قسنطينة عاصمة الثقافة العربية

عندما ينال الاستعراض من الحقائق التاريخية

بقلم : المجاهد محمد الصغير حمروشي

ننشر هذا الموضوع وهو  عبارة عن متابعة نسَلَّطْ  فيها بعض الأضواء على العديد من الحقائق التاريخية التي جاءت في (ملحمة الافتتاح) لـِ : ((تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية)) على غير وجهها الصحيح، نعتقد انها وقُدِّمَتْ أثناء افتتاح التظاهرة بشكل مُزَيَّفٍ لا يَمُتُّ بصلةٍ للحقيقة العلمية والتاريخية المتعارف عليها. ولَمْ يكن قصدنا من وراء ذلك سوى تصحيح وتوضيح ما جاء مناقضًا ومغايرًا للحقيقة التاريخية التي تضمنتها ملحمة افتتاح التظاهرة بتاريخ: 16 أفريل 2015، للفت انتباه الرأي العام وتذكيره بالحقائق المفترى عليها التي جاءت في تفاصيل عرض الملحمة التي جانبت الحقيقة، وحادت عن الصواب في أكثر من موطن، وكادت تقلب التاريخ رأسًا على عقب!!!
  بالموازاة  المقال الذي ننشره، ووَزَّعْنَا نُسَخًا منه إلى كل السلطات المعنية ـ مركزية وولائية، ° ـ لإعلامهم بتفاصيل المهزلة، وكانت جهودنا في نهاية المطاف كلها بدون جدوى. وما كان هذا الموضوع لِيُثَارَ من جديد، ونُقْدِمُ على نَشْرِه لولا استضافة التلفزيون الوطني عقب اختتام التظاهرة ـ (الأرضية ثم الثالثة) لشخصين كان أحدهما ضيف الحصة وهو الأستاذ لخضر بن تركي الذي كان المشرف على الجانب الفني لتظاهرة قسنطينة، وقد أبدى إعجابه ورضاه بنتائجها وخَصَّ بالذكر الملحمة!!! وكان الثاني هو الدكتور ناصر لوحيشي الذي كان على المباشر من قسنطينة، وكان هذا الأخير يعتزُّ بكونه من محرري الملحمة التي كانت حسب تصريحه ناجحة فنيا وتاريخيا ونالت إعجاب الجميع!!!
 وأمام هذا الإصرار على الخطأ!!! والتباهي بطمس الحقائق التاريخية واستبدالها بالتزييف والتلفيقات الواردة في تفاصيل الملحمة، والتي أضرت كثيرًا بالسياقات الصحيحة للواقع التاريخي، فإنه لا مَفَرَّ من عرض وجهة  نظرنا المتطابقة مع المصادر التاريخية المجمع عليها

 عشية الإعلان عن قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015، كثيرون هم المواطنون الذين لم يعبروا عن اهتمامهم، فلم يروا أي تأثير إيجابي على حياتهم اليومية. غير أن قلّة وهم أصحاب دراية أكثر في الموضوع أدركوا، أن هذا الحدث سيسمح للصخر العتيق بالاستفادة بمرافق مختلفة والتي حرم منها كثيرا في الماضي، مهما كان إنجازها في أجلها المحدد، أو تأخر إنجازها نوعا ما، المهم مع الوقت، ستصبح هذه التجهيزات مكسبا للمدينة، التي تستطيع آنذاك أن تنتعش بفضل تراثها الثري والمتنوع.
