مسارات الصّعود والنّزول في المتّصل الحضاري

نحو تصحيح مغالطات «علم» الأهالي عن التنوع الثّقافي والتّجانس المجتمعي في جزائر الأمس واليوم

بقلم: د ــ محمد العربي ولد خليفة

الحضارة: المخاوف من السّقوط والانهيار
إنّ الارتقاء أو الانحطاط في مقياس مكانة الحضارات لا يخصّ أمّة أو جنسا بعينه، إنّ الأمم الموصوفة بالبدائية أو المتخلّفة اليوم عرفت حضارات مزدهرة في قرون سابقة،بمقاييس عصرها، كما هو الحال في شعوب الأزتيك والمايا في جنوب أمريكا قبل أن تجتاحها مدافع الكونكويستا الاسبانية والبرتغالية والبريطانية والفرنسية، وما قامت به من عمليات الإبادة والتمسيح القسري في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وكذلك امبراطورية سونغاي في حوض السينغال وامبراطورية مالي في منطقة الساحل، قبل أن تتمزق ويعاد توزيع أجزائها في كيانات حسب مخططات الكولونيالية ومصالحها في القارة، ونلاحظ مضاعفات ذلك التقطيع والتوزيع التعسفي في مناطق كثيرة من غرب وشرق إفريقيا، ولم يجد أعضاء منظمة الوحدة الإفريقية ثم الاتحاد الإفريقي من حل للخلافات الحدودية سوى المحافظة على الحدود كما هي، وهو حلّ يعتبر أخف الضّررين، ولذلك يعتبر احتلال الصحراء الغربية خروجا عن الاجماع الإفريقي وسابقة خطيرة ينبغي تصحيحها بتمكين شعب الصحراء الغربية من تقرير مصيره وإقامة دولته ضمن مجموعة الدول المغاربية والإفريقية.
والملاحظ أن المغرب الذي انتهك الاجماع الإفريقي هو البلد الوحيد مع إسرائيل الذي ليست له حدود جغرافية نهائية، إذ أنّ مسؤوله الأول الذي يحمل عنوان السلطان والملك
وأمير المؤمنين ينتهز كل فرصة للتوسع إما نحو الجزائر (سنة 1963) أو نحو موريطانيا بمجرد استقلالها سنة 1960، وتصل أطماعه التوسعية إلى حوض السينغال، فهل تقبل النخب المغاربية الواعية بمعطيات هذا القرن مثل هذه المغامرات بدل التعايش والتعاون بين شعوب تواجه نفس التحديات وبينها كثير من الروابط التاريخية والمصالح المشتركة؟
إنّ الأمم التي تعتلي قمة حضارة اليوم كانت أقرب إلى التوحش والبدائية قبل عدّة قرون كما هو الحال بالنسبة للوندال والفيكينغ والجرمان والغول في شمال وغرب أروبا، فقد كانت قبائل تعيش على القرصنة والسلب والنهب، وأقرب إلى التوحش العدواني.
من هذه الحقيقة التاريخية أخذت مسألة الصعود والهبوط الحضاري أهمية بالغة بين الساسة والفلاسفة في الغرب بين الحربين العالميتين، وحتى قبل ذلك وهي تطرح في فلسفة الحضارة والأخلاق والتاريخ إشكاليات محل جدل إلى اليوم، وقد خصّص الأكاديمي الأمريكي ر.ستارن (R.Starn) في بحث نُشر سنة 1957 حلّل فيه مجموعة من الكلمات تشير إلى التقهقر والانحلال الحضاري الشائعة في أدبيات تلك الفترة، صنّفها حسب المعنى الذي تشير إليه أو يغلب على الظاهرة نذكر منها:
Conversio - Inclination - Lapaus - Fall -Leversio - Subversio - Vacillacio
وتشير كلها إلى اتجاه نحو الأسوأ. R. Starn: Meaning levels in the theme of historical decline N.Y 1957
شغل ذلك التوصيف والتحليل عددًا من الباحثين في فلسفة التاريخ وتاريخ الحضارات، وفي الفلسفة والأخلاق وفروع علوم المجتمع، والمقارن منها بوجه خاص، تستقرئ تلك الدراسات عظمة وأفول الحضارات وعلاماتها في الوقت الراهن عن طريق متابعة الظواهر التي تؤدّي إلى فقد قدرتها على التحوّل والتطوّر أو لإصابتها بما يسميه بعض الفلاسفة مثل توكفيل Tocqueville وغوبينو Gobineau ورينان Rinan  بمرض العصر (Le mal des siècles) أو التعب الروحي وما يعتبره بعض الفلاسفة الألمان مثل هلدر Helder وشبنغلر بتدهور الجنس أو العنصر Dégénérescence .
