قميص عثمان
إشكى لي بعض الأصدقاء ممن أعرفهم في طور التربية والتعليم عن فئة من التلاميذ، عاطلينَ أخلاقياً ومعرفياً ويسعون باستمرار إلى إثارة المشاكل وافتعال المشاكسة وسوء الأدب.يبدو أن هذه الظاهرة تتسع رقعتها بشكل مُقلق وهو ما ينعكس سلبا على نتائج التلاميذ ومعه على أداء الأستاذ وصحته أيضا، وهنا يُلام الأستاذ أولاً وأخيراً وبعضهم يُلحق هذا التدهور مباشرة بشخص وزيرة التربية الوطنية، يحدث ذلك حتى من بعض الأكاديميين وخريجي الجامعات الذين يفترض أن تكون تعليقاتهم وأحكامهم تتوفر على الحد الأدنى من شروط الموضوعية، حتى صرنا نسمع أيضاً من بعض التلاميذ الراسبين الذين لم يبلغ بعضهم مرحلة المتوسط بعد يرون أن سبب الإخفاق يعود إلى الوزيرة! وفي ظل هذه الوضعية لا نكاد نعثر على قراءة علمية وموضوعية لهذا الوضع المتردي.
من الراهن الإنصاف والموضوعية لا إلقاء اللائمة على جهة بعينها
ما تعيشه المنظومة التربوية اليوم في الجزائر من وضع يبعث على القلق والارتباك، هو في الحقيقة نتيجةٌ وليس سبباً، وهذه النتيجة تعود في الأصل إلى جملة من الأسباب بعضها قريب وبعضها الآخر بعيد، لذلك ليس من الإنصاف والموضوعية إلقاء اللائمة على جهة بعينها واستبعاد جهات أخرى أو غض الطرف عنها لأن المسؤولية في الحقيقة مشتركة ومتعلقة بالجميع، وهذه النتيجة هي نفسها ستتحول لاحقا إلى سبب يؤدي بدوره إلى نتيجة أخرى، والذين يعزلون الوضع الراهن عن فترات سابقة وعن المعتركات السياسية والتغيرات الاجتماعية والسوسيوثقافية تنقصهم الدقة في الطرح الصحيح للأسباب البعيدة وقيمتها وأهميتها في رسم نتائج اليوم والغد.
ما يبعث على التأمل كذلك أن إنسان المجتمعات الإسلامية والعربية -والجزائر ليست بِدْعاً في ذلك- لا يفهم معنى أن يكون النجاح أو الاخفاق جماعياً، بسبب الجماعة والمنظمة، والهيئة، والمؤسسة، وما يدخل ضمن هذه المعاني، إننا نفهم فقط أن النجاح سببه فرد واحد كما أن الفشل سببه فرد واحد، لأن في ثقافتنا وأدبيتنا تربينا على أن البطولة فرد والهزيمة فرد، وغالبا فردٌ رجل، حتى حين مُنحت جائزة نوبل للسلام عام 2015 للرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس لم نفهم ذلك، لذلك آن الأوان أن نكف عن إلصاق التهم بالأستاذ أو بالوزير دون أن نتحمل مسؤولياتنا نحن أيضاً.
كذلك لا بد أن نعيَّ بشكل حقيقي أن الإصلاح منظومة متكاملة وأن حل إشكالية واحدة بمعزل عن باقي الإشكاليات يكاد يكون أمراً عبثياً، وأن المنظومة التربوية بشكل عام لا تعني وزارة التربية لوحدها وحين أقول «المنظومة التربوية العامة» فهذا لا يعني أنني أقصد بها المدارس (ابتدائي، متوسط، ثانوي) كما يقر في اذهاننا بعد سماع الكلمة، لأنني أفهم التربية على أنها عملية معقدة ومتكاملة تستوجب حضورا فاعلا من الجميع بما في ذلك المدارس والأسر والخطابات المسجدية والمكتبة والإعلام ودور الشباب والثقافة... ثم إن النجاح لا يأتي دفعة واحدة بين عشية وضحاها، إنه يحتاج إلى الوقت وإلى ترتيبات مسبقة ومدروسة وتتوائم مع الخصوصية المحلية لأنه لا يوجد نجاح يأتي من الخارج فكل ابداع وكل إنجاز أو نجاح لا بد أن ينطلق من الداخل.
آليات توظيف المعرفة من الناحية البيداغوجية لا تفي الغرض
أيضاً فإنه لا بد من توفر وعي بيداغوجي ومنهجي كافٍ في العملية التربوية والتعليمية وهنا تحظرني قصة طريفة ذكرها المفكر المصري عبد الوهاب المسيري في مذكراته وهو حاصل على دكتوراه في الأدب الانجليزي، يقول إنه كان يُدرس ابنته مادة الشعر الانجليزي فكانت نتائجها ممتازة في كل المواد باستثناء هذه المادة، ثم بعد ذلك قام بتعيين استاذ انجليزية لابنته، يقول عنه المسيري إنه لا يتقن لا الانجليزية ولا الشعر أيضاً ولكنه مع ذلك أسهم بشكل غير متوقع في حصول ابنته على نتيجة ممتازة في هذه المادة، لذلك يعتقد المسيري أن هنالك فرقا كبيرا بين المعرفة وآليات توظيف هذه المعرفة من ناحية بيداغوجية، من هنا فإن الأصل في توظيف المعارف لا في اكتسابها مثلما الأصل في نوع المعرفة لا في كمها.
وإضافة إلى جملة هذه الأسباب هنالك اسباب اخرى بعضها صار معروفاً عند الكثيرين من قبيل مشكلة محتوى الكتاب المدرسي الذي أصبح يثير الجدل مع كل دخول مدرسي، ومشكلة الاستقالة الأسرية والاستقالة المجتمعية وغياب النشاطات الثقافية التي تخلق جوا تنافسيا بين المتمدرسين وإهمال جماليات المدرسة والمحيط المدرسي، في ظل هذا يبقى الأستاذ ضحية هو الأخر حين يتخرج من الجامعة ويوجه لتسيير قسم دراسي يحوي خمسين تلميذا، وبذلك يجد نفسه مجبرا على الإبداع لاحتواء التلاميذ، تماشياً مع المهمة التي أسندت إليه والتي لا علاقة لها مطلقا بالتكوين الجامعي الذي تلقاه ومع هذا وذاك يبرز مجموعة من التلاميذ «ضحايا» المجتمع والثقافة والتاريخ باحثين عن ذواتهم من خلال إفراغ عقدهم النفسية والاجتماعية أملتها عليهم الظروف والأحوال.