   مع هذا أنه ما يحز في النفس بالنسبة لهذه الفئة القليلة من القسنطينيين، هو حرصهم على إعادة الاعتبار لتاريخ المدينة غير المعروف في عمومه وحتى يصبح في متناول أكبر عدد من الناس. فقليل من الجزائريين وخاصة من سكان قسنطينة، من يعلم أنه وخلال الحصار الذي أطبق على مدينتهم في 12 أكتوبر 1837، تمّ القضاء على الجنرال (دامرمون ـDamrémont    (الحاكم العام والقائد العام لجيوش إفريقيا، بقذيفة مدفع أُطْلِقَتْ من طرف المدافعين عن المدينة في المكان المسمى اليوم ساحة العقيد عميروش ـ ( Pyramides ) سابقا ـ ومن يذكر منهم أيضا، أن أكبر هزيمة لحقت بالفرنسيين خلال الاحتلال كانت إبان الحملة الأولى على مدينة قسنطينة تحت قيادة الحاكم العام آنذاك (المارشال كلوزال ـ Maréchal Clauzel)، حيث قدرت خسائر العدو ما بين 1000 إلى 2000 قتيل بحسب مختلف المصادر ...1
ولما علمنا أن هذه الملحمة محورها تاريخ (كورتا) أو (سيرتا) قسنطينة، حيث يتم عبرها تدشين الحدث بتاريخ 16 أفريل، غمرتنا البهجة، إذ أن ملحمة مدينتنا لا يمكن سردها وعرضها على الركح، دون الإشارة إلى اللحظات والمحطات المشحونة بزخم التاريخ، والأحداث الكبيرة عبر العصور المتتالية على هذه القلعة العريقة. مع هذا يجب أن نبقى أوفياء إلى الحقيقة التاريخية التي تكون ماثلة في إطار الملحمة بالطريقة الفنية. كل هذا يسمح خاصة بتصحيح الفراغ الكبير الذي لاحظناه عند مواطنينا فيما يخص تاريخهم.
 لقد تألقت مدينة قسنطينة ليلة 16 أفريل . فامتلأت قاعة (حاج أحمد باي) التي تضاهي في رونقها أكبر القاعات بأوربا بمرتاديها. وتلاحقت اللوحات الفنية للملحمة على الركح الجميل، وأضفت عليه الأصوات والألوان الزاهية رونقا وجمالا، تخللتها التصفيقات المتتابعة للحضور، تعبيرا عن التفاعل الكبير للجمهور مع الفرق الفنية.
شاعرية على الأحداث التاريخية
  إلا أن ثلة من الجمهور الذي له اطلاع على تاريخ المدينة، بقي متحفظا منذ بدء الملحمة، بسبب مصداقية الوقائع التاريخية للمدينة عبر العصور، فيما تفاقم لديه هذا الإحساس ليتحوّل مع  نهاية إسدال الستار إلى صدمة حقيقية.
    قد نتفهم أن يتجه العمل الفني إلى إضفاء الشاعرية على الأحداث التاريخية، شريطة أن تحفظ حقائق الأحداث وألا يطالها التزوير. يمكن للإبداع الغور في تمجيد مرحلة من التاريخ، للإطراء والمدح في حقها، لكن دون التحريف.
إن كتابة التاريخ قضية جادة لا يمكن إناطة مهمتها لأطراف يفتقرون إلى التركيز، وتحوم حول كفاءتهم الشبهات. مع أن التاريخ هو الذاكرة الجماعية للشعوب، فلا يمكن أن يُبْتَذَلَ ويميل حيث مالت به الأمزجة.
وحتى لا أسهب في استعراض العجز الذي اعترى هذا العمل الفني، سأقتصر على بعض الملاحظات التالية:
لم تكن (صريم باتيم  ـ  Sarim Batim) التسمية البونيقية لسيرتا، حسب السيد عبد الكريم بجاجة 2 : لقد أُثِيرَ هذا الإسم (صريم باتيم) كفرضية لأول تسمية لسيرتا ـ قسنطينة - وسرعان ما تمّ التخلي عنها من طرف من اقترحوها ودافعوا عنها ...». فالجدال حول هذه القضية لا يزال مطروحا لحد اليوم، ولم يحسم فيه بعد. أما تسمية ((قصر طينة)) المذكورة في الملحمة، فهي لا تستند إلى أي أساس، اللّهم إلا أن تكون محاولة غير موفقة لتعريب اسم قسنطينة.
لا أود أن أتناول موضوع المفارقات التاريخية العديدة  التي ساقتها الملحمة حول الصراعات بين (سيفاقس) و(ماسينيسا)، للتخفيف على القارئ.
فيما يخص (سوفونيسب): عبر خطاب لاذع، دعت (ماسينيسا) للابتعاد عنها، مؤكدة وفاءها لزوجها (سيفاقس) الذي وقع أسيرا بأيدي الرومان، قبل أن تضع حدا لحياتها بطعنة خنجر.
لكن الحقيقة التاريخية مختلفة تماما: لقد استقبلت (سوفونيسب) (ماسينيسا) كمنتصر تحت ردهة القصر، منحنية، مادحة إياه ومبايعته، طالبة منه بإلحاح أن لا يسلمها إلى الرومان. ولكن  الرومان مصرون في طلبها كأسيرة حرب مخالفين في ذلك رأي (ماسينيسا).
