تميز العصر العباسي الثاني، بالقهر و الضعف و حالة من الاستبداد و التعصب السياسي، وحالة غياب كامل لحقوق الانسان. فتلاشت قيم الدولة الإسلامية بشكل تدريجي، بسبب تغلب المصالح الدنيوية عند قادتها من ذوي النفوس المريضة الذين يهدفون إلى السلطة و الجاه. وبالتالي عمدت إلى توظيف العقيدة الإسلامية لخدمة أهدافها ومصالحها الخاصة. فأصبح الدين خادما للسياسة، يؤكد هذا الكلام ما كان من «ابو جعفر المنصور» الذي خاطب الناس بخطاب حمل الكثير من التسلط و الاستبداد السياسي والاجتماعي، حيث قال:»أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة، و عنكم زادة، نحكمكم بحق الله الذي أولانا، و سلطانه الذي أعطانا و إنما أنا سلطان الله في أرضه، و حارسه على ماله. جعلني عليكم قفلا إن شاء أن يفتحني لإعطائكم، و إن شاء يقفلني».
يعتبر أنصار الإسلام السياسي في عصرنا هذا، خير مقال للتطرف الديني السياسي، فهم يعتبرون أن كل من اختلف معهم في الرأي و العقيدة، هو كافر يجب قتله أو الجهاد فيه. و كل نزعة تميل للتحرر بدعة، تحمل صفة الخيانة العظمى تؤدي بصاحبها الى التعذيب و القتل.
لكن هؤلاء قد استمدوا قناعاتهم هذه من «العقيدة الوهابية» المتشدّدة، التي تدعو إلى إلغاء الآخر، و ممارسة العنف تحت مسمى» الجهاد في سبيل الله» ضد كل من يخالفهم الرأي، و يعارض فكرة «إقامة دولة الخلافة الإسلامية» و تطبيق مبدأ» الحاكمية لله»على المدى البعيد. يقــول «عاطف العقلة «أن هدف هؤلاء «هو العودة بالمجتمـــع العربـــــي إلى الجذور الإسلامية، والأساسات التي طبقــت حرفيا ما كان في حياة المجتمع، في أيام الرسول صلى الله عليه و سلم، و أيام الخلافة الراشـــدة «24
كانت لهذه الحركات قيادة تاريخيــة. و تمكنت من التشكل كهوية روحية سياسية داخل مجتمعها. لكن ما لبثت أن شابها تناقض نجــــــده في حركة «جمال الدين الأفغاني» و «محمد عبــــدو» و «عبد الرحمن الكواكبي» من جهة، و بين حركــــة «حسن البنة» و «سيد قطب» و«مصطفى شكــري» من جهة أخرى. ساهم عدد من الأسباب والظروف على انتعاش فكر الإسلام السياسي المتشدد في العالم العربي، نذكر منها:
انتعاش الثروات النفطية في دول الخليج: حيث سخرت تلك الدول، أموالا ضخمة من الدولارات من أجل دعم الإسلام السياسي، و نشر مبادئ «العقيدة الوهابية» المتشددة في سائر البلاد العربية والعالم.
التطور السريع في تكنولوجية الاتصال والمواصلات: شكلت الأنظمة العربية المستبدة، تحالفا غير معلن مع المؤسسات الدينية، لاضطهاد أحزاب المعارضة العلمانية، و شرائح المثقفين الديمقراطيين الليبراليين و وضعت أمامهم العراقيل، لمنعهم من نشر الأفكار التنويرية، بينما فسحت المجال أمام الإسلام السياسي لاستخدام المساجد والمدارس الدينية و وسائل الإعلام، بل وحتى الشوارع و الساحات لنشر تعاليمهم و مبادئهم السياسية و التطرف الديني و تضييق الخناق على التنويريين و اضطهادهم و تشريدهم، بل وحتى قتلهم.
