افترضنا أنّه تخرّج وهو صاحب الخامسة والعشرين ربيعا إلى أن صار عمره خمسين عاما، وقد أشرف على المرحاض العمومي منذ سنتين، أي كان يبلغ حينها ثمانية وأربعين عاما، وعليه نجد الشاب المثقّف أحمد مولاي والذي يحمل شهادة مهندس دولة في الميكانيكا العامة، قد ضيّع ثلاثة وعشرين عاما في البحث عن وظيفة، وهنا نتساءل: لماذا لم يحصل أحمد على وظيفة تعادل مستواه؟ ولماذا نحضر المهندسين من خارج البلاد؟ وإذا أصبح المهندس يشتغل مشرفا على مرحاض عمومي، فماذا يشتغل الذي لا يحمل شهادة بكالوريا، نائبا في البرلمان مثلا؟!!!!!
هو حال بلادنا الذي يحتاج إلى إعادة نظر حتى ولو وجد «أحمد» وظيفة محترمة ستسلب منه، إذا لم تكن تحت ضغط الرّشوة والمصلحة، ستسلب منه تحت اسم: لا تعليم جيّد في هذه البلاد، لا نستطيع الوثوق في مهندس محلي، الأفضل أن نأتي بمهندس برتغالي أو إسباني أو تركي، وإذا لم تجد يمكنك أن تأتي بمهندس حبشي لا يهم، ولكن لا تثق أبدا في الإنتاج المحلي.
إذا كان الواقع هكذا، فقد التحق أحمد مولاي بالعمل الحقيقي، ونجد أحمد يدافع عن مهنة المشرف على مرحاض عمومي، والتي هي عبارة عن مهنة تبعث للضحك والسّخرية وأحيانا التقزز، فرغم أنّ المرحاض يستخدمه الجميع، إلا أنهم لا يلاحظون وجه المشرف الذي ينظف من خلفهم، ويرى أحمد أنه من الصعب فهم الغايات الكبرى من هذه المهنة.
يقول أحمد: ‘’أذكر مثلا حين نصح أحد الوزراء الشباب الجامعيّين من أمثالي بإنشاء مشاريع لمراحيض عمومية، تخلق لهم ولسواهم مناصب شغل قارّة، جميع من سمع تصريحه أو قرأه على الجرائد وصفه بالمجنون والمعتوه، حتى أنا قبل أن أشرف على مرحاض سوق كلوزال سخرت منه، وتمنّيت أن يقال من الحكومة وأن تقال الحكومة معه بسبب تجرّئه على الجامعيّين، الآن أدرك فداحة حكمي على هذا الوزير الطيب، حتى أنّني تمنّيت أن يشرفني ذات يوم ويدخل مرحاضي وآخذ معه صورا فيه’’.
رواية قامت على اعتراف صريح حول الوضع السياسي للجزائر
ورغم تنكّر المواطنين لنبل وظيفته وإشرافه على أعرق مرحاض في العاصمة، إلاّ أنّهم لا يستطيعون الاستغناء عنه وعن خدماته، خصوصا وأنّ الشّعب يعيش في مدينة لا ثقافة تتمتّع بها فيما يخص المراحيض، والتي هي من أهم الضّروريات اليومية، فنحن ‘’نعيش في مدينة لا مراحيض فيها حتى المقاهي والمطاعم لا توجد فيها مراحيض، وإن وجدت، تقرأ على أبوابها تلك الجملة التي من كثرة ما استعملت حفظها الجميع: ‘’المرحاض مغلق بسبب أعمال الصّيانة’’ يمكنك أن تذهب وتعود بعد سنة، وستجد نفس الجملة ونفس اليافطة معلّقة على أبوابها، فلا أحد يستغرب الأمر، ببساطة لأن الجميع نشأ في بلدنا على مبدأ ‘’المشاريع غير القابلة للاكتمال’’، فحتى بعد نصف قرن من الاستقلال مازالت العاصمة ورشة كبيرة، وجميع مدن الجزائر كذلك، لا نقصد بسبب المشاريع الجديدة، بل بسبب تلك التي سمعنا باقتراب آجال تشطيبها في زمن الطّفولة، ولكنّها لم تكتمل حتى بعد ثلاثين عاما’’، بصراحة لأنّنا شعب لا عمل له إلاّ التسكع واحتساء القهوة والأكل، والأكيد التغوط أيضا.
وأخيرا، يمكن القول: إنّ رواية سمير قسيمي قامت على اعتراف صريح حول الوضع السياسي للجزائر، وهو وضع لا يخفى عن المتلقي الجزائري والذي يحمل مرجعية سياسية لواقع البلاد، فقد تعرّض في خطابه هذا إلى واقع سياسة الحكم والتسيير في الجزائر، فقد حملت الرّواية مؤشّرات واقعية اخترقت بها زيف الحكومة ونظامها، فأبناء الوطن الإجباري، يعشقون ‘’هذه الأرض العاقر دون خيار، ببساطة لأنهم ولدوا عليها’’، فيبادر الرّوائي لنقد حياة شعب مسلوب من كل شيء عارضا بعض السلوكات السياسية من خلال شخصيات مغلوبة على أمرها، يتعلّقون بامرأة عاقر،
‘’ومع ذلك يختبرون صبرهم على ذلّتهم كل عام، على أمل أن تحبل المرأة ذات مرة، وتنجب ككل نساء العالم العشق الذي وضعوه فيها ولكنها في كل مرة يقربونها تخذلهم ولا تنجب’’.