اتـّحـاد المغـرب العربي، وقفـــة مع الــذّات (1)

بقلم: الدكتور محيي الدين عميمور

أعرف أنّ كثيرين ينتظرون منّي أن أتناول أحداث الجزائر الجديدة، وفي مقدّمتها قضية التّعديل الدّستوري، لكنّني لم أجد ضرورة لاجترار ما كنت قلته منذ نحو ثماني سنوات حول هذه القضية على وجه التّحديد، وهو ما أعدت نشره منذ سنوات في «رأي اليوم»، ولم أجد اليوم جديدا يستحقّ التوقف عنده، ولعلّي أتذكّر بكل مرارة أنّني وجدت نفسي آنذاك وحيدا وكأنّني أبو ذر، والقياس مع الفارق الهائل بالطّبع، وكان التّعديل يومها سببا في إلغاء تقييد العهدات الرّئاسية الذي تمّ التّراجع عنه في التّعديل الأخير.
وغنيّ عن الذّكر القول بأنّني لا أجد رغبة في استعراض مأساة سوريا ومعاناة ليبيا، وتصريحات عبقري السياسة الدولية وفارس الديبلوماسية في الغبراء السيد عادل الجبير.
لهذا تركت مجال الحديث لمن يعرف ومن يهرف، فما لجرح بميت إيلام، وأعطيت لنفسي حقّ الضّحك ممّن يتبرّعون بالفتاوى بدون علم أو خبرة.
وقد كان وجودي في تونس، على هامش التّظاهرات المخلّدة لذكرى جريمة ساقية سيدي يوسف، فرصة لتناول قضية مرتبطة إلى حدّ كبير بالأحداث الحالية، وهو ما كان مضمون محاضرة ألقيتها هناك، وأحسست أنّ عليّ أن أسجّل هنا بعض عناصرها الرّئيسية.
وكنت اخترت للحديث عن اتحاد المغرب العربي عنوان «الوقفة أمام الذّات»، وواضح أنّني أردت القول أنّ وقفة كهذه لن تكون لاستعراض المآثر، اللّهم إلاّ إذا اعتبرناها وقفة تأبينية نذكر فيها محاسن ميّت عزيز، ويتذكّر أولو الألباب أنّني قلت منذ عدّة سنين أنّ تكريمنا لاتحاد المغرب العرب يجب أن يكون من منطلق أنّ إكرام الميت المسارعة بدفنه.
وهكذا وضعت أوراقي على المائدة منذ البداية، واعترفت أنّني سوف أركّز على السلبيات وأترك مهمّة التفتيش عن الإيجابيات لرفقاء كرام، أسجّل لهم شجاعتهم في مواجهة عناصر الإحباط والتّشاؤم، خصوصا وهم يركّزون على العلاقات الجزائرية التّونسية، التي كان أكثر الجوانب إشراقا في مسيرة الاتحاد.
وأعترف هنا أنّني فكّرت في الفرار من لقاء تونس، بعد أن حاولت طوال الأسابيع الماضية البحث عن أي جوانب إيجابية للعمل الذي «ارتكبناه» منذ لقاء «زيرالدا» عام 1988.
والذي حدث هو أنّني لم أجد الكثير ممّا يمكن أن نفتخر بإنجازه.
فحصيلة التجربة التي عشناها في العقود الثلاثة الأخيرة، أكّدت أنّ فكرة المغرب العربي «الواحد» هي حلم مستحيل التحقيق في المدى المنظور، لكن المغرب العربي «المتّحد» هو أمر في متناول اليد، إذا صدقت النوايا، واستطعنا أن نستلهم الأفكار العظيمة التي كانت وراء نضال السّابقين الأولين.
وهنا يجب أن نعترف بأنّنا، أكاد أقول جميعا، لم نكن، فيما يتعلق بتعاملنا مع المغرب العربي الكبير، في مثل عظمة القامات التاريخية التي عرفها الشمال الإفريقي، والذين يرمز لهم في القرن الثالث عشر والرابع عشر عبد الرحمن بن خلدون وعبد الرحمن الثعالبي، وكلاهما كان جسرا بين تونس والجزائر.
وإذا كانت ظروف نضال «يوغرطة» العصر الحديث، كما يُسمّي الفرنجة الأمير عبد القادر بن محيي الدين، قد جعلته رمزا للمغرب العربي عند المشارقة، فإنّ الجهاد الذي خاضه عمر المختار في ليبيا ضد الوجود الاستعماري الإيطالي في العشرية الثانية من القرن العشرين كان من نفس المنطلق الذي واجه به الأمير عبد الكريم الخطابي الاستعمار الإسباني في نفس المرحلة من القرن الماضي، استكمالا لحرب الثلاثمائة سنة التي واجهت فيها الجزائر أساطيل الأسبان، بعد فشل غزوة «شارلكان» للجزائر في 1541.
ويمكن القول بأنّ فرحات حشاد لم يكن، في مواقفه النّضالية التاريخية، يفكّر في تونس وحدها، بل كان يضع نضاله في إطار نفس الأفكار التي بُني عليها لقاء طنجة الثلاثي، بعد نحو ست سنوات من اغتياله الجبان في ديسمبر 1952 على يد المخابرات الفرنسية، التي كانت تتستّر وراء اسم اليد الحمراء.
وعندما أنشأ مصالي الحاج مع رفاق له في منتصف العشرينيات نجم شمال إفريقيا، كانت وحدة نضال المغرب العربي قاعدة أساسية في تفكيره، وآنذاك أطلق مفدي زكريا الجزائري نشيده الرّائع: سلام على المغرب الأكبر.
