إن البحث في أمر لغات التخصص، هو في الواقع بحث في حالة صحية شهدها الغرب / الآخر المتطور، كانعكاس للتطورات الحاصلة له في مختلف المجالات، كما أنّ تجشّم أمر الولوج في هذا الصنف القشيب من الأبحاث، ليس بالأمر اليسير أو الهين حتى، خصوصا إذا ما تعلّق الأمر بالوطن العربي المتأخر عن نظيره الغربي والمتأثر به وبتطوره.
ولأن لغات التخصص علم له ما يعطيه صفة العلمية، بفعل قوة وبعل وجود،نظرا للوحدة الأساسية المكون منها والداعمة له، على حدّ قول ماريا تيريزا (1) كابريه، إلا أنّه لم يبتعد عن دوامة الثالوث المحيطة به، حيث يتموقع بين الواقع الذي تخلق فيه، والرهانات التي حقّقها والتحديات التي يواجهها.
ومن الملفت للنظر في أبحاثنا العربية الشحيحة وعلى ندرتها حول هذا العلم، هو أن الدراسات العربية تبدأ مباشرة في وضع تعاريف له ومفاهيم في غالبيتها مفاهيم عرجاء، تبتعد عن ظروف النشأة السابقة له.
فقد تناست الأبحاث العربية وعلى ندرتها في مجال لغات التخصص مسألة هامة، مفادها أن بداية أي فرع معرفي وعلمي يكون ذا ولادة فطرية جدا بالنسبة لأتباعه من العلوم الأخرى، حيث يعمل في شقّ تواجده بصورة عفوية جدا...
1 - لغات التخصّص: الواقع الجينيتيكي / التكويني البدايات والمآلات:
يجرنا الحديث عن كيفية التكوين السلالي للغات التخصص ـ وهو ليس موضوع حديثنا لأننا سنتجاوزه لطوله - إلى المكون التكويني لها، إنه ببساطة حديث للنهايات مرفوقا بحنين البدايات، لذا يستحيل الأمر بالمرة أن نتحدّث سلفا عن تعريف للغات التخصص دون البحث في ظروف ولادته وتطورات نشأته، إنه حديث عن الواقع...
أي البحث في المراحل السابقة للصورة النهائية التي هو عليها اليوم،قاطعا بذلك حبله السري الرابط بينه وبين علوم أخرى سبقته على غرار المعجمية والمفرداتية وقضايا علم الدلالة، دونما إحداث للقطيعة المعرفية،بقدر تحقيق تجاوز معرفي نحو الأفضل. حيث شكلت المعجمية والمفرداتية بالنسبة للغات التخصّص ما أسماه فرويد ـ إسقاطا ـ بالتصالح مع الماضي وهو ما يقصد به نتائج الفكر الحديثة المبنية على خبرة، أو مجموعة من الخبرات السابقة بسبب التجاوزات.
فإذا تتبعنا عن كثب السبب الرئيس لخروج وبزوغ وولادة لغات التخصص، بالرغم من أنها تبقى مجرد محاولة في هذا الأصل وملابسات النشأة.
لقد نشأ علم لغات التخصص عبر مكون وجودي معرفي/ أونطو -ابستيمي، كما أسماه ميشيل فوكو (2)، هذا المكون له براديغمات /نماذج/ إبدالات حسب نوعية العلوم وطبيعة الأبحاث.... إنه العولمة.
فقد ظهر فرع لغات التخصص تحديدا مع المرحلة الثالثة لهذا المكون الوجودي والمعرفي المعروف بالعولمة، أي منذ الفترة الممتدة من 1945م، وهي الفترة التي سارت فيها جنبا إلى جنب مع مجريات الحرب الباردة، وهنا حسب الخريطة المرسومة والتي تترصّد الإنتاج المعرفي التي رسمها وتابعها «وولترشتاين»، حيث رأى أن الفترة الممتدة ما بين (1850-1945) فترة سيطرت عليها المركزية الأوروبية، على الثقافة، بمعنى أن دراسات العلم والمعرفة، في هذه الفترة قد تمركزت أوروبيا، إلا أن الفترة الممتدة من (1945-2017) هي فترة المركزية الأمريكية، إنها الفترة المأمركة، الفترة التي يتحدث فيها العلم بالإنجليزية، فالعلم بكل تخصصاته يتكلم إنجليزي، وهنا أطلقت على هذا صفة إنجليزية التخصص كأول اسم يشير إلى هذا الصنف القشيب من البحوث.
