إن التربية الحسنة هي التي تقوم ببناء الوعي لدى الناشئين، وغرس حب التطلع إلى المثل العليا والأهداف الكبرى، وقد جاء القرآن الكريم ليربي أمة فاضلة واعية، وينشئ مجتمعا منسجما متعاونا، ومن هنا يظهر جليا ذلك الدور التربوي الذي تتحمله المدارس القرآنية؛ كتعزيز القيم النبيلة، والأخلاق الجميلة، فالطلبة يأخذون عن أساتذتهم القدوة أكثر مما يأخذون عنهم التلقين؛ لأن المشرفين على تعليمهم مربون فضلاء شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية؛ إذ قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلّمه».
إن دور المدارس القرآنية في تربية النشء مهم للغاية؛ لأنها توسع مدارك الأطفال، كما تجعل منهم مواطنين صالحين يعرفون حق الله، ويحترمون حقوق الناس، وأوفياء لأسرهم، ومخلصون لوطنهم ولأمتهم وللناس جميعا، لا يعرفون زيغا، ولا تطرفا، ولا عنفا (والشواهد على ذلك لا تعد ولا تحصى).
إن دور المدارس القرآنية تعلم المنتسبين إليها قواعد التجويد؛ فتربي فيهم الدقة والإتقان، وتحبّب إليهم الصوت الندّي الجميل، فتغرس فيهم الذوق السليم، والأدب الرفيع؛ فلنتأمل كيف يسأل تلاميذ المدارس القرآنية بأدب جم بديع، ثم يسمعون بأذن صاغية، وقلوب واعية.
إن حب الجزائريين لدينهم وقيمهم ووطنهم دفعهم إلى تشييد المدارس القرآنية بسخاء، فانتشرت في كل مكان حتى بلغت الآلاف، يرتادها عشرات الألوف من البنين والبنات، فظل القرآن الكريم حيا ينبض في صدور كثير من الفتيان والفتيات، والأمهات بل والجدات، وحظي بمكانة رفيعة جدا في قلوب الجزائريين، فلقد حرص الآباء على تعليم صغارهم القرآن منذ سن مبكرة، فلا يكاد يبلغ الصبي الرابعة من عمره، حتى يبعثه أولياؤه إلى المدرسة القرآنية بالمسجد أو الكتاب أو الزاوية؛ لدورها الكبير في اكتساب الأطفال لقاعدة لغوية متينة، ولمنظومة قيمية وخلقية أصيلة، وفي غرس معالي الأمور في عقولهم، ورفيع المنازل في قلوبهم.
إن القائمين على جمعيات تحفيظ القرآن الكريم يقومون بجهد كبير وعمل مشكور في الحفاظ على النشء؛ لتحصين مجتمعنا من الانحراف الفكري، ولكن الحديث عن هذه النقلة الطيبة ليس معناها أن مدارسنا القرآنية قد حققت المطلوب، بل لا تزال بحاجة إلى تطوير مناهجها؛ بتوفير العنصر البشري المتأهل، فليس كل من هب ودب يصلح لهذا الأمر، وضرورة الاعتناء بالطلاب المتميزين والطالبات المتميزات؛ بتنمية مهاراتهم وتطوير قدراتهم، ووضع البرامج العلمية والتثقيفية والتربوية لتهيئتهم تهيئة مستقبلية؛ ليتأهلوا للقيام بمهام إدارية وتعليمية، بإقامة مركز متخصّص أو معهد تدريبي ترعاه مؤسسة رسمية أو خيرية شكلا ومضمونا.
فليس حفظ القرآن هو الغرض فحسب، بل لابد من تعليم الطلاب فهمه ومعرفة معاني آياته وفق مقتضيات العصر، وتعليمهم كيفية العمل بآياته وتنزيلها على واقعهم، وربط القرآن بحياتهم؛ لإيجاد الحلول المناسبة لمشكلات عصرهم؛ ولتحقيق ذلك نصبت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف لجنة خبراء متخصصين في التربية والشريعة الإسلامية؛ فقدمت مشروع منظومة تعليم قرآني شاملة في الجزائر، وصاغت نظاما تعليميا موحدا للمدارس القرآنية، ووضعت نظاما قانونيا داخليا لها، وأعادت تقنين القطاع وتنظيمه، وقررت منح شهادات رسمية للطلبة تحدد بدقة مستوى كل طالب بناء على ما حفظه من القرآن، تخول لصاحبها الترشح بها لمسابقات الإمامة والتكوين الديني في المعاهد وغيرها من التخصصات.
لقد شدد وزير الشؤون الدينية والأوقاف الدكتور محمد عيسى على أن مصالحه تعمل على تسوية وضعية المدارس القرآنية التي لم تلتزم بالتشريع المنظم لها؛ كمخالفة المرجعية الدينية الوطنية، وكإنشاء مدرسة قرآنية في طابق من عمارة، وذلك من خلال الاطلاع على البرنامج التي تعتمده والشروط الأمنية، كما أكد على أن اللسان الذي تعلم به المدارس القرآنية هو اللغة العربية، ولا تبديل بالدارجة ولا غيرها، مشيرا إلى أن المدارس القرآنية ستواصل جهود الإصلاح الإيجابي البناء. وتهدف هذه الإصلاحات إلى تفعيل المدارس القرآنية في الجزائر، وتحصين طلبتها من الانحرافات الفكرية المختلفة؛ لمواصلة رسالة المجاهدين والشهداء، وللمحافظة على المرجعية الدينية الوطنية، والهوية الجزائرية، والأمن الفكري، والانسجام الاجتماعي الذي حافظ عليه خريجو المدارس القرآنية الجزائرية في كل مكان رغم تقلبات الزمان.