لا يحتاج المتابع الى الوضع العربي الى نظرة ثاقبة ليرى أزماته الحادة العميقة التي تكاد تشكل في مجموعها ازمة عامة تشمل المستويات الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في آن، والناظر المتسرع قد لا يرى في هذا الوضع ما يشير الى آفاق حل لأي من فروع أو مستويات هذه الأزمة ، وقد يرى بدلا من ذلك أن الطريق مفتوحة وسهلة امام الكيان الصهيوني لتحقيق كامل اطماعه وأحلامه، وإقامة دولة يهودية من طراز خاص يستطيع فيها كما اشار هرتزل «الاغنياء اليهود إقامة المآدب دون أن يختفوا وراء الستائر »، وهي رؤية تبدو منطقية من حيث الشكل والموضوع لولا أنها نظرة أحادية الجانب، ترى ما يتحرك على ضفة واحدة من ضفتي النهر.
ولكن إذا حاول أحدنا أن يخرج نفسه من دوامة الإحباط وانعدام الثقة، ونظر الى ما يجري حوله وبالتحديد الى ما يجري في الكيان الصهيوني، فلا شك أن مجال الرؤية يتغير ويتسع وقد يعطي لمفردات الوضع العربي حجوما مختلفة عن تلك التي كان يراها وهو غارق فيها، ذلك لأن الأمور نسبية بطبيعتها والعلاقات بينهما جدلية في الأوضاع الطبيعية.
وليس هناك من أبناء الأمة العربية من لا يرى الأزمة الخانقة التي تعيشها الأمة، لكنه من دلائل اليأس والعمى المطلقين أن يتصور أحد أن الكيان الصهيوني بلا أزمات وفي قمة ازدهاره، وان أموره تسير كما يخطط قادته ، فإذا كانت الدول العربية دولا مأزومة فإن دولة اسرائيل دولة مأزومة ليس بدرجة أقل ، بل ربما أتجرأ أن أقول أن أزمة إسرائيل أعمق وأخطر لسبب أعتقد أنه واضح، وهو أن أزمة اسرائيل تعود الى ما هو أبعد من العابر والمؤقت والمادي لتصل الى ما هو أصيل ودائم وعضوي.
لا أقول هذا لأن موجة من ( التفاؤل التاريخي) قد غمرتني على نحو مفاجئ ولا أقوله لشعور بضرورة أننا يجب أن نكون محكومين بالأمل، فلا قيمة لأمل لا يقف على الأرض ولا ينطلق من الواقع ، ولكنني أقوله عن قناعة ثابتة وراسخة «بعرضية» هذا الوجود الصهيوني الذي يبدو الآن أكثر متانة وواقعية من كل طموحاتنا التي تكاد تختنق في صدورنا وعقولنا ومن رؤية ولكن واضحة للحقائق البسيطة البادية للعيان.
ولو نظرنا الى بعض لقطات الصراع العربي – الصهيوني ولكن بعين أجرأ قليلا مما تعودنا النظر به الى أحداث التاريخ فماذا نرى؟
في البداية نستذكر ونتذكر كم من الوقت والجهد احتاج الأمر من بريطانيا وحليفاتها أولا ، ثم الولايات المتحدة الامريكية وحليفتها بعد ذلك ، حتى تقوم وتستمر دولة اسرائيل . ولا شك أن رجالات الصهيونية البارزين أمثال حاييم وايزمن ودافيد بن غوريون، تصوروا أن أصعب العقبات في طريق حلمهم قد ذللها قيام الدولة، وبالطبع لم يكن ما حققوه قليلا بل كان يستحق أن يفرحوا به، لكن الامور مع ذلك لم تتحقق كما رغبوا وأرادوا ، ومنذ أكثر من سبعين عاما كانوا يربحون وكنا نخسر ، وهذا صحيح ، لكنهم لم يربحوا تماما ولم نخسر تماما حتى هذه الساعة، ربحوا الدولة في العام 1948 وربحوا توسيعها في العام 1967، وربحوا السلام مع بعض الأنظمة العربية وهاهم اليوم يحاولون أن يربحوا السلام مع العرب، ولكنهم حتى الآن لم يغلقوا القضية الفلسطينية ولم يضعوا حدا لوجود أو لنضال الشعب الفلسطيني ، ثم هم لن يصبحوا بعد دولة جزءا من «منطقة الشرق الأوسط» ، وفي الحصيلة لا يجدون أنفسهم في دولة يهودية تخص «اليهود» مثلما بريطانيا تخص البريطانيين أو فرنسا تخص الفرنسيين بالرغم من كل موجات الهجرة اليهودية الى فلسطين ، فالصراع مازال دائرا ، وأنه إذا كان قد الحق بالشعب الفلسطيني والأمة العربية أضرارا فادحة فإنه لم يكن بالنسبة للصهيونية نزهة بلا أضرار، قد يقول المتشائمون: ولكن فرق كبير بين أضرار تقابلها منافع وبين أضرار بلا منافع ، لقد حصل الصهاينة على دولة اسرائيليل وخسرنا فلسطين أو معظمها، وأقول: لم يربحوا دولتهم بعد ولم نخسر فلسطيننا بعد، ومادام الصراع مستمرا فإنه من استباق الأمور أن يقفز المرء الى نتيجة كهذه.