إلا أن العالم الأوروبي لم يبق مكتوف الأيدي، فقد أنشأت فرنسا منظمة لغات التخصص SEAS والتي اعتبرت بحقّ قناصة تقوم بفرنسة كل ما يصدر من جديد حول العلم، بمعنى إنشاء فرع لغات التخصص بنسخة فرنسية، وما سهّل لها ذلك هو تكافئها ثقافيا مع أماريكا، الأمر الذي لم يكن مسموحا به في الوطن العربي، ومن هنا آن لنا أن نلخّص ما أوردناه في الآتي:
لغات التخصص فرع معرفي جديد، وافد جديد للعالم العربي، ظهر لأول مرة بنسخته النهائية بأماركا، صنعه مكون وجودي يعرف بالعولمة، جعلت من أماريما مركزية ثقافية عظمى.
@ 2 - المقصود بلغات التخصص: بعد التعرض للنشأة وظروفها، أمكن لنا وضع تعريف شامل للغات التخصص، أصدرته منظمة لغات التخصّص الفرنسية، من خلال الوثيقة الخاصة بها عام 2010، حيث جاء عنوانها: تطوير أهداف التكوين والبحث داخل جناح اللغات للمتخصصين في مجالات أخرى، حيث تمّ وضع تعريف شامل للغات التخصص:
Languesde spécialité une langue de spécialité est l’expression d’un domaine spécialisé dans une langue.
بمعنى: لغات التخصص هي لغة خاصة للتعبير عن مجال متخصص داخل لغة معينة. (3)
2- الرهانات التي كسبها فرع لغات التخصّص:
إن العلم الجديد المعروف بلغات التخصّص، هو قبل علميته ودراسته، كان حالة صحية عاشها الغرب، وقد لاقت هذه الحالة دفعا غربيا قويا للاهتمام بها، وقد كسب هذا العلم جراء الاهتمام الغربي عدة رهانات منها تأسيس مؤسسات داعمة له. من بينها:
1 - مجلس المصطلحية العلمية والتقنية
الذي أنشأه كل من «لوط» و»كابين» سنة 1933 والتي تهتم برصد المصطلحات في جانبها التقني والعلمي.
2 - الفدرالية الدولية للجمعيات الوطنية للتقنيين:
تأسست عام 1936 بتأثير من فوستر، وقد أسهمت فيها فرنسا وألمانيا وإيطاليا
3 - منظمة لغات التخصّص ذات أصل فرنسي تأسست عام 1961، مهمتها تنظيم اللقاءات المهنية بين المتخصصين في اللغة الانجليزية والفرنسية وهنا تمّ إصدار أول تعريف للغات التخصّص.
4 - التحديات التي يواجهها هذا العلم:
- عدم الوعي بأهمية هذا الفرع على المستوى العربي بسبب صعوبته وصعوبة تدريسه.
- عدم وجود مراكز عربية قوية خادمة له كما هو الشأن في العالم الغربي.
- بالإضافة إلى مشكل عويص هو غياب منهجية واضحة في تدريسه وقد اقترح الغرب ثلاث مستويات لتدريسه في الجامعات:
- محور اللسانيات: وما يفتحه هذا العلم من إمكانيات واسعة لمقاربة التخصّص المدروس.
- محور الخطابية وما له في رصد مزايا تكوينية خطاب التخصّص عبر تتبّع المصطلحات من جهات مختلفة.
- محور الثقافة: كون العلم واقع لا ينفصل عن مجريات الواقع الثقافي المعيش وهو محور يلتقي مع المحوران السابقين.
الهوامش:
(1) - ماريا تيريزا كابريه في مقال لها بعنوان حول تمثيل التصورات تمثيلا ذهنيا، نقلته عن الاسبانية طالبة دكتوراه فرنسية ثم نقلتع للغة العربية الدكتورة ريتا خاطر.
(2) ـ اسقاط من محاضرة ميشيل فوكوه حول الطبيعة الانسانية عن حوار تلفزيوني مع فرونوا ايزوالد ونعوم تشومسكي، دون أن ننسى أن فوكو باحث ثقافي في تاريخ اللغة العلمية.
(3) - الكتاب الأبيض. طبعة 2012.
- طالبة في قسم الدكتوراه لغات التخصّص
جامعة محمد لمين دباغين سطيف - 2