رحيل أب المعرض الدولي

بقلم: دكتور محيي الدين عميمور

غادرنا الصديق القديم الهاشمي العربي إلى الرفيق الأعلى إثر عملية جراحية أجهزت عليه في أحد مستشفيات العاصمة، وانطفأت تماما جذوة صداقة انطلقت ذات يوم في القاهرة في بداية الستينيات، وكانت بداية طبية وتوثقت طبيا ثم فترت سياسيا، وهو ما أصابني بعقدة ذنب زادت حدتها من وفاة الهاشمي.
كنت في بداية الستينات أقضي الأيام الأخيرة من دراستي الطبية في القاهرة وأتولى في الوقت نفسه مهمة الرعاية الصحية للطلبة الجزائريين في المكتب العسكري الذي كان يديره الرائد رابح نوار عندما طلب مني سفيرنا الدبلوماسي العريق الأخضر الإبراهيمي بالإسراع إلى أحد فنادق العاصمة المصرية لأسعف إطارا جزائريا كان يزور القاهرة، وهناك رأيت الهاشمي للمرة الأولى، وكان يتألم من وعكة معوية قال لي أنها على ما يبدو نتيجة تسمم غذائي.
وعندما قمت بالفحص لم أجد علامات التسمم الغذائي، وكان لي رأي آخر في سبب الوعكة، فأعطيته بضعة أقراص وغادرته لأضمن موعدا مع أحد كبار أساتذة الطب في القاهرة، فأنا، مهما يكن من أمر، كنت مجرد طبيب ناشئ.
وعندما عدت في اليوم التالي لأصحب الهاشمي إلى الطبيب الكبير وجدته في وضعية لا بأس بها، وقال لي أن حالته تحسنت مع القرص الأول، وهو ما أكد صحة تشخيصي لحالته، وانتهت الوعكة نهائيا في اليوم التالي ولكنها جاءت لي بمحبة وتقدير بالغين، كانت بداية مرحلة صداقة ثرية عرفتها علاقاتنا بمجرد عودتي إلى الجزائر، حيث تعرفت عليه أكثر ووجدته مثقفا متعدد اللغات، يجمع بين الإمساك بناصية اللغة الفرنسية، بصفته متخصصا في القضايا الاقتصادية وبين التعمق في دراسة اللغة العربية التي كان ضليعا فيها، وفي مجالات الأدب والشعر بوجه خاص، وإلى درجة أنه علّم ابنه جلال، الذي كان في حدود العاشرة من العمر، إحدى قصائد نزار قباني، فكان يُنشد أمامنا كلماته «...وخلاصنا في الرسم بالكلمات».
وكان الهاشمي يتحكم طبعا في القبائلية، وعلمني من تراثها حكمة تقول ما معناه: رحم الله من اخترع أذني القفة.
وعندما فتحت عيادتي الطبية في شارع أول نوفمبر في منتصف الستينيات كان الهاشمي هو من فتح أمامي أبواب مجتمع العاصمة الجزائرية، حيث لم يدع أحدا من معارفه، وخصوصا الأطباء، إلا وأخبره أنني طبيب ماهر، وكان هذا أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لطبيب تخرج من جامعة مشرقية، ورفضت وزارة الصحة الجزائرية في البداية الاعتراف بشهادته الطبية، ولم ينقذن إلا تدخل العقيدين عباس ومحمد الصالح يحياوي ثم موافقة وزير الدفاع آنذاك على التحاقي كطبيب في البحرية الجزائرية عندما سمع بالأمر.
كان الهاشمي هو أول رئيس للغرفة التجارية الجزائرية، وهنا قام بتعييني طبيبا مستشارا لموظفيها، مما أعطاني الفرصة لخلق علاقات قوية مع الأخصائيين في العاصمة الجزائرية، ومن بينهم الجراح غالب جيلالي، ابن الشيخ عبد الرحمن الجيلالي، وكان الهاشمي من أول قراء مقالاتي في مجلة الجيش، وقام بترجمة بعضها إلى الفرنسية.
وأصبح بيت الهاشمي هو بيتي وأسرته هي أسرتي، وكنا نقضي الساعات الطوال ضيوفا عليه في القبة حيث كنا نحظى بكرم ورعاية السيدة حرمه، وأصبحت حورية أختا جديدة نمت صداقتها مع بقية الأخوات.
كان الهاشمي هو أب المعرض الدولي في الجزائر، وكان المعرض الأول يقام بجوار مطار العاصمة، وكان بالنسبة لنا جميعا فرصة لتنفس جو جديد بعيدا عن الالتزامات المهنية لكل منا، وانتقلنا بعد ذلك إلى المقر الجديد للمعرض الذي أشرف الهاشمي على بنائه في الصنوبر البحري، وعلى إقامة فندق «زيري» بجواره لاستيعاب العارضين الأجانب.
