للشّاعر العراقي شلال عنوز
وهذه الصورة الواقعية تقع في منطقة أعلى قمة المأساة التي تعيشها الطفولة في وطن تمخضت الحروب فيها، فولدت موتا انه الوطن الذي لم يعرف طعم الفرح، ولا شهية الانطلاق صوب مفاتن الحياة، والعيش تحت ظلال الأمن، والأمان، والسلام، بل عاش وخلال فترة طويلة من عمره العتيد تحت نير الاستبداد، والسياسات الطاغوتية الظالمة.
لقد صوّر لنا الشاعر شلال عنوز هذا المشهد المفجع ببلاغة شاعر مهيب، وعين مخرج سينمائي مجتهد، وفطنة صحفي حاذق، ومحامي لامع ينتمي لتربة هذا الوطن المعطاء، ليقف وبصلابة رجل، وشاعر فوق منصة الدفاع عن حقوق أطفال وطنه الضائعة، والمهدرة ما بين نزق الساسة من جهة، وما بين الظلم، والفقر، والعوز، والجوع من جهة، وما بين خرائب الحروب من جهة ثالثة قاتلة.
ووفق نظرتنا النقدية في موسوم الدراسة في انتخاب الصورة الواقعية، وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض، فالشاعر شلال عنوز يزاول في تأسيس فضاء مشهده الشعري مهنة المحاماة، إضافة لكونه شاعرا نجيبا، ليأخذ على عاتقه الدفاع عن حقوق أبناء جبلته، وعن موكله الذي هو الشعب لتبرئته من التهم الموجهة إليه من قبل العالم، والتي تنحسر بإظهار ظلاميته التي أوقعها في فخها العقيم ثلة من العقليات المتخلفة، والتي لا يصل حد وعيها الفكري، والسياسي الى أرنبة أنفها، وهو الذي يقف بشاعريته العالية ليعلن بأنه محامي الشعب الذي أخذ على عاتقه الدفاع عن حقوقه المسلوبة، في وطن يطفو فوق بحر من نفط، وهو لا يستطيع إيجاد قوت يومه.
وفي المقطع الأخير يقودنا الشاعر شلال عنوز عبر فخامة شاعريته المهيبة، وعبر مجساته الحسيّة الواقعية، ومشاهداته الراصدة للحقيقية المؤلمة التي عمل على اكتشاف مخبوءاتها حيث يصرّح قائلا:
أشيحُ طرفي
صوبَ السّماء
حيث القبيلة
تكثر الشّخير
القمرُ مازال مُبتلعاً
والسّماء
لم تزل زرقاء
ويجيء تأثيث فضاء هذا المشهد الأخير للقصيدة، استكمالا لما بدءه الشاعر حيث يبادر الى القول أشيحُ طرفي، صوبَ السّماء وهذا التصريح الشعري اللافت، يُشعرنا بأنه أراد أن يزيح عن كاهله بعض الهمّ الذي يعتريه من خلال نظره لتلك المشاهد اليومية الخرائبية، لينظر الى السماء مناجيا إياها بأن تلتفت الى وطنه، لتخلصه من محنته هذه، لكنه يفاجئنا تارة أخرى بأنه يشيح بطرفه ثانية الى حيث القبيلة، تكثر الشّخير يرجعنا بهذا المشهد التصوري اللاذع الى نقطة البداية، حيث ذلك التراكم الكمي من الفواجع، والآلام، والإحزان، وسخرية القدر التي ترمي القبيلة، بأحضان النوم العميق والشخير غير مبالية بقدرها القادم، الذي سيقودها الى حتفها الفواجعي المحتوم.
إنّ هذا النّشيج المؤلم، والحزن الدفين المتراكم من خلال الفواجع المتتالية التي صورها لنا الشاعر يقودنا الى ثوابت تكاد لا تخلو من الإفراط بالسخرية من واقعنا المؤلم، والتماهي مع الحقيقة المرة، والحياة المحزنة حيث يصرح الشاعر بأن (القمرُ مازال مُبتلعاً) والعجب كل العجب هنا، بأن يجعل الشاعر القمر مبتلعا، وهو من مواقيت الدنيا للبشر، فإذا صودر القمر، صودرت الحياة، وتلاشى الزمن، واندح المكان، واختفى الضوء عن الكون، وهنا تكمن قدرة الشاعر المهيبة في مصوغات استثمار معالم الانزياح، ليصدر لنا مشهدا مشفرا راقيا.