هذا الأخير الذي أخذ على عاتقه ملاقاتها سِرًّا قدم لها السم لتتخلص من ذل الأسر. فتجرعته وهي راضية، حتى لاتكون سبية للأعداء. وحسب روايات أخرى لمؤرخين، فإن الذي قدم لها السم هو خادم مبعوث من طرف (ماسينيسا) .3
إن عرض هذه الملاحظات الثلاثة  السالفة الذكر (صريم باتيم) ـ (قصر طينة)
و (سيفاقس) ـ (ماسينيسا) ـ (سوفونيسب) لم تكن لشيء إلا لترسيخ الحقيقة التاريخية. وهي ملاحظات ليست بالتأثير الذي يَمَسُّ التخيلات التاريخية، بالنظر للأهمية النسبية للوقائع وبُعْدِهَا الزمني عن عصرنا.
إلا أن المسائل التي سأشير إليها فيما سيأتي، وإن لم يتم تداركها وتصحيحها من طرف الجهات المعنية، ستكون لها آثارا سيئة جدا على الذاكرة الجماعية  للجزائريين، بسبب المعلومات غير الصحيحة التي احتوتها الملحمة.
تسلسل زمني يسرد
 هنا أسمح لنفسي أن لا أحترم التسلسل الزمني حين سردها، إذ سأتناول ابتداء، حالة (مريم بوعتورة) التي استشهدت في جوان 1960 وأترك للختام ما هو أخطر وأعني بذلك التحريف غير المقبول لمجرى الأحداث الخاص بمعركتي قسنطينة  1836-1837.
إن ظروف استشهاد (مريم بوعتورة) كما قدمتها (الملحمة) خاطئة تماما. إن التخلي عن السلاح في نظام جيش التحرير الوطني والتوجه نحو العدو، حتى ولو أن الراية الوطنية بالأيدي، يعتبر فعل استسلام حكمه الموت. وإذا أُخِذَتْ هذه الرواية الملفقة التي جاء بها هؤلاء المؤرخين المزعومين بعين الاعتبار، فهذا يكون بمثابة إهانة لروح الشهيدة، التي عرفتها شخصيا، وأشهد هنا على شجاعتها. الحقيقة هي أن الشهيدة البطلة ورفاقها في السلاح، جابهوا ببسالة وأياديهم على الزناد لَمْ تَحِدْ، متسببين في سقوط أعداد من العدو حتى الاستشهاد، بعد أن باشر الجيش الفرنسي بإطلاق قذائف الدبابات على المكان الذي احتموا فيه والذي يقع بقلب مدينة قسنطينة .4
وقد بلغ هذا الصنف من المؤرخين قمة اللامبالاة والبلاهة عند روايتهم في سقوط مدينة قسنطينة.
ـ فحسب «الملحمة « وعند وصول (الجنرال كلوزال) ـ الذي هو في الواقع الحاكم العام ومارشال فرنسا ـ إلى مشارف المدينة، وجه رسالة إلى (أحمد باي) يأمره فيها بالاستسلام. هذا الأخير رفض الإنذار وبادر بمهاجمة (كلوزال) حيث اضطر هذا الأخير إلى الانسحاب والتراجع. وبعد 7 أيام ظهر (دام ريمون) و بالترهيب وبالترغيب، استطاع أن ينال من سكان قسنطينة، وهذا يعني ببساطة، الاستسلام والخضوع من دون أية مقاومة !!!.5
أما ملاحظاتي حول الحملة الأولى على قسنطينة  فهي:
لم يذكر أي تاريخ، وهذا يجعلنا نتكهن أن الأحداث كانت في عهد (أحمد باي).
لم يوجه (كلوزال) أية رسالة عند بلوغه حدود مدينة قسنطينة إلى (أحمد باي).
قائد الجيش الفرنسي والمشكل آنذاك من 8800 رجل و14 قطعة ميدان دفاعي (كما أُشِيرَ في الملحمة) هو المارشال (كلوزال) ومساعده كان (الدوق دي نمور ـ Duc de Nemours)، ابن ملك فرنسا، وإلى جانبهم الجنرالات (تريزال ودريني ـ (Trézel et Derigny ، والذين انطلقوا من عنابة متوجهين إلى قسنطينة بتاريخ  08 نوفمبر 1836، ووصلوا إلى سطح المنصورة عشية 21، تحت عاصفة ثلجية . (كلوزال) كان قد فقد كثيرا من العساكر والتجهيزات بسبب الغارات الفتاكة لسرايا (أحمد باي)، وكذلك بسبب البرد القارس. لقد كان لهذين العاملين المجتمعين الأثر البالغ على فلول قوات العدو لدرجة أن البعض ماتوا جراء الصقيع وآخرون انتحروا، زيادة على ضحايا ضربات فرساننا.
