مثقف تعدّدت مواهبه ومؤلف كتابات مرجعية في الفقه
الفقيه العالم، العلامة، من طراز كبار الشهير المتلائم النسب والعرض المتمثل في شخصية واحدة يزن ذلك كله ببساطة المسلم الصادق المتشبع بالفضيلة. تتلمذ على يد جماعة من الأعلام في مقدمتهم شيخ المفسرين والنجاة أبو عبد الله محمد بن عباس، على حد تعبير الونشريسي، وأبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني.
ولد بجبال الونشريس، غرب الجزائر، عام 1431م، رحل إلى مدينة تلمسان، حيث درس على مشايخ المدينة منهم الشيخ أبو الفضل قاسم بن سعيد محمد العقباني الناقد وتولى قضاء تلمسان. صفحة «أعلام الجزائر» تتوقف عند هذه الشخصية البارزة وترصد مسارها ومسيرتها العلمية والفقهية التي تعد مرجعية في الظرف الراهن التي يعرف بتنامي أفكار التطرف والتكفير والتشويش على ديننا الحنيف.
ركزنا في بحثنا هذا عن حياة الونشريسي باختصار، فالظروف التي عاشها تشكل نقطة تحول من مسقط رأسه بالجزائر إلى المغرب، خرج إلى الحياة من جو من التصدع و تفرق الشمل .
فالدولة الزيانية فشلت في ردع الشعب و توحيد الكلمة، كثر النقاش بين العباس المعتصم بالله و أخيه ثم بين الأحفاد و في هذه الحالة رحل الونشريسي إلى فاس من سنة 874هـــ و في هذا الصدد يقول ‘’ الدكتور محمد حجي في مقدمة المعيار ‘’ لما بلغ احمد الونشريسي أشده وبلغ أربعين سنة و هو يومئذ قوال للحق لا تأخذه في الله لومة لائم .غضب عليه السلطان الزياني و أمر بنهب داره فخرج إلى فاس. فهذا العالم الرباني في أعماق الفقه حاملا مصباح النور الديني والعقلي مبدأ جحافيل الظلام، ظلام الجهل و هو في كل هذا يدفعه، فكر حر و إرادة صحيحة لإرساء دعائم المعرفة التي يبحث في ضوء أمل أن يجد العاملون في المنهج الرباني وهذا النوع من العلماء يعجز القلم و اللسان كتابة ما يجب كتابته و قوله أمام عمالقة فقه المذهب المالكي الحامل لوائه.».
يمزج الونشريسي في بلاغة منطقية دقيقة و عميقة بصياغة فنية ثمينة ومما يسجل لقوته العلمية أنه خصص له كرسي من الكراسي العلمية بفاس و هو كرسي الفقه لتدريس المدونة وبأهم المدارس مدرسة المصباحية.
تعتبر الجامعة مؤسسة علمية اخترعت الكراسي العلمية المتخصصة والدرجات العلمية في العالم تخرج فيها علماء الغرب و قد بقيت الجامعة العلمية مركز للنشاط الفكري و الثقافي والديني قرابة الألف سنة جامعة القرويين الأقدم في العالم كمؤسسة تعليمية بجامع القرويين و الذي قامت ببنائه السيدة فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني عام 245 هــــ / 859 م في مدينة فاس درس فيها سيلفستر الثاني الذي شغل منصب البابا من عام 999 هـ إلى 1003 م ويقال أنه هو من أدخل بعد رجوعه إلى أوروبا الأعداد العربية، كما أن موسى بن ميمون الطيب والفيلسوف اليهودي قضى فيها بضع سنوات قام خلالها بمزاولة التدريس في جامعة القرويين .
إضافة إلى هذا الكرسي باسم الونشريسي فالشرف يلحق هذه السلالة في كل وقت كان مشاركا في فنون العلم، إلا أنه لازم تدريس الفقه ويقول: ‘’من لا يعرفه، لا يعرف غيره’’، و قد قال شيخ الجماعة الإمام محمد بن غازي حيث مر به أحمد الونشريسي يوما بجامع القرويين لو أن رجلا حلف بطلاق زوجته أن أحمد الونشريسي أحاط بمذهب مالك أصوله وفروعه و براعة لفظه بعيد عن العاطفة التي يمقتها لكان بارا في يمينه و لا تطلق عليه زوجته بكثر اطلاعه و حفظه و إتقانه، لقد تمكن من العلم الغزير و رسوخه فيه وملم بها غاية الإلمام .