وسنجد فيما بعد أنّ أول رئيس للجمهورية الجزائرية، والذي سُجّل عليه نداؤه الثلاثي في تونس: نحن عرب، كان يعتزّ بأصله المراكشي، لأنّ المغرب العربي كان قاعدة رئيسية في تفكير أحمد بن بله.
ولعل من حقّي، بل ومن واجبي، أن أذكر هنا بأن بيان أول نوفمبر، الذي أعلن عن انطلاقة الثّورة الجزائرية في 1954، سجّل بكل وضوح وبكلمات حاسمة أنّ ما يقوم به المغرب وتونس في النصف الأول من الخمسينيات «يُمثّل بعمقٍ مراحل الكفاح التحرري في شمال إفريقيا»، ومن هنا فقد كان من أهم أهداف الثورة الجزائرية «تحقيق وِحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي».؟
لكن الذي حدث بعد استرجاع الاستقلال هو طغيان التطلعات المحلية على المطامح الوحدوية، وأنا أكرّر بأنّ معظم القيادات الوطنية بعد تحقيق الاستقلال لم تكن غالبا في مستوى آمال شعوب المغرب العربي، وعندما أقول القيادات أعني بها مجموع الطبقة السياسية بما فيها من سلطة ومعارضة، وبما تضمّه من أحزاب تحوّل كثير منها إلى متاجر سياسية أو دكاكين انتخابية، وأعني أيضا نخبا مثقّفة مشتّتة بين لقمة العيش والأطماع الشخصية، وحائرة بين ذهب المعز وسيفه، والشعوب في كل هذا مظلومة، لأنّها رهينة الإعلام الرّسمي الذي يلجأ إلى إثارة النّعرات الوطنية لحماية الأهداف السياسية لنظم الحكم، وهي غالبا أهداف ضيقة الأفق محدودة التفكير.
من هنا جرؤت على القول بأنّنا لم نكن في مستوى القيادات التّاريخية التي أنهت الوجود الاستعماري في منطقة المغرب العربي، ولعلّي أدّعي أنّنا كنّا في شبابنا أقرب إلى الإيمان بوحدة المغرب العربي ممّا أصبحنا عليه في مرحلة النّضج، وضاعت أدراج الرّياح أغانينا التي كنّا نتغزّل بها في الشمال الإفريقي، ومنها قصيدة القائد الكشفي الجزائري محمد الصالح رمضان:
ســل جبــال الأطلس ** من طنجة لتونس
كم حررت من أنفس ** آبـــاؤنا في الغلـــــس
والغَلَسُ هو ظُلْمة آخر الليل، وكان معظمنا يردّد الكلمة بحماس شديد وغالبا بدون فهم معناها.
كنّا ننشد:
يا موطني خـذ اليمين *** منـــــّــا على مرّ السنـــين
أنــــا نري هـــواك دين *** نرعـــى حمـــاك لا نلين
وكنّا يومها نردّد عبارات التّمجيد التي ارتفعت في المشرق العربي بصوت الشّاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي في قصيدته بعنوان «أوراس» عندما خاطب المغرب العربي صائحا:
يا مغرب يا مغرب...من أين أتيت بكل ضحاياك
هل أنت معين رجال لا ينضُب
العالم كل العالم يعجب
مات الصف الأول....تقدم
مات الصف الثاني....تقدم
مات الصف الثالث ...تقدم، دُسْ على وجه من أحببت
وترحّم عليه بعد النصر.
هكذا كنّا قبل أن يُلوّث النفط أجواءنا، ونغرق في أوحال النرجسية الشوفينية، ثم نروح نبكي على اللّبن المسكوب.
ومهمّتنا اليوم كمثقّفين هو أن نتعرّف على الأسباب الموضوعية التي جعلت المغرب العربي لا يكتفي بالتوقف عن المسيرة، ولكنه يتراجع بشكل يثير الرثاء.
ولا جدال أنّ مواقف بعض بلداننا بعد استرجاع الاستقلال في الوفاء للأمل المغرب العربي الكبير كانت إيجابية في معظمها، وأكتفي بالإشارة إلى أنّ الجزائر وتونس احتضنتا وحدهما دولة موريتانيا المستقلّة، التي لم تعترف بها الجامعة العربية لأسباب ربما لعب النّفط العربي فيها دورا رئيسيا، وهكذا ظلّت موريتانيا خارج إطار الجامعة العربية نحو عشر سنوات، وإلى أن عقد المؤتمر الإسلامي الأول في الرباط عام 1969، والتّفاصيل معروفة.
ولعل ليبيا آنذاك، وبرغم العواطف المشتركة منذ جهاد عمر المختار، كانت تميل أكثر نحو المشرق العربي، ربما لأنه لم يكن لدى الأقطار الموجودة غرب طرابلس من يمكن أن تستفيد منه ثقافيا أو اقتصاديا أو سياسا، وتزايد النفور الليبي من فكرة المغرب العربي بعد الإطاحة بالملك إدريس السنوسي في نهاية الستينيات، حيث رأى القادة الجدد في وحدة الشمال الإفريقي، وربما نتيجة لتأثير الفكر الناصريّ أو بقايا ثورة «لورنس» المزعومة، مرادفا لمشروع الهلال الخصيب الاستعماري.

...يتبع

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024
العدد 19522

العدد 19522

السبت 20 جويلية 2024
العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024