وقد اهتمّ الباحثون في بريطانيا بمسألة التدهور الحضاري في وقت مبكّر عند غودمان Goodman، وخاصة بيكون F.Bacon الذي اطّلع في القرن 17 على مقدّمة ابن خلدون وهو يستعمل نفس عبارات المقدّمة يقول: تبدأ الدولة في الانهيار والتدهور كلما أصابتها الطراوة والليونة Soft and effiminate.
يقول ابن خلدون في المجلد الأول من مقدّمته:
«لما كانت البداوة سببا في الشجاعة...لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشدّ شجاعة من الجيل الآخر، فهو أقدر على التغلّب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم، بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعمار، فكلّما نزلوا من الأرياف وتفتّكوا التعليم...نقّص من شجاعتهم بقدر ما نقّص من توحّشهم وبداوتهم».
إنّ تفسير ابن خلدون لعوامل القوّة والغلبة والضّعف والترهل بالتحضّر والبداوة قبل ما يزيد على سبعة قرون، وأيّده في تفسيره فرانسيس بيكون في القرن السابع عشر كان لها أثر كبير في النظريات السوسيولوجية والتاريخ السياسي والحضاري للأمم والإمبراطوريات المتعاقبة، وهي تذكر بأطوار النمو عند الكائنات الحيّة مثل الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة والموت، وقد جاء في الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، مِنْ قَبْلُ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {سورة غافر الآية 67}.
نجد فكرة الدورة الحضارية عند فلاسفة التاريخ مثل أرنولد تونبي في القرن العشرين، وتحت عنوان صراع الحضارات عند صومويل هنتنقتون S. Hutington أي أن بقاء حضارة وقوتها يتطلب إزالة حضارة أخرى مختلفة أو منافسة وتشغل مسألة الانهيار الحضاري مفكري الغرب الأروبي الأمريكي الآن نجدها مثلا عند ف.بروديل F.Braudel في دراسته بعنوان قواعد لقراءة الحضارات Grammaire des civilisations و ج.ديامون J.Diamond
بعنوان الانهيار L’effondrement ور.فرانك R.Frank بعنوان Decline، وقد نشرت الباحثة الأمريكية إمي تشوا Amy Chua بحثا موثقا عن نشأة وسقوط الحضارات بعنوان Day of empire سنة 2007 نقله إلى العربية م. م. محمود صالح بعنوان عصر الإمبراطورية، سنة 2009.
وفي نهاية التسعينيات شكّلت الإدارة الأمريكية فريقا من الباحثين في الاستراتيجية والاستشراف والعلاقات الدوليّة والإقتصادية والتكنولوجيا المتقدّمة إلخ...للإجابة على السؤال التالي: كيف سيكون موقع الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين: الفرص والمخاطر؟ كما كان المحور الأول للمناظرة الانتخابية الأولى بين المرشحين لرئاسة الولايات المتحدة هو مستقبل أمريكا في العالم (27 / 09 / 2016)، كما خصّصت الأسبوعية الفرنسية لوبوان (Le point) عددين لمسألة الانحطاط، الأول بعنوان المرض الفرنسي 02 / 06 / 2016 والثاني بعنوان كيف تموت الحضارات بتاريخ 04 /08 / 2016 مرفوقا بخريطة بعنوان مقبرة الحضارات منذ آلاف السنين.