موسوعة علمية واجهت الحملة الصليبية
لقد كان الغزو الصليبي على الشمال الإفريقي و كان مصحوبا بغزو فكري متمثل في الحملات التنصيرية التي مارسها المسيحيون على مرأى ومسمع من السلطان وأعوانه و تنشر المصادر الأجنبية المصير المأساوي ‘’ مرتان دوسيوليت’’ على يد سكان فاس الذين عمدوا إلى إحراقه في مشهد عام بعد ما تجرأ وبدأ ينشر المسيحية بين سكان المدينة المسلمين.
لقد أثرت هذه الحملة أثارا سلبية في المجتمعات الإسلامية و بهذه الوضعية أنشأت طوائف وقد لبسوا ثقة الناس من الجهل و حصلوا على أموال كثيرة، وقد وجدوا بفاس بعض الأشخاص يمارسون أعمالا غير شرعية، أن المطالع لمكانة الونشريسي العلمية يدرك انه كان موسوعة علمية في كل الميادين وهذه السمة تكونت عنده لتلقيه العلم عن كبار علماء عصره في المغربين الأقصى والأوسط فبلغ بذلك غاية كبرى في مجال التأليف.
ترك العالم الجليل رحمه الله كتب كثيرة منها «المعيار المعرب و الجامع المغرب» عن فتاوى و علماء إفريقيا والأندلس. واحتوت بفاس الكتب و كان فرغه من تاليه في الثامن و العشرين من شوال عام 1495 بقي ينقحه و يضيف إليه حتى وفاته ولذا فاهتمامه بهذه الموسوعة الفقهية ناهز ربع قرن.
كتاب الولايات في مناصب الحكومة الإسلامية و الخطط الشرعية اعتنى بنشر وترجمة للفرنسية مع بعض الملاحظات عليه. ويعرف أيضا بالقواعد الفقهية قال محمد الحجوي ‘’جمع نحو مائة قاعدة فقهية بني عليها الخلاف المالكي و لكن كلها أو جلها مختلف في فروعها، فهو كفلسفة فقهية مفيدة’’.
ذلك هو شيخنا احمد الونشريسي مثقف تعددت مواهبه و تلونت معارفه كان عالما متواضعا زاهدا ورعا رغم المحنة التي كانت جرحا في القلب. غير انه كان طاهر السريرة، ألا ما يقتضي توكيدها ويوجب تجديدها بكثر اطلاعه وحفظه وإتقانه، لقد تمكن من العلم و رسوخه فيه لم يشغله التدريس وتربية أبنائه عن التأليف فقد خلف رحمه الله كتبا عديدة و ألف تأليفا مفيدا وهذا الكتاب يتضمن مجموعة من الأسئلة والأجوبة وضعها الونشريسي عام 871 هـ بتلمسان وبعث بها إلى أستاذه عبد الله القوزي بفاس وأيضا المالك الذي يضم مائة و ثماني عشرة قاعدة .إنها أهمية قصوى عند المالكية و لدى أئمة المغرب و التي يتطلب على المفتي قراءتها و استحضار قواعدها قبل إصدار الفتوى.
عرف احمد الونشريسي انه كان شديد الشكيمة في دين الله لا تأخذ لومة لائم له مع أمراء وقته كثير الاتصال، وقد كان نشأ في عهد السلطان أو عبد الله محمد بن أبي ثابت المتوكل على الله الزياني الذي اشتهر بتشجيعه للعلماء ورعايتهم غير أن إخضاع أحمد بن يحيى الونشريسي فصادر أمواله و اقتحم عليه دار فهدمها و نجى الونشريسي منها بسلام و غادر تلمسان مكرها متوجها إلى فاس بالمغرب الأقصى سنة 874 هـ 1469م .