وملخص ما سبق هو انه لا تهم الأرباح او الخسائر قبل حسم الصراع بصورة نهائية ، لأنها بالضبط ارباح وخسائر معلقة وغير نهائية .
أرقام دفترية
إنها ارقام دفترية كما يقول علم المحاسبة والمهم هنا هو استمرار الصراع وما يجري اليوم في فلسطين ومنذ اندلاع الانتفاضات والهبات المجيدة يعتبر من أرقى أشكال الصراع وليس فقط دليلا على استمراره . وإذا كنا في أزمة ، فالمحتلون الصهاينة أيضا في ازمة ، وهنا قد يرد المتشائمون بالقول: ولكن فرق بين أزمتنا وأزمتهم ، فأزمتنا أزمة سقوط وأزمتهم أزمة نمو، وهذا القول أيضا مشكوك فيه، وحتى لا اتهم بالإفراط في التفاؤل فأقول: يمكن أن تبدو المسألة معكوسة .
لننظر مرة أخرى في بعض الوقائع، الإسرائيليون في « دولتهم» والفلسطينيون تحت الاحتلال ، ولكن من يستطيع أن يقول بثقة أن الاسرائيلي في فلسطين يشعر بالأمان والاطمئنان أكثر مما يشعر بهما الفلسطيني تحت الاحتلال؟
قد يقتل الإسرائيليون أكثر من الفلسطينيين وقد يعانون أقل منهم في الحياة المادية ، ولكنهم ليسوا اكثر أمانا في الحاضر ولا أكثر اطمئنانا على المستقبل من الفلسطينيين .
ومن يقرأ الصحف العبرية أو يشاهد نشرة اخبار التلفزيون الاسرائيلي يتأكد من هذه الحقيقة، عندما يشاهد في شوارع تل أبيب أو مدن اسرائيلية اخرى اسرائيليين يتاجرون بالحاجيات المنزلية ليس فقط لأن العديد من العوائل الاسرائيلية لا تستطيع ان تعيش لنهاية الشهر بالراتب التي تتقاضاه، بل ولأنها توفر المال لشراء بطاقة سفر الى امريكا أو استراليا أو نيوزلندا للفرار من « الجنة اليهودية». بالرغم من الجيش القوي والتعاطف والدعم التي تلقاها اسرائيل من أقوى دول العالم.
إسرائيل تعاني من عاهة خلقية، طفل يعاني قصورا في وضائف القلب جاء معها بالولادة وبالرغم من كل انتصاراتها العسكرية والسياسية لا تزال مهددة في « الوجود» ، ومجرد اخراجها من « العناية الفائقة» لن يكون امامها إلا الموت، وعندها تصبح كل انتصاراتها بلا فائدة ، تلك هي أزمة اسرائيل الأولى أزمة الوجود فماذا عن الأزمة الثانية؟
خرافة أرض الميعاد
لقد قامت الحركة الصهيونية على عدة مزاعم معروفة أولها ان فلسطين هي «أرض الميعاد» وان اسرائيل «ملجأ آمن ليهود العالم» أضحت مجرد خدعة يريدون تمريرها على مئات الألوف من السذج الذين لم يجدوا في فلسطين هذا» المأمن» ويرد الإسرائيليون متعاطو المخدرات وبشكل مباشر على أسئلة الصحافيين: أن السبب الرئيسي لرغبتهم القاتلة هذه هو الخوف الدائم من حروب جديدة مع العرب، كما ان الذين جلبوهم لم يلاحظوا أو « لاحظوا» وهم يفعلون ذلك انهم ينشئون مجتمعا خليطا غير متجانس ، ويزرعون مجموعات غير متجانسة في بقعة جغرافية ترفضهم ووسط أناس معادين لهم، إن السكان الحاليين ماعدا العرب – في اسرائيل هم مهاجرين على العموم أو احفادهم جلبتهم الصهيونية من أكثر من 120 بلد من بلدان العالم ويتكلمون 60 لغة .
