أصبح التعليم الجامعي والمهني هو المعيار في أية نقلة حضارية أو تقدمية في الوقت الراهن، وفي هذا الصدد، يقول جورج بوش في خطاب له أمام منتدى وادى السليكون: « أنه على الناس ـ يقصد الأمريكيين ـ إن يفهموا أننا إن لم يتعلم أطفالنا في المدارس والجامعات الرياضيات والعلوم فإن الوظائف سوف تذهب للدول الأخرى». ولقد قصد من هذا الكلام أنه يجب عليهم التعلم للمحافظة على زعامة العالم علميًا واقتصاديًا.
لقد شعرت الدول المتقدمة بأهمية هذه المراكز وما تقدمه للدولة، ومن بين هذه الدول على سبيل المثال لا الحصر نجد انجلترا قد سعت جاهدة إلى حرية الاختيار للتلاميذ بين المدارس الأكاديمية المؤهلة لدخول الجامعات وبين مدارس الفنية (مراكز التكوين المهني) التي تؤهل لسوق العمل. ومما دفعها إلى تعديل في سياستها التعليمية هو حاجتها إلى اليد العاملة المؤهلة والتي تتماشى مع متطلبات العصر؛ فعمدت الحكومة المركزية سنة 1986 بإنشاء شبكة من المدارس الثانوية سميت بكليات المدن التكنولوجية وتبعتها بمدارس مماثلة في المدن الداخلية والهدف منها إعطاء للتعليم المهني مكانة مساوية للتعليم الأكاديمي.
وعليه فقد أصبح التعليم المهني على المستوى العالمي يتقدم بخطى سريعة جدًا ومتطورة في الوقت الذى نجد فيه الجزائر في أزمة خانقة، إذ أصبح المواطن الجزائري إذا احتاج إلى بناء أو سباك أو كهربائي…إلخ كأنما يبحث عن إبرة في كومة قش ولو وجده فيجد نفسه في طابور الانتظار مدة شهر أو يزيد!
بلا شك أن من بين الاسباب التي أدت إلى انهيار الصناعة في الجزائر هو عزوف الشباب في الالتحاق بمراكز التكوين المهني. ولهذا الشأن فقد أجرت منظمة اليونسكو دراسة على هذه الظاهرة في الدول النامية فأسفرت هذه الدراسة على النتائج التالي: أن من أسباب هذه الظاهرة هي احتفاظ هذه الدول بالأنظمة القديمة التي عفا عنها الزمن والتخصصات التي لا تحقق الرغبات المطلوبة للشباب، زيادة على ذلك نظرة المجتمع الاحتقارية لهؤلاء المتربصين في التكوين المهني، إذ يعتبرونهم تلاميذ فاشلين ومشاغبين. وهذا الاحتقار اشتمل كل المهن يدوية والحرفية مثل البناء والحداد والنجار والميكانيكي والسباكة ..إلخ . متناسين أن لهؤلاء دور كبير في الحياة اليومية ونضيف إلى ما ذكرته دراسة اليونسكو وما قمت به من سبر للآراء بعض الشباب العاطلين على العمل والذين لا يحملون شهادات مهنية فقال: « كيف لي أن أتربص في التكوين المهني ومشروع دعم الشباب أضحى بديلا سهلا لنا». ؟!
لقد أصبح الشاب بين عشية وضحاها يملك سيارة أو شاحنة أو عتاد يساوى الملايين مما دفع به إلى العزوف عن هذه الحرف الموجودة بالمراكز المهنية عبر التراب الوطني.
ومنهم من قال: « أريد الالتحاق بصفوف الجيش الشعبي الوطني الذي أصبح حلمًا لبعض منهم». وفي هذه الحالة يكون الشاب في حالة من الترقب والانتظار بعدما يكون قد استخرج كل الوثائق اللازمة لهذا الغرض وقد يضيع وقتًا طويلا جدًا في الانتظار فلا هو التحق بالجيش الوطني، ولا هو نال شهادة مهنية قد تكون سببًا في رزقه ورزق عائلته.
يقول آخرون: إن التخصّصات الموجودة في أقرب مركز لا تتماشى مع رغباتنا!.
وقد نجد اختصاصات في بعض الأحيان لا تتناسب مع طبيعة المنطقة أصلا. بالرغم من أن الدولة الجزائرية قد اهتمت بهذا الجانب فقد زادت عدد المراكز التعليم المهني والتمهين من 495 مركزًا عام 1999 إلى 1035 مركزًا في السنة الجارية، بحسب تصريح وزير التكوين المهني.
من المعلوم أن هذه المراكز تكلف الخزينة العامة مبالغ كبيرة وتكلف أكبر، مما تكلفه الثانويات والمتوسطات لأنها تحوي على الآلات ضخمة مثل الآلات الخراطة والنسيج وجهاز سكانر السيارات وغيرها قصد تدريب الشباب على كيفية استخدامها.
قد أصبحت مراكز التكوين المهني والتمهين شبه خالية بالرغم من الدعاية والاعلان المتواصلين، فهذا الوضع يستدعى إعادة النظر ومعالجة هذه الظاهرة في أسرع وقت وسأحاول اقتراح بعض الحلول لهذا المشكل العويص، قصد جلب الشباب إلى مثل هذه المراكز. أولا وهي تخصيص منحة شهرية لا تقل عن 4000 دج شهرية لكل متربص، وفتح الباب للمتربصين بحسب طبيعة المنطقة فالمدن الساحلية يجب أن تفتح تخصصات تخص الملاحة والصيد البحري وتربية الأسماك، وفي المدن الفلاحية الداخلية تفتح تخصّصات فلاحية وما يختص بها.
بالإضافة إلى فرض الشهادة المهنية في ملف الانخراط لمن يرغب في التعاقد في صفوف الجيش الوطني للذين لم ينالوا شهادة البكالوريا. ويمكن أيضا تقليص مدة الخدمة الوطنية بالنسبة لحاملي الشهادات المهنية، كما هو الحال في بعض الدول، إذ جعلت مدة الخدمة الوطنية ثلاث سنوات بالنسبة للأميين، وسنتين بالنسبة لأصحاب الشهادات المهنية وسنة واحدة بالنسبة لخريجي الجامعات.
كذلك اشتراط على أصحاب الشركات احتواء وتوفير مناصب شغل هؤلاء المتربصين في شركاتهم مع تخصيص مرتبات مجزية لهم. وكذلك إتاحة للمتفوقين مواصلة دراستهم في الجامعة، إذا ما أثبت الطالب جدارته وتفوقه في تخصص معين، ويتاح لأي متربص التسجيل في أي مركز من مراكز الوطن يرغب في الانخراط فيه، وتوفير الايواء له. هذا وعلى أمل أن تصير الجزائر قطبًا في الصناعات والحديثة والمتطورة منافسة للدول المتقدمة في مجالات عدة وذلك بفضل الجهود الجبارة التي تبذلها الدولة وعلى رأسها فخامة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، متّعه الله بالصحة والعافية.