1 - في بَضعِ بَضعِي، صُورتي! أمْ صُورتي؟ / وَهْــم يُحاكــي ما حَكَتْـــهُ حقيقـــتي!
2 - أم ما زرعتُهُ في الغَياهِـــبِ جَاهِــــــــلاً / لونـي وجنسـي فـي مُخَلَّــقِ نُطفَـتي!
3 - أم ما تَواتــــرَ مــن حـديــثِ مُخالِــــــــلٍ / أثــنى علـيَّ بمـــا طَوَتَـــــهُ طويَّـتي!
4 - أم ما تــــــــردّدّ مـن كــــلامِ مُكابِــــــــرٍ / أعيـــاهُ أنّـي قـــدْ وَفَيْــتُ لِفِطـــرتي!
5 - هــــلْ آدمُ لمّـــا تَمثّــــــــلَ شَكلَــــــــــها! / قـــدْ كانَ أولَ مْـنْ تهيّــــأَ هيئتـــــي!
6 - أم زَوجُــــــهُ! أمْ بِنتُــــــهُ! أم نَجلُــــــــهُ! / قـــد نُسِّخــتْ أنسـاخُـــهُ مِنْ نُسخـتي!
7 - هل كنـتُ جَـــدّي أم تُــرى قــدْ كانَـــني! / أم أنَّـــهُ فـي كُنهِــــــهِ مِــن طينـتِــي؟
8 - أم أنّنــــي أُسطــــــتتـورةٌ أطيـافُـــــــــها / فــي مَلمَـــحٍ أو مَشهـدٍ من صِبـيـتي!
9 - أم أنّنــــي في صَحــــوةٍ لــم أستفــــــــقْ / من موقفٍ قـد عِشتـهُ في غَــفـوتـي!
بَيْن الشِّعر والنَّظْم مُستوى من الإبلاغ قد لا يُدركه كثيرٌ من القرّاء الذين قلّ زادُهم من القراءات العميقة التي تَهتك حُجُب الإبداع وتكشف عنه مَكامنَه، وقد يَحسن أنْ نقول إنّ ذلك المستوى لا يَثبُت على حال ولا ينتظِم على موقف، وبيْن الإبْداع والإبْلاغ درجاتٌ، كما أنّ بينهما دركاتٍ، والنصّ المبدِع - إنْ صّح المجاز - هو النصّ الذي يَرقى به صاحبُه درجاتٍ كما يرتقي بقائله درجاتِ أيضا، وقد ينزل به صاحبُه دركاتٍ فينزلُ معه القارئُ، ولا يبقى معَه وقتَها غيرُ التراكيب النّحويّة التي قد أُفرغتْ من كلّ شُحَن الإبداع، ونزل النّصُّ بذلك إلى الإبلاغ، ولمْ يكُن له حظٌّ من الإبْداع لا في كثيرٍ ولا قليلٍ...
هذه الحافّة الحادّة هي التي تَفْرُق بيْن الإبْداع وبيْن الإبْلاغ، كما يَفْرُق أوّلُ خيوط الفجْر اللّيلَ من النّهار على ما في ذلك من تَقارب بينهما شديدٍ.
ولعلّ هذا النصّ الذي أُقدّمه في هذه السّطور يُوشك أن يُلامس به صاحبُه ذلك الخيط الرّفيع الذي تحدّثنا عنه آنفا، وربّما ساغ لنا أنْ نقول إنّ صاحبَه قدْ علا به بعضَ الشيء درجاتٍ...
والنصّ الذي بَين أيدينا يُشبه في وجوهٍ كثيرةٍ تلك النّصوص التي أُثرت عن طائفة من الشّعراء الذين سَبكوا شيئا من قَلقهم الوجدانيّ والفكريّ والروحيّ سبائكَ شِعريّةً، وهو كثيرٌ في شِعر أبي العَلاء المَعَرّيّ وبعضِ نَظْم الفارابي وابن سينا وهما فيلسوفان، وقد حاولَ المتنبّي ذلك وهو يتحدّث في الرّوح والبدن، وما يلحقها من نعيمٍ أو شقاءٍ بعد الموت، ورأينا ذلك مع أحمد شوقي في نصّ “ضُمّي قناعك يا سُعاد”، ورأيناه جليّا عن رائد شعراء المهجر وحاملِ لواء الرّومانسية عندهم إيليا أبي ماضي مع قصيدة “الطلاسم”...