وعلى الرغم من هذا كله وجه (كلوزال) عدة هجمات انطلاقا من «كدية عاتي» وقبالة جسر القنطرة، ولكن دون جدوى؛ فقد كان يواجه في كل مرة مقاومة شرسة من قبل المحاصرين داخل المدينة الذين ألحقوا بقواته خسارة فادحة. لقد أصيب مساعده ونائبه الجنرال (تريزال) على مستوى الرقبة إصابة خطيرة. وأمام فشل محاولاته لاقتحام المدينة، أمر الجنرال (كلوزال) بالتراجع عن المدينة يوم 24 نوفمبر 1836:
 «الشيء الذي تسبب في إحداث حالة من الهلع انتابت صفوف القوات الفرنسية، فكل جندي وكل ضابط لم يعد يفكر سوى في شيء واحد، ألا وهو العودة بأقصى سرعة إلى مدينة عنابة، وهذا لتجنب الهلاك المحتوم. فقد تخلت الفلول المنهزمة عن المصابين والمرضى من دون أي حرج، ناهيك عن الكم الكبير من العتاد والمؤونة التي بقيت في أعقاب القافلة « 6.
لقد بلغ الحال بجيش الاحتلال أن انتابت نائب الماريشال، الجنرال (درينيي ـ Derigny) حالة من الفزع أصبح معها لا يفرق بين جنود (أحمد باي) ونبات القرنون البري، والتي ظنها السرايا المهاجمة، فأمر جنوده  بإطلاق النار فأردى بعضهم بعضا قتلى. 7.
وقد انتهت الحملة الأولى على مدينة قسنطينة في نوفمبر 1836 بهزيمة نكراء لجيوش العدو، بأكثر من 1000 قتيل وعدد لا يحصى من الجرحى، تحولت إلى أكبر اندحار للعدو إبان مرحلة الاحتلال 8، وحتى بعد ذلك. وهذه الهزيمة التي شبهت بما لحق الجيوش النابولينية بروسيا، والتي كانت نتيجة انكسار الحملة أمام أسوار مدينة القصر العتيق، صارت بمثابة إعلان عن النهاية المأساوية لمسيرة الماريشال (كلوزال) والذي استبدل بالجنرال (دام ريمون) بصفة حاكم عام وقائد للقوات الفرنسية بالجزائر.
إن الانتصار الساطع لمقاتلي قسنطينة وانهزام الفرنسيين الذي كان عارا على أصحابه المحتلين، لم تخصه الملحمة إلا فقرة هزيلة: «لقد اضطر (كلوزال) إلى التراجع تحت ضربات أحمد باي».!
الملحمة والحملة الثانية
 وماذا قالت الملحمة عن الحملة الثانية على قسنطينة؟
لقد اختلط الأمر على أصحاب الملحمة واتسمت هذه المحطة بالتذبذب والغموض التام.
أولا: فيما يخص (دام ريمون) والذي لم تذكر الملحمة صفته ولا رتبته،  ذكرت وصوله 7 أيام بعد رحيل (كلوزال) وبفضل  سياسة «الترهيب والترغيب»، أذعن له القسنطينيون وراحوا يسلمون له مقاليد مدينتهم. ولكن، لما نعرف أن الجنرال (دام ريمون) هلك يوم 12 أكتوبر 1837 وأن قسنطينة اقتحمت يوم الجمعة 13 أكتوبر، وإذا أخدنا بعين الاعتبار هذيان هؤلاء
«المؤرخين «، ولولا الموقف المأساوي للحدث، لقلناها متهكمين: «إن شبح جنرال فرنسي تمكن من احتلال قسنطينة ذات يوم جمعة  13 ...».
 فلنكف عن الاستطراد ولنصغي لما ينبؤنا به التاريخ:
بعد إمضاء معاهدة التافنة في 30 ماي 1837، لم تعد المنطقة الغربية معرضة لهجومات الأمير عبد القادر، وهكذا أصبح بالإمكان توجيه الجنود الفرنسيين لدعم الجيوش الغازية إلى عنابة للإعداد للحملة الثانية على قسنطينة.