تفشي الأمية والجهل: تفشي الأمية الأبجدية بنسبة عالية في البلاد العربية، إذ تبلغ نحو 40 % بين الذكور و 60 % بين الإناث، ناهيك عن النقص المريع في المعرفة، أي الأمية الثقافية. (راجع تقرير الأمم المتحدة لعاميْ 2002 و 2003 عن «التنمية البشرية في العالم العربي» تشكل هذه المشكلة عقبة أمام الديمقراطية، فالديمقراطية لا تعني الانتخابات فحسب، بل و حرية التعبير و التفكير و التنظيم و التظاهر و حق الاختلاف، و وعي المواطن بحقوقه على الدولة، و واجباته إزاءها واحترامه للقوانين. لذلك، فقد استغل أعداء الديمقراطية، تفشي الأمية والجهل بين شريحة واسعة من الناس لبث الإشاعات بينهم و تضليلهم ضد مصالحهم، و توجيههم ضد الديمقراطية خاصة الشباب منهم.
حيث أثبتت الدراسات، أن أكثر الفئات انضماما إلى الجماعات المسلحة، هي فئة الشباب القاطن بالمناطق المحرومة. حيث ضمت «الجماعات الإسلامية المسلحة الجيا» في الجزائر فئات متعددة من الشباب الجزائري:
1- التحق بـــــ»الجيا» كل أولائك الشباب الذين كانوا يشاركون التنظيم قناعاته المتطرفة. أي الذين رفضوا فكرة إمكانية، إقامة الدولة الإسلامية، بطرق دستورية قانونية. بل يؤمنون بـأن طريق السلاح، هو الصحيح عمليا لإنجاز المشروع الإسلامي.
2- ضمت «الجيا» عناصر من الشباب، الأكثر تأزما و الأقل اندماجا في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، لأنهم كانوا يعارضون استرتيجيتها السياسية. لأنهم يمثلون، أكثر القطاعات تهميشا في الواقع الاجتماعي. حيث تراوحت أعمار غالبية هؤلاء الشباب، بين السادسة عشر والخامسة والعشرين. فكانوا من نوعية الشباب، الذين خرجوا، في مظاهرات الخامس من أكتوبر 1983-
3-ضمت «الجيا» أيضا، الشباب العاطلين عن العمل، و تجار الحقيبة، و ذوي الحرف الحرة.
4-كما ضمت «الجيا» الشباب المعتقلين في مراكز الاعتقال الصحراوية. أعدتها السلطة خصيصا لمناضلي الجبهة الإسلامية، بعد توقيف المسار الانتخابي. فكانت بمثابة مدارس مجانية، لتكوين راديكاليي القاعدة الإسلاموية. فتخرج منها إطارات سامية متخصصة في المقاومة المسلحة.
القوة إذن وقود التطرف في كل الجنسيات و الديانات، لأن التطرف يبني أطروحته على أساس إيمانه بمبدأ سياسي معين، أو قناعة دينية معينة، فيعمل على إقناع الآخرين بها، باستعمال كل أشكال العنف لإرهابهم من مغبة رفضهم لأفكاره.
إذن لم تعد الجماعات الإسلامية المتشدّدة، وعلى رأسها القاعدة، هي مصدر العنف الديني السياسي فحسب، بل تعددت مصادره، حيث أعلنت أحزاب من اليمين المتطرف، من دول أوروبية في مدينة أنفير البلجيكية سنة 2008 تأسيس منظمة جديدة تهدف إلى مكافحة ما أسمته بـ’’الأسلمة’’ في أوروبا.
فأفكار التطرف هذه، تذهب و ترجع عبر التاريخ، فها هي أفكار التعصب و التطرف ضد الإسلام و المسلمين ترجع دائما، بل و أصبحت تعرف رواجا داخل المجتمعات الأوروبية، واتسعت دائرة معتنقيها، خاصة في أوساط الشباب، حتى صارت تشكل خطرا فعليا، تتعرض له الجالية المسلمة في العالم، خاصة بعد تفجيرات «منهاتن» التي ضربت برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في 11 سبتمبر 2001 باسم الدين الإسلامي، نتج عن الحادثة أن شنت حملة مركزة استهدفت الإسلام و المسلمين بوصفهم- حسب ادعاءات الغرب- متطرفين وإرهابيين.