ومن الأعراض المشتركة التي تسبق الانهيار الحضاري انتشار كراهية الحاضر واليأس من المستقبل وتفكّك مقوّمات الدولة، كما جاء في توصيف المقدسي لحال الخلافة العباسية الذي أشرنا إليه في بداية هذه الورقة والدراسة المستفيضة التي قام بها الباحث البريطاني الموسوعي إدوارد جيبون (E.Gibbon) بعنوان تاريخ تهلهل وسقوط الامبراطورية الرومانية 1788، وهو يرى أن من أسباب انهيار الإمبراطورية الرومانيةالشاسعة الهجمات المتكررة للبرابرة Barbares  وتأثير المسيحية التي أحدثت ثورة أضعفت روما من الأطراف إلى المركز.
بالإضافة إلى التحليلات والتفسيرات التي قدّمها المختصون في فلسفة التاريخ ونشأة وسقوط الحضارات، فإن هناك أسبابا أخرى لم يكن من الممكن توقعها أو الوقاية منها في القرون القديمة، منها الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات (تسونامي) والزلازل والبراكين والطوفان والأوبئة مثل ما حدث لجزيرة أطلنطس Atlantes التي غرقت تماما في البحر وتحدث عنها أفلاطون في القرن الثالث قبل الميلاد في محاورته بعنوان قريطياس، وهي حكاية بين الأسطورة والخيال التاريخي، لأن وصف أفلاطون لما وصلت إليه حضارتها يفوق أثينا وكل حضارات ذلك العصر، ولعلها صورة للمدينة الفاضلة كما تصوّرها في كتاباته في الجمهورية وفيدون.
مساهمة الجزائر في المتّصل الحضاري: مقوّمات تواجه الانكار والتّشويه
كيف نقرأ موقع الجزائر الحضاري على خريطة عالم الأمس واليوم؟
تتطلّب الإجابة على هذا السؤال استقراء ماضي يزيد على ثلاثة آلاف عام، ووجود موسوعات علميّة شاملة ومفتوحة يشارك فيها أكاديميون من مختلف الاختصاصات بما فيها علماء الآثار (الأركيولوجيا) في شكل مؤسسة مستقلّة تنظيما وماديا، وقد حاولنا في إطار المجلس الأعلى للغة العربية التحضير لهذه المؤسّسة إلى درجة اقتراح تنظيمها الداخلي وبداية أشغالها في عدّة لقاءات، ولكنّها مع الأسف لم تعمّر أكثر من بضعة أشهر واختفى الاهتمام بها في الأوساط الجامعية وخارجها، مثلما تأجّل مشروع التاريخ العام للجزائر ولم يخرج من قاعات الوزارات ومنها وزارة المجاهدين، ولم تتمكـن المديريـة العامـة للأرشيـف الملحقـة برئاسة الجمـهوريـة من تنشيط هـذا المشـروع، ونعـرف أن من أول القرارات التي اتخذها بن غوريون رئيس حكومة الكيان الصهيوني سنة 1949 هو تأسيس الموسوعة الإسرائيلية، وقد بلغت اليوم عدة مجلدات وبعدة لغات.
