قال أحدهم، في معرض الإساءة للرئيس هواري بومدين، إن الرئيس رفض، خلال زيارة قام بها إلى المملكة العربية السعودية، أداء العمرة، وكانت هذه المعلومة أمراً صُدم به شباب كثيرون كانوا يرون في الرئيس الجزائري الراحل صورة ابن الكتانية والأزهر، المتمسّك بتعاليم دينه الحريص على أداء فرائضه وسننه ونوافله.
ولقد حدث الأمر فعلا وكنت من شهوده، لكن الحقيقة هنا مبتورة، وهو ما جعلني أخطّ هذه السطور، احتراما للأمانة التاريخية ووفاء لرجل كان غيابه ثلمة في صفّ الدعوة الإسلامية الواعية.
جرت زيارة الوفد الجزائري للسعودية في صيف 1978، وبعد أن غيّب الموت رجلا من أعظم الرجال هو الملك فيصل طيّب الله ثراه، وكانت الجزائر تعاني من تذبذب أسعار النفط الذي تعتمد عليه في تمويل تنميتها الوطنية وضمان حدّ معقول من الرفاهية الاجتماعية للشعب الجزائري، وكان معروفا أن إغراق السوق العالمية بالنفط سيؤدي إلى انخفاض أسعاره، وبالتالي إلى نقص الدخل الجزائري بشكل محسوس، قد يؤدي إلى تعطل بعض المشاريع المخصصة للنمو الاقتصادي.
وقرر الرئيس يومها أن يلتقي بالقيادة السعودية ليحاول إقناع أكبر الدول العربية المصدرة للنفط بتفادي زيادة الإنتاج بما يؤثر على الدول ذات الإنتاج المحدود.
وحطت بنا الطائرة في جدة، وتفضل الإخوة السعوديين مشكورين، وكعادتهم في استقبال الوفود الرئاسية، بإعداد أسطول من السيارات ليحمل الوفد من جدة إلى مكة، على بعد أقل من 90 كيلومترا، لأداء عُمرة.
كنت أتابع رتل السيارات التي تتجمع في ساحة القصر الملكي عندما لمحت مولود حمروش، وكان يومها مديرا للتشريفات الرئاسية، فسألته عن لحظة المغادرة نحو مكة، فأجابني بأن زيارة مكة غير مطروحة، وأضاف قائلا في نرفزة لم أعهدها منه: أمامك الرئيس فناقشه في الأمر.
وبالفعل دخلت على الرئيس الذي كان يقرأ تقريرا من عدة صفحات، ووقفت أمامه حتى رفع رأسه ليسألني بهدوئه المعتاد: ماذا وراءك؟
وقلت له ما سمعته من مولود، فوضع الأوراق جانبا وأجابني بغضب: أنا جئت هنا لأطرح أمرا سياسيا ولم آتِ حاجا ولا معتمرا، جئت “لأعمل” سياسة.
ويواصل الرئيس غضبته قائلا، وكأنه أراد أن أبلغ بقية الوفد بردّة فعله: من يريد الحج أو العمرة يقوم بها من ماله الخاص ولا يستجديها من أحد، أو ينتظر أن يتكرّم بها عليه أحد أيّا كان.
وتخيّلت أن الرئيس أحس بأن قبوله أداء العمرة سوف يكون إضعافا لموقفه أمام السلطات السعودية التي جاء يطالبها بما قد لا ترضى عنه، وتأكد لي هذا عندما استقبلنا العاهل السعودي الملك خالد بن عبد العزيز في اليوم التالي.
جلس الرئيس على يمين الملك في قاعة الاستقبال الكبرى بقصر السلام في جدة، وجلسنا نحن حولهما، وأدار الرئيس بصره في أعضاء الوفد السعودي الموجود في القاعة، ووقعت عيناه على الشيخ زكي اليماني وزير البترول السعودي.
كنت أتابع نظرات الرئيس، وعادت بي الذاكرة فورا إلى منتصف السبعينيات، عندما اختطف كارلوس وزراء النفط من اجتماعهم في فيينا، وقيل يومها أن هدفه الرئيسي كان اغتيال الشيخ اليماني وربما آخرين من وزراء البترول.
وتدخلت الجزائر يومها، وعرض وزير الطاقة الجزائري عبد السلام بلعيد على كارلوس أن يحتفظ به كرهينة بدلا من بقية الوزراء، وفي مقدمتهم اليماني، وطالت المفاوضات على متن الطائرة التي كانت قد حطت في مطار الجزائر الدولي، وأدار المفاوضات من الجانب الجزائري آنذاك وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة، وانتهت الأمور بفدية مالية لا أذكر قدرها، دفعتها السعودية.
تعلقت عينا الملك خالد وبقية الحاضرين بشفتي الرئيس بومدين، الذي حدّق للحظات في وجه الشيخ اليماني ثم قال وعلى شفته ابتسامة حَارَ كثيرون في فهم معناها: يا شيخ زكي، ألم يكن أحسن لنا أن نترك كارلوس يريحنا منك؟
ويجيب الشيخ اليماني على الفور: ما كان يفرق يا فخامة الرئيس.
وفهمنا جميعا، والرئيس في المقدمة طبعا، ما أراد وزير البترول السعودي قوله، وكان واضحا أنه امتلك شجاعة القول بأن القرار لا يتخذ في عاصمة بلاده.
وحقيقي أننا غادرنا المملكة العربية السعودية وكلنا أسى لأننا لم نتمتع بالعمرة، لكنني أستطيع القول بأن أكثرنا شعورا بالأسى كان الرئيس بومدين نفسه، والذي حرمه التمسّك بمنطق الدولة من القيام بأمر كان دائما يحلم به، ومات بدون أن يظفر به.
^ ملحوظة: نشر هذا المقال ثانية في 12 مارس 2014، وأعيد نشره مرة أخرى بتصرّف، من باب الوفاء والتذكير بما لا يجب أن يُنسى.