ولا أعتقد أن العاصمة ستعرف سهرات كسهراتنا في منزل العربي بالقبة، حيث كان يمتزج الشعر مع الموسيقى، والحوارات الثقافية مع النقاش السياسي، وحيث يلتقي أصدقاء كل منا مع أصدقاء الآخر، وليكتشف من لا يعرفون حملة الثقافة العربية بأن هؤلاء يمثلون نخبة متميزة ورصيدا للدولة الجزائرية الناشئة.
وكان الغريب أن الصداقة توطدت بيني وبين الهاشمي بالرغم من اختلافات لها عمقها بين كل منها، فبقدر ما كنت أنا متحمسا للاتجاه الاشتراكي في ميدان الاقتصاد كان هو من أنصار النظام الليبيرالي، وبينما كنت أنا متعصبا للكتابة باللغة العربية كان هو لا يكتب إلا بالفرنسية، حتى خارج الالتزامات الإدارية.
وبينما كان الهاشمي عملاقا يتجاوز طوله 180 سم كنت أنا هزيل الجسم لا أتجاوز 170 سم، وكنت مدخنا شرها بينما كان هو لا يقرب السجائر أو أي مشروبات غير الأتاي والقهوة.
وكان الهاشمي يأخذ علي، كما كتب في مذكراته، تشددي في احترام الأخلاقيات الطبية، بحيث كنت أرفض إعطاء شهادات طبية لمن كانوا يريدون الحصول على تصريح خروج كان قد تقرر بعد هزيمة جوان 1967، وقال حرفيا في مذكراته بعنوان «مذكرات جزائري سعيد»: إنه يراني مثل «إليوت نِس» (ELIOT NESS ، وهو الضابط الأمريكي الذي واجه عصابات المافيا وعرف بأنه لا يُرشى أبدا L’incorruptible )
ولعلّ كثيرين لا يعرفون أن بذرة ملتقيات الفكر الإسلامي نمت في لقاءاتنا مع الأستاذ  العربي سعدوني، وزير الأوقاف في الستينيات،  والذى كان حلقة الوصل مع الشيخ إبراهيم بيوض بتوجيه من الرئيس هواري بو مدين، وهون ما قاد إلى الاتفاق المذهبي الشهير، رحم الله الجميع.
وعندما بدأت عملي في الرئاسة في مثل هذا الشهر من عام 1971بدأت دورية لقاءاتي الاجتماعية تتقلّص، مما جعل علاقاتي مع الجميع تفتر تدريجيا، فقد اختلفت وضعيتي تماما، ولم أعد قادر على السهر مع الأصدقاء كما كنت، خصوصا وأنا أعمل حتى ساعة متأخرة من الليل، ولم تعد أيام العطلة تعني شيئا بالنسبة لي كما كانت عندما كنت مجرد طبيب يتحكم في وقته كما يريد.
وربما كان هناك من ألسنة السوء من زعم للهاشمي أن في الأمر نوعا من التعالي على أصدقاء الماضي، وكان ذلك خطأ كبيرا كان يكفي لشطبه نهائيا من قائمة ما يؤخذ عليّ أن يُعرف أنني لم أعد أرى والدتي إلا نحو مرة واحدة في السنة، وأن والدي لقي وجه ربه ولم أكن إلى جانبه.
والهاشمي يسجل في مذكراته تفوقي في عملي الإعلامي على مستوى الرئاسة بينما يقول بأنني لم أحلق عاليا في وزارة الثقافة، وهو على حقّ في هذا لكنه لم يتعمق في معرفة السبب، وهو لم يكن يعرف أنني لم أكن أملك من الأمر الشيء الكثير في هضبة القبة، التي تبعثرت فيها المسؤوليات وتعددت المرجعيات، بينما كنت في المرادية لا أقدم الحساب إلا لشخص واحد، هو من كان يوجه عملي ويتابع أدائي ويحمي مسيرتي.
رحم الله الهاشمي العربي الذي غادرنا إلى الأبد تاركا في نفسي ألما مزدوجا، أول جوانبه فقدان هذا الرجل الكبير، والثاني هو أن الفرصة لم تتح لي لاسترجاع صداقة الأيام الخوالي الطيبة.
وتعزية حارة للسيدة حرمه ولأبنائه، جلال وعلي وخديجة، وبقية أعضاء الأسرة.
وعاشت أمة تذكر رجالاتها بالخير.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024