حضارة الجزائر في عمقها الشّعبي ومشتركاته الثّقافية
للجزائر مساهمات حضارية في عهد الملوك الأمازيغ في محيطها المتوسطي والإفريقي وخارج تلك الدوائر الجغرافية،أوبعد الإسلام بقيت كل تلك المساهمات متناثرة أو مهرّبة، أو منسوبة لغير أهل بلادنا الحقيقيين، وإذا تعلّق الأمر بالمتّصل الحضاري لأيّ شعب أو أمّة، فإنّه ليس من المفيد توظيف المساهمات الحضاريّة قبل عصر الأمّة الدولة في العصور الحديثة وبعدها كما هو الحال في بعض الخطابات الإيديولوجية الظرفية مثل إنكار التاريخ والثقافة الأمازيغية وتراثها وفنونها في بلادنا،وفيها ثروة فكرية وأدبية هائلة، أو التقليل من مساهمة الجزائر في الحضارة العربية والإسلامية ودورها في حوض المتوسّط وإفريقيا، فقد أنجبت الآلاف من الأدباء والعلماء الذين كانوا مراجع برتبة أستاذ كرسي كما يقال اليوم.
وبالنظر للاستمرارية التاريخية للحضارة، فإنّ تلك الفواصل ليست قطيعة أو بداية من الصفر في ماضينا القريب والبعيد، إنّها مراحل متداخلة تحمل كلّ منها خصائص إضافية ضمن عملية التراكم الثقافي في المجتمع ومؤسساته التقليديّة والحديثة، إنّ وصف حضارة الجزائر بالأمازيغية الإسلامية العربيّة ليس فيه أي تناقض أو تعارض وليس مدعاة لأيّ حساسية تؤدّي إلى صراعات أو تخندق وخوف أو عداء للآخر، وسنرى فيما يلي من هذه الورقة محاولات الدفع إلى هذه الصراعات المفتعلة.
تعرّضت الجزائر باعتبارها جغرافيا متصلة تقع بين ضفاف المتوسّط والساحل الصحراوي وسواء أحملت إسمنوميديا أو إفريقيا أو المغرب الأوسط واسم عاصمتها جزائر بني مزغنّة، أقول تعرّضت إلى سلسلة من محاولات الهيمنة والإدماج أو الإلحاق من طرف امبراطوريات جاءت من شمال المتوسّط، وكانت البادئة بالعدوان، تكيفت شرائح من النخب في بلادنا مع عولمة ذلك العصر البعيد، كما هو الحال بالنسبة للاٌمبراطورية الرومانية قبل المسيحية وفي عهدها البيزنطي، ولكن العمق الشعبي بقي محافظا على طابعه العام، بل وعلى قطيعة مع الغزاة، وهو سلاحه الوحيد، بسبب العزلة وعدم توازن القوة في تلك العهود الغابرة،وينبغي التأكيد على أن الذي شجع على العدوان هو التشتت والنزاعات القبلية، وهي حالة لا تخصّ الجزائر، إنّها الوضعية الشائعة في تلك العصور، بما فيها غرب أروبا قبل ميلاد الدولة الوطنيّة، فقد كانت موزعة إلى إمارات ودوقيات،بما فيها روسيا قبل الحكم القيصري Tsarkoi، ولذلك فإن جبهة الدفاع الأولى للجزائر هي وحدة شعبها ثم تأتي قوة الردع Dissuasion  التي توفرها مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع والعمق الشعبي.
لم يعرف المجتمع الجزائري طيلة تاريخه الطويل أي صراعات دينية أو عرقية كما شهدته أروبا في القرون الوسطى بين البروتستانت والكاثوليك، وأدّت إلى مذابح دموية، وقسّمت القارة العجوز إلى ثلاثة مذاهب دينية كبيرة لها توجّهات سياسية متصارعة أو متنافسة مثل الأرذوكسية في روسيا وشرق أروبا والبروتستانية في شمالها، وينتشر هذا المذهب في البلدان الاسكندينافية والجرمان والانغلوسكسون والولايات المتحدة الأمريكية، ولكل منها البابا أو المفتي الأكبر الخاص بها في روما أو كانتبري أو موسكو، وهي تختلف في أداء شعائرها الدينية بما فيها تاريخ الأعياد وأسماء القدّيسين les Saints .
«يتبــــــع»

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024