 في 6 أكتوبر 1837 وصلت القوات الفرنسية تحت قيادة الحاكم العام (دام ريمون) مرة أخرى إلى قسنطينة بعد مرور 11 شهرا عن الحملة الأولى والتي قادها (كلوزال)، وليس بعد 7 أيام كما أشارت إلى ذلك خطأ «الملحمة». على إثر ذلك بدأت معركة ضارية بين الطرفين بضربات المدافع تتخللها من حين إلى آخر هجمات سرايا (بن عيسى) من داخل المدينة ومن سرايا (أحمد باي) التي كانت تتواجد خارج أسوار المدينة.
 وفي ليلة الأربعاء 11 أكتوبر 1837، قرر الفرنسيون إرسال خطاب إلى المدينة طالبين استسلام السكان.
وفي يوم الخميس 12 أكتوبر صباحا كان جواب القسنطينيون كما يلي:
«إن كان النصارى في حاجة إلى البارود أرسلنا لهم حاجتهم وإن قَلَّتْ مؤونتهم قاسمناهم ما نملك، لكن مادام واحد مِنَّا على قيد الحياة، فلن نسلم لهم مدينتنا ولن يدخلوها». 9
 وبعد قراءته لفحوى الرسالة، قال الجنرال: «أن هؤلاء الناس ذوي نفوس أبية وإن قضيتنا معهم لن تزيدنا إلا مجدا على مجد...» 10.
 وفي ذات اليوم الخميس 12 أكتوبر، قتل الجنرال (دام ريمون) بإحدى القذائف التي وجهت من داخل أسوار قسنطينة وسقط صريعا في المكان المسمى اليوم ساحة العقيد عميروش. أما قائد أركانه ونائبه الجنرال (بيريقو ـ Perrégaux) فقد أصيب إصابة قاتلة بإحدى الطلقات على مستوى الوجه. أما الجنرال (ريليار ـ Rhulière) فقد أصيب على مستوى وجنته. حتى الأمير (دوق دي نمور ـ Duc de Nemours ) فكاد أن يقتل، إذ خرب وابل من الرصاص عباءته.11
لكن تشاء الأقدار وفي يوم الجمعة 13 أكتوبر 1837، تمكنت القوات الفرنسية من إحداث ثغرة في أحد أسوار المدينة ومنه يطلق على الساحة الكائنة بعين المكان اسم: (لابريش ـ La Brèche ) وهذا ما لم تُشِرْ إليه الملحمة قط).
ومنها انطلقوا إلى داخل المدينة: تلاها تصادم هائل بين القوتين الغازية والمدافعة، تشابك فيه الحسام بالسيوف المعقوفة، طلقات الرصاص من كل صوب، قتال ضَارٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ. لقد أظهر المقاومون «صمودا منقطع النظير» 12. اعترف لهم به العدو، وهذه بعض الشهادات:
« لقد كانت المقاومة الشرسة لأهل قسنطينة تضاهي في مجدها قوة الهجوم عليها . أصحاب المدافع لقوا حتفهم عند مرابضهم  بعد دفاع مميت ، « لقد امتلأت الأقبية بالجثث التي مزقتها مدافعنا على مدى خمسة أيام . لقد ساهم كل فرد من أهالي قسنطينة بالدفاع عن أسوارها والكثير من النسوة قاتلن والسلاح بأيديهن .» 13
«... لقد احتدم القتال. لقد كان لزاما اقتحام المنازل الواحد بعد الآخر، فكلها كانت مواقع للمقاومة تنطلق منها الطلقات القاتلة ... الكثير من الناس وخاصة من النساء حاولوا الهروب عبر فجاج واد الرمال، وقد سقط الكثير منهم في أعماقه السحيقة». 14
٥٣ ضابطا و٦٠٠ جندي
يموتون تحت الحصار
لقد هلك ما يقارب 53 ضابطا وما يناهز 600 جندي عند الحصار أو عند إحداث الثغرة في أحد الأسوار. لقد دامت أعمال النهب والسلب قرابة 36 ساعة. لقد غمرت الجند الغنائم .» 15
«لن أتوقف أكثر عند صور النهب والفوضى التي لَفَّتِ المدينة، لقد دامت  ثلاثة أيام متتالية، فَلْنُلْقِي بوشاح سميك على هذه الأحداث، كي لا نُسَوِّدَ هذه الأمجاد والذكريات.» 16
«لقد دام دفن الموتى يومين كاملين، فكل مرة نعثر فيها على مزيد منها. لقد تكدست خارج منطقة (باب الوادي). من جهة القتلى الفرنسيين و من جهة أخرى قتلى الأهالي. ثم تَمَّ طمرهم في موقعين على الساحة الممتدة من الكدية الى مكان الثغرة (la brèche) حيث حفت عليهم طبقة غير سميكة من التراب، فلقد كانوا كثر «. 17
« لقد كان عدد الشهداء الذين سقطوا إبان معركة قسنطينة،  يُعَدُّ بالآلاف» .18
أما الضباط الفرنسيين الذين لقوا حتفهم فقد قررت سلطات الاحتلال آنذاك تخليد ذكراهم، فأطلقت أسماءهم على شوارع المدينة Vieux, Combes, Perrégaux , Damrémont , Madier, Rouaud Cahoreau, Morland , Serigny   ... إلخ ...
