عندما قرأت قبل عامين تقريبا كتاب “في قلب هذا الكتاب أعيش”، وجدت فيه حلما لفتاتين قرويّتين تريدان الانفكاك من أسر كلّ ما يكبلهما لتمارسا حرّيّتهما على صفحات الفيسبوك، كان الكتاب مشتركا بين أسيل ريدي وبيسان شتيّة، اليوم تنفرد بيسان بكتابها الجديد “الشّهقة الأولى”. فماذا في قلب هذا الكتاب؟
أسترجع هنا فحوى كلام سابق كنت وصفت به ذلك الكتاب بأنّه يمثّل الأدب الإلكترونيّ بكلّ ما يحمل من سمات أسلوبيّة وموضوعيّة، فما زالت بيسان تكتب أحلامها وتصوّراتها الفرديّة، وتعبّر عن ذلك المحيط الّتي عبّرت عنه سابقا (الذّات، الحبيب، الصّديق، العائلة، الشّهداء، الأسرى، النّكبة، المخيّم، الهزيمة، تمجيد الأبطال القوميّين، وخاصّة صدّام حسين)، كلّ تلك النّصوص مأخوذة ممّا تنشره الكاتبة على صفحتها في الفيسبوك، وفي مناسبات متعدّدة؛ كالأعياد، ويوم العمّال، وتتفاعل مع الأحداث السّياسيّة الطارئة، وخاصّة إضراب الأسرى أو احتجاز جثامين الشّهداء.
ما زالت شخصيّة الكاتبة كما هي، وما زالت تعاني ممّا عانت منه في كتابها الأوّل، وما زالت لغتها كما كانت قبل عامين، لغة بسيطة، بعيدة عن التّصوير والمجاز في الأعمّ الأغلب، وإن داخلها أحيانا بعض التّهويل، ولاسيما عند الحديث عن الحب وإعلانها الانحياز له بكل ما أوتيت من طاقة وقدرة، حتّى بدت رومانسيّة خياليّة غير مقنعة. وكتبت بعض النّصوص بالعاميّة، وأرفقت بعض النّصوص بصورٍ، ممّا كانت تنشره على الفيسبوك.
لقد حمّلت الكاتبة لغتها شيئا من ثقافتها الخاصّة، وأبانت عن مصادر تلك الثّقافة، سواء الدّينيّة أم الأدبيّة أم الموسيقيّة؛ فبدت ملامح لنزار قبّاني من خلال أغاني كاظم السّاهر، وأغاني أمّ كلثوم وفيروز، وحضر تميم البرغوثي ومحمود درويش وسميح القاسم وناجي العلي ومرسيل خليفة، وأحلام مستغانمي، إنّها باختصار ملامح ثقافة كلاسيكيّة معروفة ومشتهرة بين روّاد الفيسبوك، فمن لم يقرأ لهؤلاء عملا كاملا، فإنّه على الأقلّ قرأ بعض مقتطفات مما هو شائع على الصّفحات الزّرقاء، لتتشكّل منه ثقافة فسيفسائيّة غير متجانسة، وليس له أثر حقيقيّ في لغة الكتّاب سوى في معرفة هذه الأسماء وأسماء أعمالهم وبعض جمل متناثرة من أقوالهم. إنّ هؤلاء الشّباب لا وقت لديهم للقراءة أكثر من ذلك، وها هم يعرفون تلك الأسماء ويوظّفونها في كتاباتهم، وهذا ما ظهر في كتاب “الشّهقة الأولى”.
لعلّ أكثر ما يحسب لمواقع التّواصل الاجتماعيّ أنّها تشجّع الشّباب على الكتابة والتّعبير عن آرائهم بحرّيّة، ولكن ما ينبغي الحذر منه أن يظنّ هؤلاء الشّباب أنّ كلّ ما ينشر على الفيسبوك صالح للنّشر في كتاب ورقيّ. فلن يعيب النّصّ أنّه نصّ إلكترونيّ المنشأ والظرف، ولكن للكتاب الورقيّ هيبته وأصوله الّتي يجب أن تراعى، وقد افتقر هذا الكتاب للكثير من تلك الأصول، مع أنّ الكاتبة لا تتحمل وحدها كلّ ما فيه من أخطاء وسقطات، فالمدقّق اللّغويّ والمصمّم الدّاخليّ للكتاب عليهما مسؤوليّة مباشرة عن جودة الكتاب وإخراجه بشكل لائق، مع مراعاة التّصميم المعتبر للكتاب، ويتحمّل النّاشر بعد الكاتب مباشرة، أو ربّما قبله، المسؤوليّة الكبرى؛ فلا يدفع بأيّ كتاب إلى المطبعة دون أن يحقّق ذلك الكتاب شروط النّشر الأوليّة، وإلّا سيكون النّاشر والمؤلّف في المحصلّة النّهائيّة شريكين في إثم إنتاج نصّ رديء، لن يساهم في التّعبير عن الكاتب وتحقيق حلمه في أن يكون كاتبا معتبرا في المستقبل.
هذا ما حدث مع بيسان شتيّة في هذا الكتاب، فقد احتوى كتابها نصوصا تحتاج إلى مراجعة، ليس من ناحية لغويّة فقط، (مع أنّ الكتاب مدقّق لغويّا)، ولكن أيضا من ناحية تركيبيّة، ففي ذلك النّصّ الطّويل بعنوان “وأنيني الآن أنت”، الّذي شغل مساحة كبيرة من الكتاب (35 - 58)، فيه الكثير من الخلل، سواء في تركيب الجمل، أم في إنشاء نصّ صالح ليكون قصّة قصيرة أو تسجيل حكاية مثيرة. إنّ هذا النّصّ أشبه بكتلة العجين الّذي بقي في طوره الأوّل، عدا ما فيه من تعدّد للأصوات غير واضح الهدف، وتعدّد الموضوعات الّذي يشتّت القارئ، وكأنّه مجموعة نصوص مركبّة من نصوص أخرى، كان ينقصها اللُّحمة والبناء المحكم.
وعلى الرّغم من كلّ ما سبق قوله من ملاحظات على الكتاب، إلّا أنّه يحتوي نصوصا جيّدة على ندرتها، لا تزيد عن بضعة نصوص، ضاعت بين الرّكام اللّغويّ وفوضى البوح والسّرد والتّعبير غير المنظّم.
وإن كان هناك ملاحظة أخيرة أوجّهها للكاتبة، فإنّ عليها أن تكتب أقلّ، وعليها أن تتأمّل أكثر، وتقرأ أكثر وأكثر؛ وأن تتّخذ من صفحة الفيسبوك مختبرا للتّدريب أكثر على الكتابة وصقل لغتها وتراكيبها قبل إيداعها في كتاب مطبوع؛ فالتّأليف ليس مجرّد بوح ذاتي وسرد حكايات وأحلام مجمّعة، نضعها في علب للتّخزين، إنّه صنعة تحكمها أبجديّات لا بدّ من إتقانها، وإلّا سيظلّ إنتاجنا الأدبيّ متواضعا.