لكن الواقع يكذب هذه الأطروحة، حيث استفاق العالم- و هو يحيي الذكرى العاشرة لحادثة «منهاتن»- على حدث مروع قام به نرويجي ينتمي إلى التيار اليميني المسيحي المتطرف، أوقع مجزرة رهيبة في العاصمة أوسلو راح ضحيتها ما لا يقل عن 100 بريء. «فاكتشف العالم حقيقة تغافل عنها لسنوات طويلة، حقيقة أن الإرهاب و التطرف ليسا مرادفين لدين معين أو لجنسية معينة، و بأن الكثير من الأفكار المتطرفة و المعتقدات المنتشرة في كل بقاع العالم، يمكنها أن تشكل خطرا على البشرية في أي مكان وفي أي وقت»25.
أكد هذه القناعة الشيخ «حسان موسى»، نائب رئيس مجلس الإفتاء السويدي، في تصريح لـجريدة ‘’الخبر’’ عقب مجزرة أوسلو، مفادها أن ‘’ثقافة الكراهية والإرهاب الأعمى لا تعرف دينا ولا وطنا، وأحداث النرويج خير دليل على ذلك’’، مشيرا إلى أن خطر اليمين المتطرف ‘’أخطر من ثقافة و أفعال تنظيم القاعدة على المدى البعيد’’26.
يمثل اليمين المتطرف جماعات تدعو إلى التدخل القسري، واستخدام العنف و السلاح، لفرض الأفكار و التقاليد والقيم. يضاف إلى ذلك أن اليمين المتطرف متعصب قوميا أو دينيا وأحيانا الاثنين معا. ولذلك فهم يكرهون الأجانب الذين ينتمون إلى قوميات أخرى غير قوميته وأديان غير دينه.
فالنزعة اليمينية المسيحية المتطرفة في أوروبا قديمة قدم الحروب الصليبية، لكنها ارتبطت في العصر الحديث بعاملين أساسيين:
الأول: مفاوضات تركيا المسلمة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي المسيحي.
الثاني: تنامي حركة المهاجرين العرب والأفارقة إلى أوروبا.
اليمين المتطرف، مثلها مثل الحركات الإسلامية، في التشدد والأصولية والتزمت، و مرتبط بالمسيحية بشكل ظلامي. لا يعترف بالإصلاح الديني و لا بالحداثة السياسية و الفكرية والأخلاقية.
فكل من الحركات الإسلامية و اليمين المتطرف، يتفق في الوقوف ضد الديمقراطية و يقبل بها رغماً عنه أي من أجل الحصول على الأصوات الكافية لانتخاب نوابه في البرلمان وللوصول إلى الحكم.
خاصة و أن الأغلبية العظمى من الشعب في البلدان الأوروبية، تؤمن بالديمقراطية، ولا تقبل بأي نظام سياسي آخر كبديل عنها. لهذا اضطر اليمين المتطرف إلى الاستسلام للأمر الواقع.
أما الأحزاب السياسية التي تتبنى الفكر اليميني المتطرف، بالرغم من دعوتها إلى فرض التقاليد والقيم سلميا بعيدا عن العنف، إلا أن أفكارها كانت دائما متطرفة، و أرضية خصبة للأفكار المتشددة، دفعت بالمنخرطين فيها إلى ارتكاب مجازر في حق المسلمين و السود.