إن تحول الإسرائيليين المهاجرين مواطني عشرات الدول ، اناس كما هو معلوم لا يمتون بالصلة أحدهم
بالآخر من وجهة نظر ماضيهم الواقعي التاريخي وثقافتهم ولغتهم ونظام قيمهم الاجتماعية ، الى جسم اجتماعي سياسي في إطار الدولة الموحدة يعتبر في حد ذاته مسالة معقدة للغاية حتى إذا ما توفرت لذلك أفضل الامكانيات ، بالإضافة الى ذلك العنصرية والتفرقة العنصرية التي يقوم بها الصهاينة ليس ضد العرب وحدهم او ما عداهم من غير اليهود.
فوفق روح وجوهر اليهودية اللذان يشكلان أساس الايديولوجية الصهيونية ، وفق ما جاء في كتاب» الى الغرب من نهر الاردن» للكاتب البولوني انجي جيرو مسكي «ليس هناك مكان في العالم لتقسيم الناس عموديا وافقيا وحسب الخط المائل او داخل مربعات أو دوائر الا في اسرائيل». وفي كل الحروب التي خاضتها دولة اسرائيل كانت تستهدف الحصول على قرار عربي بدولتهم ، وقبولها كجزء من المنطقة ، ونسي القائمون على الدولة العبرية انهم حتى لو تحقق لهم ذلك على المستوى السياسي والقانوني ، فإن طبيعة الدولة وطبيعة « العينة البشرية « التي جمعتها من كل اصقاع العالم لن تسمحا بتحقيق الانسجام مع المحيط على صعيد الواقع المعاش، ذلك لان تلك « العينة ليست من هذه الارض ولن تشعر يوما بالانتماء اليها كما تنتمي الشعوب للأرض ، وعلى مدار السنوات التي تلت اعلان الدولة العبرية ، كانت الدعاية الاسرائيلية تشدد على اعتبار اسرائيل جزء لا يتجزأ من منطقة الشرق الأوسط، لكن الواقع ان معظم الاسرائيليين لا يرون انفسهم الآن كأفراد ينتمون الى الشرق الاوسط ، ولكنهم جزء من الدول الغربية ، أن عدم الشعور بالانتماء لدى الإسرائيليين لا يقتصر على الغربيين، بل يشمل ايضا اليهود الشرقيين، وأساسا من الذين هاجروا من الدول العربية حاولوا المحافظة على بعض عاداتهم وتقاليدهم الشرفية، ومن السهل التأكد على عدم انتماء الاسرائيلي ليس فقط لشعوب الشرق الأوسط بل كذلك لدولة اسرائيل ذاتها، فكم من
الحوادث أظهرت انه ليس أسهل على الاسرائيلي ولا أقرب الى ذهنه في حالات الازمة من الهجرة والنزوح خارج اسرائيل، ومجرد نشر تكهنات بوقوع حرب في المنطقة توقف الهجرة الى اسرائيل وينشط النزوح منها.
إن دولة تقع تحت ضغط ازمتين من هذا النوع : أزمة الوجود وازمة الانتماء، يظل مشكوكا في مقدرتها على البقاء والاستمرار مهما كانت المعطيات الراهنة مضللة ومهما بدت في « صحة جيدة» ، وبالتأكيد يظل ممكنا التغلب على البطالة او الركود الاقتصادي أو حتى المشاكل الحدودية مع بعض الدول ، لكنه من شبه المستحيل مواجهة انعدام الثقة بالقدرة على الاستمرار أو تهديد الوجود ، أو انعدام الشعور بالانتماء، ولن ابالغ عندما اقول : إن أزمة اسرائيل أعقد وأعمق من كل أزماتنا العربية ، فنحن في النهاية أمة راسخة في ارضها ومهما تذابح بعض ابنائها يظلون» إخوة يتذابحون» وعند نقطة معينة يعثرون على خلاصهم الجماعي . المهم أن يستمر الصراع. وإذا كنا اليوم غير قادرين « لتفرقنا» على حسمه لصالحنا، فإننا قادرون ولا بد ان نكون قادرين على إدامة الصراع مع الصهيونية وكيانها إسرائيل، لأنه طريقنا الوحيد الى الانتصار، فهو وحده قادر على تعميق أزمات كيان الاغتصاب الاسرائيلي.