يتصدّر الشاعر شلال عنوز المشهد، ليقدح لنا شرارة ضوء في آخر النفق المظلم، لبشرنا بأن ثمة ثوابت واقعية حقيقية تنتمي الى الظاهرة الكونية، وتخلص الانتماء الى الصفاء، والبهجة، والمتعة، والخلاص من بواعث الفواجع، والخيبة، ليفاجئنا بحتمية إلهية لا فرار من تصديقها بأن «السماء لم تزل زرقاء»، وهذه الدلالة الرمزية العالية تلامس شغف المتلقي لأنه خرج من هذه الفواجعية الشعرية المؤلمة، الى حيث مصب النهر في الجهة الثانية للخلاص، وأنّ «السماء لم تزل زرقاء» وهذه الضرورة الخلقية الأزلية، هي ملاذ آمن، وجميل المبنى، ازاء ذلك التداعي الحاصل من جراء خرائبية الحروب، والطغيان، والظلم، والجور، والفقر، والفاقة، والحاجة، والتشرد، والجوع، الى حيث العيش تحت خيمة سماء زرقاء، وارفة الظلال.
صادف وأن التقيت مع الشاعر شلال عنوز في إحدى المناسبات، حيث أهدى ليَّ ثلاثة من دواوينه الشعرية، وهن، ديوان مرايا الزهور، وديوان الشاعر وسفر الغريب، وديوان وبكى الماء، وأسرني في حينها بأن قصيدة «السماء لم تزل زرقاء» ستكون موسوم ديوانه القادم الذي سيخرج الى النور قريباً.
لقد زاول الشاعر العراقي شلال عنوز مهنة المحاماة بعد حصوله على درجة البكالوريوس في الحقوق، وقبلها حصل على درجة البكالوريوس في الآداب، لكنه اعتبر مهنة المحاماة هي الكفيلة بالدفاع شعرياً عن الشعب لذا أطلقت عليه لقب محامي الشعب شعراً، فهو يقف على المنصة في محكمة الوطن للدفاع عن المطحونين، والمعدمين، والمسحوقين، والفقراء، والجياع، والمَسروقين من قبل الإخطبوطات التي نهشت ببراثنها السوداء، جسد الشعب، والوطن.
لقد كانت أوراق دفاع الشاعر شلال عنوز التي تأبطها تحت ذراعيه، هي شاعريته الباذخة العلّو، لتكون مصدر إلهامه للدفاع عن الشعب، والوطن، وفق ما يرصده من مشاهد واقعية، ليشتغل عليها، ويحليها الى منطقة التحريض، وصولا لهدفه السامي للوصول الى ملاحق التغيير، ليصبح الوطن معافى، سليما، صلّدا، ويكون الوعي هو المعيار السائد في العقل الجمعي للشعب.
لقد تمحورت قصيدة «السماء لم تزل زرقاء» للشاعر العراقي المهيب شلال عنوز على جملة من المعطيات الفنية، والتقنية، واللغوية التي يمكن معها في رأينا النقدي، اعتبار النص من أفضل النصوص التي عالجت الواقع المجتمعي المعاش، بلغة ذات طابع شعري توثيقي بعين شاعر مكلوم بوطنه، وإحاطة النص بخصائص بنائية صورية عالية، وبأدوات شاعر متمكن من أدواته التوصيلية الفخمة.
فقد تحرّر النص من التظاهر اللفظي المنمق، والتزويق الشعري الملمع، والمثالية المؤطرة بإطار زائف، بل دخل النص الى قلب الحاضرة اليومية المفجعة، ليصور لنا تلك الخرائبية بعين شاعر من الطراز النبيل، لذلك الكم الهائل من الفواجع، والخراب الذي يعيشه الفرد، والمجتمع يوميا تحت نير الاستبداد، والظلم، وغياب العدالة، ويمعن النظر بمناظر تلك الخرائبية التي أحدثتها الحروب، والغوص عميقا ليكشف لنا غياهب ذلك الرياء المستتر بعباءة الدين، ومعالم مصادرة ذلك الفرح اليومي، والمسروق من قبل الساسة، ويصور تلك الفواجعية اليومية التي تعيش تحت نيرها الذاكرة الجمعية، والإشارة الى سيادة الفقر، والتخلف، والجوع على شرائح اجتماعية واسعة.
إنّ قصيدة «السماء لم تزل زرقاء» تُعدُ صرخة شعرية مدوية جالت في أرجاء الوطن، من أجل أن يصحو الشعب من سباته العميق، وهي بالتالي دعوة شاملة للتطهير عبر منافع البث الشعري المُحرض، للخلاص من هيمنة العقول المتخلفة على سدة الحكم، التي أورثت الشعب، والوطن كل ذلك الشتات، والحرمان، وقادته صوب الهاوية.
وعلينا الإشارة هنا على أن الشاعر شلال عنوز يُعدُ من شعراء قصيدة النثر المهمين، واللامعين، والبارزين على مستوى الساحة الشعرية، وهو احد أهم أبرز من كتب في فضاءها، وفي طليعة شعراءها المائزين من جيله، وهو أحد كتابها الذين ساهموا في إرساء نضوجها التأسيسي بعد جيل الرواد في العراق، والوطن العربي.