 لعلّ القارئ  يتساءل لماذا هذه الملاحظات الآن، مع أن عرض الملحمة في القاعة وبثها في التلفزيون، حدث سهرة 16 أفريل 2015 ؟ في الحقيقة، لقد سجلت يومها عيوبا خطيرة مَسَّتْ مساسا فادحا بتاريخ مدينة قسنطينة.
 وعلى رغم إستيائي، فقد آليت على نفسي القول إن الأمر له مختصوه من المؤرخين  ورجال الثقافة وحتى مسؤولي القطاع الثقافي في البلاد، فعلى عاتقهم تقع مسؤولية إعادة الاعتبار للحقيقة التاريخية بصفتهم تلك.
 لكن وأمام الصمت المطبّق لهؤلاء وأولئك، شرعت في تنبيه من هم حولي أما بالفاكس أو بالبريد الالكتروني أو بالحديث المباشر. لكن كم ذهلت أمام ردود لم تتجاوز مجرد التنديد المبدئي لا غير، وفي بعض الأحيان اللامبالاة وفي أحيان أخرى السكوت غير المفهوم !!! مع أن مؤلفي الجانب التاريخي من العمل الفني التي حملته (الملحمة)، وضعوا أنفسهم محل شبهة لأنهم قاموا بتشويه الحقائق بل تزويرها والاعتداء الصارخ على ذاكرتنا الجماعية! إن هذا الميل» للتشويه الذاتي الفكري «من طرف بعض «المتعلمين» هو فعل إجرامي.
 إننا كلنا مدينون لتضحيات الآلاف ممن قاوموا الحملات الفرنسية على قسنطينة، وما كان نوفمبر 1954 إلا امتدادا لهذه المقاومة. وسواء ذكرناهم أم لم نذكرهم (كما هو شأننا اليوم)، فهم من واجه العدو ميدانيا وجعله يدفع الثمن، فكان الفشل الذريع وكانت الخسائر الفادحة (1836 ـ 1837) على أرضنا إبان الاحتلال، بذلوا الدماء وخَطُّوا بها أسطر الملحمة الحقيقية.
 لكن في هذه الملحمة المزعومة التي عُرِضَتْ لمدة تقارب 3 ساعات، لم ينل منها صانعو الملحمة الحقيقية سوى دقيقتين وبعض الثواني !!! (إذا ما استثنينا المبالغات في شخص المنافق يوسف، بدقيقة وثلاثين ثانية وكذا الغناء، بدقيقة وثلاثين ثانية).
والأخطر في الموضوع هو إظهار المقاومين القسنطينيين في هاتين الدقيقتين في دور غير مشرف، كشعب يقبل الإذعان دون مقاومة. ويبدو أن صاحب نص الملحمة قد لفت انتباههم إلى الأخطاء التاريخية الموجودة قبل عرضها، لكنهم لم يأخذوا تلك الملاحظات بعين الاعتبار. والدليل علي ذلك هو بيانهم الذي نشر في جريدة «أصوات الشمال» في تاريخ الأربعاء 5 جمادي الثاني 1436 هـِ الموافق لـ : 25 مارس 2015 مِ.