أصبح المحور الهام في برنامج الأحزاب اليمينية الأوروبية هو الفكر العدائي تجاه العرب و المسلمين. يطالبون بإيقاف هجرة الأجانب إلى أوروبا، و طردهم منها إذا أمكن. حيث يعتقدون أن الجرائم والسرقات، هي بسبب كثرة الأجانب في بلادهم، وأن هذا الكم الكبير من المهاجرين إلى أوروبا، يسبب خللا في التركيبة السكانية والنسل، وأن الأجانب لديهم عادات و تقاليد، قد تكون دخيلة وغير مرغوبة في مجتمعهم الأوروبي، خاصة إن كانوا مسلمين أو من دول فقيرة، كما يحمل معظمهم عداوات ضد أصحاب الديانات الأخرى غير المسيحية خاصة الإسلام، ولديهم إمكانات كبيرة للعنف، والتاريخ مليء من جرائم القتل والتفجيرات والحرائق المتعمدة، والاعتداءات وإطلاق النار.
من هؤلاء الأحزاب «حزب الجبهة الوطنية» في «فرنسا» بقيادة «مارين لوبان»26، الذي انفرد بقيادة المنظمات المعادية للأجانب، خصوصا العرب المهاجرين من الجزائر و تونس والمغرب. و يمثل اليمين المتطرف في فرنسا الخمسة عشرة في المئة
أما في «بلجيكا» فيمثل اليمين المتطرف العشرة في المئة، وسبع عشرة في المئة في «هولندا»، و أقل من ذلك في البلدان الاسكندنافية كــ»السويد»، و «النرويج و»الدنمارك» وفي إيطاليا ورث اليمين المتطرف نظريات الفاشيين القدامى بزعامة «موسوليني». حاليا لا يوجد حضور قوي للأحزاب اليمينية المتطرفة في الساحة السياسية الإيطالية.
في «ألمانيا» شكل اليمين المتطرف أقلية، لكنه ينفذ مرة على مرة جرائم ضد السكان ذوي الأصل العربي حيث شهدت ألمانيا في العامين الماضيين، حادثة مقتل مغتربة مصرية تدعى» مروة الشربيني» على يد يميني متطرف. أما خارج القارة الأوروبية، «يرتع اليمين المتطرف في الولايات المتحدة، لكنه يظهر بشكل لافت للانتباه في إسرائيل حيث توجد قوى شعبية وأحزاب تدعو صراحة إلى عدم التسامح مع العرب والمسلمين بل تدعو إلى قتلهم. وبرز جليا ذلك في الحرب على غزة في العام 2006 ، حيث بارك حاخامات اليمين المتطرف الصهيوني هذه الحرب»27.
لتهدئة مشاعر السكان الأصليين للدول الأوروبية، يحاول بعض المفكرين المسلمين و العرب، تقديم صورة إيجابية عن رسالة الإسلام السمحة، و الحث على التعايش بين الطرفين.
يعتبر التطرف مرض من الأمراض الفكرية، يمكن معالجته من خلال:
أولا: إزالة أسباب الظلم في المجتمعات، فقد يؤدي تطرف الحاكم في جوره إلى تطرف المحكوم في تكفيره.
ثانيا: نشر العلم بين الناس عموما، وأحداث الأسنان خصوصا، من خلال المقررات في المدارس، والجامعات الإسلامية، والمحاضرات العامة.
ثالثا: ربط شباب الأمة بعلمائها الموثوق فيهم، من خلال عقد اللقاءات المفتوحة معهم، وسهولة الوصول إليهم.
رابعا: التضييق على أهل التطرف، وعدم تمكينهم من نشر مذهبهم.
خامسا: الحوار أحد أساليب القضاء على التطرف، لذلك ينبغي فتح أبواب الحوار مع المتطرفين، بواسطة علماء بالدين مقبولين لديهم، لهم خبرة يجادلونهم بالتي هي أحسن بأسلوب سلس مقنع، لأن نشر العلم الشرعي المبني على الكتاب و السنة، هو من أحد العوامل التي يمكنها أن تحد من انتشار التطرف.
«انتهى»