لقد أخذ الشاعر شلال عنوز على عاتقه الشعري، الكشف عن الحقائق المستترة ليفضح أقزام العصر، الذين حولوا تاريخ هذا الوطن المضيء الى عتمة، واستهانوا بحضارة وطن، امتدت لأكثر من سبعة آلاف عام قبل الميلاد، وعلمت البشرية كيف يكتب الحرف.
إنه نص شعري نثري بالغ الأهمية، حيث استطاع وبحق، تعرية عورات أشباه الرجال من ورقة التوت، ليقفوا أمام الوطن، والشعب، والتاريخ عراة دون أن تغطيهم خياناتهم، وسرقاتهم، وفضائحهم، وإن لا يلامسوا شغف الحياة، لأنهم تجاوزا بإطماعهم النتنة، والمقيتة، والعفنة كل عصور الاستيلاب، والظلم في العصور المظلمة، لتكشفهم وتُحيلهم الى المرايا التي يخشون النظر الى أنفسهم من خلالها، لكي لا يروا ذواتهم الخائبة، وأشكالهم النتنة.
وعلينا هنا تبيان مسألة مهمة للغاية، تلامس الحاضرة الفاعلة في جسد المعنى على ضوء موسوم الدراسة، بأن الشاعر شلال عنوز استطاع وبامتياز شاعر مقتدر، لامع في تجليات انتخاب الصورة الشعرية الواقعية، واشتعل عليها داخل منطقة التحريض بقصدية فاعلة، ومتفاعلة مع جسد النص، فقد استلهم الشاعر صوره الشعرية من الواقع والتي أسست تمظهرات نصه المائز، فهو الشاعر الذي يمتلك أدواته الفنية، وخزينه المعرفي، وتداوله الصوري، والتفرد الشعري الذي يؤهله وبامتياز للتصدي لمثل هذه المهمة الشعرية الصعبة، فلقد أثث فضاء بنائية نصه، عبر فحولة لغته العالية، وتشكيل مشهده الشعري عبر صور متاخمة للواقع المعاش، ونزل الى حاضرة الذاكرة (الفردية + الجمعية) بمعنى حاضرة الإنسان العراقي اليومية، ليشكل مفردات نصه المتفرد، فهو المهموم بمأساة مجتمعه، فجاء إيقاع النص منسجما تماما مع تسلسل الأحداث، مع الاحتفاظ اللائق بالموسيقى الداخلية التي وفرت للنص أجواء استقبالية مثالية، مع تواجد تلك الجرسية الأخاذة التي أنعشت جسد النص، وتجانس ملامح التحريض احدث صدمات متتالية في دائرة الإنصات، ولعل من أهم ما أثثه الشاعر) في نصه الماتع، انه ذهب بذاته الشعرية المحلقة في زمكانية النص ليكتشف عن عوالمه الشعرية، ولم يذهب بخياله الشعري ليؤسس ذلك الفضاء الشعري المؤلم، بل أثث ذلك الإبهار، والتدفق الصوري الجمالي، والفواجعي عبر عينه المبصرة، ورصده الواقعي، ورهافته الشعرية الأخاذة، ولغته الساحرة.
لقد كانت قصيدة «السماء لم تزل زرقاء» ملحمة شاهدة على الحاضرة الجمعية الفواجعية لكي تؤسّس للمتلقي فضاءً من التوحد مع المشهد الشعري المؤثث بعناية فائقة، ليقوده الى فسحات الترجمة الآنية، والتحليل اللّحظي، ليخرج بمنفعتين مهمتين، أولهما المتعة، والدهشة، والمفاجأة، وجاءت هذه التراكمات النوعية من خلال الاستقراء الابتدائي للنص، وثانيهما المطابقة الحقيقية للمشاهد اليومية الخرائبية، الحاصلة بين النص + الواقع ليكون (المتلقي) العين الفاحصة، والرؤيا الناقدة، والرافضة، لتلك الفواجعية المؤلمة التي أحاطت بالوطن، والشعب، لأن القصيدة وبذات حاضرة المحنة، والخراب، والفواجع، تعلن وبقصدية استشراف الأمل أن «السماء لم تزل زرقاء»، وهذه كناية شعرية تعبيرية، وتشفيرية غاية في رقي المعنى، والبناء اللفظي، لأن السماء لما تزل زرقاء، ولن تتحول الى اللون الأحمر، بفعل نزق الساسة، أو بفعل اجتياز العقول البدائية لحدود الوطن، ما دام هناك عرق ينبض في الصدور، وما دام هناك وعي جمعي قادر على الفهم، والدراية، وما دام هناك بصيص ضوء يطلع من تلك العتمة الظلامية الخانقة.
فالسّماءُ لمْ تَزل زرقاء
الحلقة الثالثة والأخيرة