 لقد كان بالإمكان لهذه المناسبة مناسبة (قسنطينة عاصمة الثقافة العربية) أن تكون فرصة لإنصاف هؤلاء الشهداء المجهولة أسماؤهم وهم بالآلاف من أبناء المدينة، وهم الأجداد الذين تطأ أقدامنا كل يوم التراب الذي عَفَّرَ رفاتهم، وهو المكان الموجود اليوم بين قصر الثقافة محمد العيد آل خليفة والبريد المركزي. لكن مع الأسف فإن العكس ما حصل، فلقد خُنَّا ذكراهم.!
   فهل نكتفي بالقول إن ما حصل قد حصل وفات الأوان. هل لنا أن نقبل بأن يرسخ في خلد الجزائر عموما والقسنطينيين منهم على وجه الخصوص، هذا الانطباع المهين عن مدينتهم وهي المدينة التي لا تقهر، فتصبح  هكذا تلك المدينة التي استسلمت تحت طائلة «الترهيب والترغيب « فأذعن سكانها دون مقاومة؟
نداء إلى المنظمة ووزارة المجاهدين
وبناءً على ما تَقَدَّمَ فإنني أوجه نداء إلى المنظمة الوطنية للمجاهدين، ووزارة المجاهدين، ووزارة الثقافة، مؤكدا أنه بالإمكان تصويب وتصحيح هذا النكران للتاريخ وإعادة الاعتبار لسكان قسنطينة في تلك فترة التي دُنِّسَتْ فيها كرامتهم وبسالتهم كمدافعين عن بلدتهم، ولقد اعترف لهم بذلك العدو قبل الصديق:
لقد بقي على نهاية التظاهرة قرابة 08 أشهر، وهو وقت كَافٍ لمراجعة ((النسخة)) الحالية من الملحمة وإبعاد المقاطع الماسة بمصداقية الأحداث واستبدالها بأخرى حتى ولو كانت منمقة، لكنها تبقى مطابقة للحقيقة التاريخية. حينذاك تكون الملحمة في صورتها الجديدة جديرة بالتقديم بمناسبة اختتام التظاهرة ((قسنطينة عاصمة الثقافة العربية)) بتاريخ: 16 أفريل 2016.
في 05 جويلية 2015 وخلال نشرة الأخبار للواحدة على القناة الأولى للإذاعة الجزائرية، أقر أحد مؤرخينا بأن الملاحم تعد أحسن وسيلة للتعريف بالتاريخ لعموم المواطنين شريطة أن تلتزم بالمصداقية التاريخية. غير أن المذيعة راحت من جهتها تؤكد ما جاء على لسان هذا المؤرخ ضاربة المثل بملحمة قسنطينة كنموذج لذلك وهي من دون شك على نية حسنة.
 إذن، نقول أن الخطر حقيقي على تاريخنا وذاكرتنا المجتمعة وتتأكد كل يوم هواجسنا الخاصة بهذه الملحمة التي أصبحت مثيرة لجدل شديد.
أثناء الاحتلال، قام الفرنسيون بتكريم وتمجيد ذكرى الجنرال (DAMREMONT) وأقاموا له لوحتين جداريتين، واحدة باللغة الفرنسية وأخرى باللغة العربية، على مستوى مسطحة الدرج الواصل بين ساحة عميروش وشارع عواطي مصطفى. أنه يمكننا نحن، ومن باب الواجب والوفاء لذكرى أولئك المقاومين، إقامة نصب في ذات المكان الذي قتل فيه الحاكم العام وقائد الجيوش الفرنسية، تمجيدا لشهداء المقاومة عن قسنطينة 1836-1837، مع الاشارة ولو بصيغ مختصرة إلى أمجادهم وتضحياتهم والخسائر التي لحقت بكلا الطرفين.     
إن المسألة ليست شخصية وحتى عشائرية، تدخلنا في جدال عقيم وسخيف، بل القضية، تكتسي صبغة وطنية تهم الجميع. إنها ظاهرة خطيرة تشكك في تاريخنا المشترك كجزائريين وتعمل علي طمس أمجادنا. فالسكوت على هذا من طرف من يعلم، يعتبر تخلي عن الواجب وأداء الأمان . إن بلغ هذا النداء ذوي الأذان الصاغية والأحلام الوافية واتبعوه بأفعال، يكون الشهداء المدافعون عن مدينة قسنطينة وهم الأبطال خلال حملات الاحتلال، الحق في أن تسعد أنفسهم الزكية وأرواحهم الطاهرة.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024