النصّ يكاد يشعّ بهذه المواقف العُلويّة حيث تمتزج الذّات في لحظة بالملكوت الأعلى تشقّ طريقها إلى ذاك العالم الذي توارى عنّا...يحاول أن يَقتحم مُقتحَما صعْب المنال لا تتجشّمه إلا الذّوات العالية عند الفلاسفة وأهل الحقيقة وإخوان الصفاء.
إنّ هذا النص لتتعانقُ فيه قِيم العقْل بقيم الرّوح وقيم النّفس فترسمُ لنا لوحةَ من فسيفساءَ غريبةِ المأخَذ قريبةِ المسلَك، يمتزج فيها الخيالُ بأسلاك الإبداع، وتتّحد فيه الصّور بمدارك الذّات وميولها ورواسبها...إنّه النصّ الفلسفيّ الذي أعيا القُرّاء والنّقاد فهمُه على السّواء...إنّه ضَرْب من المتعة العقليّة التي يتعاطاها المترفون فكريّا وهو حظّ لا نعثر عليه عند سُوقة الشّعراء والقرّاء، وإنّما نعني بسوقة الشعراء مَن نظَم في شأن العامّة من النّاس أو صوّر نسخة من حياتهم حين رسَم معالم حياته عبرَ مشاعره وآماله وآلامه وطموحاته...
وإنّه ليُخيّل إليّ أنّ هذا النصّ هو أشبه بنُصوص الفلاسفة في تَرفه الفكريّ على ما قرّرنا قبل قليل، وإنّ نظرةً عاجلةً فيه لتضعك في أجوائه الفكريّة السّامية، إنّه نصّ أشبه ببحوث العقلانيين، ولكنّه لا يلزمُ غَرْزَهم ولا يَسلك فجَهَّم...إنّه نصّ - على تَرفه الفكريّ وبعده الفلسفيّ- قد أُفرغ إفراغاً في لغة الشّعراء لا لغة الفلاسفة، وصُبّ صبّا في قوالب الشِّعر لا قوالب عِلم الكلام، إنّه هذا النّوع الذي قد لا تهتدي إلى تمييز تَرفه الفكريّ من مُتعته الرّوحيّة لا لشيء إلّا لأنّه جمَع بيْن سمْت الفلاسفة في التّفكير وسَنَنِ الشّعراء في التّخييل.
الأستاذ “مناصريّة” يستهلّ نصّه استهلالا حقّق شيئا من البراعة على ما يذكر أرباب البلاغة العتيقة، وقد ألحّ في ذلك بأسئلة هي روح النصّ ومَقصده، والأستاذ هنا لا يُخبر بقدر ما يُنشئ... وهو لا يحاول أيضا أنْ يُخبر لأنّ الإخبار في مثل هذه المواقف لا يليق بمثل هذا النوع من الشِّعر.
ولعلّ الأستاذ “عليّاً” صوّر شيئا من هذا القلَق الوجدانيّ الفكريّ معاً، فهو لا يبحث بقدر ما ينفث شيئا ممّا تراكم مع الأيّام، ألمْ يقلْ أحد الأعراب قديما - وقد سُئل عن الشّعر - إنّه نفثةُ صَدرٍ؟ والأمر هنا لا يعدو أنْ يكون كذلك، فصاحبنا قد نفث شيئا من هذا القلق في أبيات تسعة...
الأستاذ “مناصريّة” ما زاد على أنْ وقف على سؤال مثير اشتغل به من قبله فلاسفة اليونان وعلماء الكلام في العهود الإسلاميّة...إنّه السؤال الذي يسكن أعماق كلّ فرد منّا، هل نحن نسخة من آدم في السلوك والمواجيد والأذواق والميول والرغبات؟؟؟ أنحن صورةٌ من آبائنا الذين خلَوا من قبلُ؟ أبَنونا صورة منّا؟
نتمثّلُ الأستاذ “عليّ مناصريّة” - في هذا النصّ - وهو ينظر إلى حَفَدته من حوله فيجد فيهم بعض ما عهد من شكله ونفسه وطباعه، أهو صورة من أبيه أم هو صورة منه هو؟؟؟ وصورة ابنه أليست في الأصل صورةً منه؟؟؟ أمْ أنّ ما يراه هو كالوهم الذي يشبه الحقيقة...إنّها الحقيقة التي يراها بعينه وهي تحاكي حقيقةً قد غابت عنه فهي اليوم أشبه بالوهم... وما عسى أن يكون هذا الوهم غير ما تخيّله الشاعر من أنّ البشر إنمّا هم صور مُستنسخة...وهل ما يراه في هذا الحفيد أو ذاك إنمّا هو صورة ممّا وضعه في هذا العالم في غياهب الغيب؟؟؟ وهل صحيح أنّ هذه النسخة هي من الوفاء في الشكل بحيث تغدو صورة صادقة من نسخته؟؟؟ هل فيها ما يراه النّاس من طباعه جيّدها ورديئها صِدقا؟؟؟ أتُراهُ نسْخة من آدم؟؟؟ وهذا الحفيد هو الآخر أهو نُسخة منه أيضا؟؟؟ أتُراه صورة من جدّه يحمل في قراراته بذورها؟؟؟ هل كلّ ما يراه في صبيته وحفدته هو حقّ أمْ هو خيال؟؟؟ أيمكن أنْ يكون قد جمعت في نسخته بذور عظماء يتمثّل شخوصهم في بَنيه؟؟؟ أمْ أنّ كلّ الذي يراه إنّما هو لحظة صحو غاب فيها عن هذا العالم الماديّ ليتصّل بعالم الصفاء والنقاء؟؟؟
أسئلة الأستاذ “عليّ مناصريّة” جريئة جراءة العقل المتجرّد، ولكنّها أسئلة وإنْ جانست مقولات الفلاسفة في الرّوح فإنّها تختلف عنها في الشّكل...الأستاذ “مناصريّة” لا يريد أنْ يتحدّث إلينا بلغة العقل بقدر ما يريد أن يتحدّث إلينا بلغة القلق الذي يكون العقل سببا فيه.
النصّ من حيث إنّه يمثّل هذا القلق العقلي - إنْ جاز المصطلح - نصّ متكامل متراصّ، عالج فيه صاحبه مسألة واحدة لم يتجاوزها إلى غيرها، ولكنّه أحكم سَبْكَها وأقام حَبْكها، وأنت في ذلك عاجز عن التصرّف في بعضها أو كلّها وهي من التراصّ بحيث نزعم أنّ صاحبها على قدرة في ضبط أدوات صورة النصّ الشعريّة، ولعلّ هذا هو الذي يفسّر اجتزاء الأستاذ “مناصريّة” بأبيات تسعة فحسب...إنّ هذا اللون من الترف الفكريّ لا تستجيب له قرائح الشعراء إليه بشيء من اليُسر، ولكن رأينا أنّ صاحب النصّ طوّع اللغة والتراكيب والكلمات والوزن والخيال لمثل هذا اللون، ونحن وإنْ كنا نقرّ بجفاف مادّة هذا الضرب من الشعر، إلا أنّ الأستاذ “مناصريّة” تمكّن من تذليل مسلكه وهو أمر يندر في الغالب على مُنتحلي هذا النمط من القول.
والنصّ يبعث في القارئ شيئاً من القلق والحيرة وهو قَلق -كما قلنا - دفين في كلّ واحد منّا، ولكنّ أصحاب الفطرة السليمة والعقول الراقية هم أهْدى النّاس إلى هذا النّوع من القلق، والشعراء بوجه خاصّ هم أقْدَر أصحاب الفطرة السليمة والعقول الراقية على نقل هذه التّجربة الشعوريّة إلى واقع الإبداع، فيستحيل هذا الجوّ الروحانيّ الأليم صورة من صور الإبداع الفنيّ...