كنت أتابع صور الأشقاء الأعزاء من أقباط مصر وهم يُقتادون على شاطئ، قيل أنه في منطقة طرابلس، ووراء كل منهم واحد من زبانية الإسلاميين المتعصبين، بدوا أشباحا سوداء لا يُرى من ملامحها شيء، وكان أول ما لاحظته هو أن الرهائن كانوا يسيرون في هدوء وانضباط وكأنهم مدعوون لحفلة عيد ميلاد، ولم يتعثر أحدهم أو يتردد أو يتشنج أو يصرخ أو يبدو عليه وكأنه يُقاد رغم أنفه.
كنت أتابع صور الأشقاء الأعزاء من أقباط مصر وهم يُقتادون على شاطئ، قيل أنه في منطقة طرابلس، ووراء كل منهم واحد من زبانية الإسلاميين المتعصبين، بدوا أشباحا سوداء لا يُرى من ملامحها شيء، وكان أول ما لاحظته هو أن الرهائن كانوا يسيرون في هدوء وانضباط وكأنهم مدعوون لحفلة عيد ميلاد، ولم يتعثر أحدهم أو يتردد أو يتشنج أو يصرخ أو يبدو عليه وكأنه يُقاد رغم أنفه.
وأنا لا أشك ولا أشكك في شجاعة الأشقاء، لكنني أعلم أيضا أن البشر بشر، وأن الرهائن لم يكونوا دعاة أو قادة يدافعون عن فكر أو مبدأ يلزمهم الثبات عند الشدائد، وبالتالي فإن وضعية الاستسلام التي كانوا جميعا عليها توحي بأكثر من تفسير، كأن يكون الجميع مخدرين كيميائيا أو لفظيا.
ورحت أتساءل بشكل مستمر عن هذه القوة المفاجئة التي ظهرت عليها مجموعات من الحفاة الرعاة سطع نجمهم في الشهور الأخيرة، وحَمَلوا أو حُمّلوا اسما مركبا ينتسب إلى الإسلام ويرتبط بقطرين شقيقين، يتعرض أولهما منذ نحو عشريتين إلى عدوان حاقد من القوة الدولية الأولى، متحالفة مع عشرات الدول الكبرى والصغرى، ويعيش الآخر مأساة مريرة تحالف فيها الجميع عليه، تحريضا أو إهمالا وتراخيا، وتبدت فيها ميوعة القيادة التي خلفت بوش الصغير.
وتطلب الأمر اليوم تحالفا دوليا جديدا للقضاء على «داعش»، يذكر بتحالف بداية العشرية الماضية لتدمير العراق مرورا بأفغانستان، والذي فشل حتى الآن في القضاء على حفاة عراة آخرين حملوا اسم طالبان، والذي مولته عائدات النفط العربي.
وأثار انتباهي وأنا أتفحص الصور طولُ قامة الزبانية، حتى خلتهم فريقا متفوقا في كرة السلة، المعروف لاعبوها بطولهم المتميز، بحيث كاد الواحد منهم يكون مرة ونصف طول أي من الرهائن البؤساء.
هؤلاء الرهائن كانوا في قبضة من أطلق عليها اسم الجماعات الإسلامية المتشددة أو القاعدة منذ نحو شهرين، ولم يحدث أي تحرك محلي أو جهوي أو دولي ذي تأثير فعال لإنقاذهم من جلاديهم، بل إن مكان اعتقالهم لم يكن معروفا من قبل مصالح مخابرات، قيل يوما أنها تعرف كل ما يدور في ليبيا منذ فاتح سبتمبر 1969، ومعروف أنها اليوم في تنسيق كامل مع الموساد والسي آي إي.
وكان الغريب أن هتافات أهالي الرهائن أمام نقابة الصحفيين المصريين كانت تؤكد أن الرهائن محتجزون في أحد معسكرات اللواء خليفة حفتر، الذي كان يسعى جاهدا لإقحام الدولة المصرية في الصراع الليبي، ولم يصدر عن الطرفين المعنيين تكذيب أو تفنيد أو تأكيد.
وكانت وقفة الجزائر في المأساة الليبية حازمة وحاسمة في رفض أي تدخل خارجي، ولو تدثر برداء الأخوة وتزمّل بغطاء الجيرة، ويدعي البعض بأن الهدف الرئيسي من زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للجزائر منذ عدة شهور كان محاولة إقحامها في الأمر، دعما للجنرال الذي تعرفه الجزائر جيدا، منذ نكبة الجيش الليبي في تشاد.
ولم يتوقف اللواء حفتر يوما عن المطالبة بالتدخل، حتى خشيت أن يمدّ يده يوما لإسرائيل، وراجت أنباء كثيرة عن قيام طائرات مصرية وإماراتية بقنبلة أهداف معادية للواء المنشق في ليبيا، وهو ما أكدته مراجع أمريكية موثوقة، عادت وتراجعت بشكل بدا مضحكا ومثيرا للسخرية، لأن القوم هناك يعيشون وعيونهم مثبتة على صور الأقمار الإصطناعية، وجواسيسهم يملؤون كل ساحات الصراع.
ويعرف فبراير العملية البشعة التي جرى فيها إعدام الطيار الأردني الشاب، والتي تم تصويرها بحرفية إعلامية كبيرة، وكانت النتيجة التفاف الشعب الأردني حول قيادته السياسية وترحيبه بعمليات القنبلة الجوية التي قام بها سلاح الطيران الملكي، ثم جرى تداول معلومات عن إرسال قوات أردنية برية لمحاصرة «داعش» والقضاء على شرها، وهو ما لم يكن من السهل تقبله في الشارع الأردني قبل صور الإعدام البشعة، والتي أدانها الجميع في مشارق الأرض ومغاربها، تاركين جانبا تساؤلا بسيطا عن حقيقة من أسقط الإف-16، التي لم تكن تلقي الزهور وقطع الشوكولاه على من تحلق فوقهم.
ونفس الأمر يحدث اليوم في ليبيا، ففي اليوم التالي مباشرة تقوم طائرات مصرية بقنبلة أهداف ليبية قيل أنها قواعد لـ«داعش»، أو لمنظمة إرهابية مماثلة، وارتبطت القنبلة بحملة إعلامية مصرية هائلة كان مضمونها وهدفها دعم الالتفاف حول القوات المسلحة وقائدها الأعلى، والذي كانت التسريبات الأخيرة قد أضافت إلى متاعبه الناشئة عن فشل المجموعة الإنقلابية في تحقيق أي نصر ميداني، رغم ملايير الدولارات التي انهمرت عليها، والتي قيل أنها لم تدخل كلها خزينة الدولة.
وتذكرت أن مجموعات من المرتزقة الأوربيين كانت تستأجر للقيام بعمليات إجرامية في عدد من الدول الإفريقية، لعل أبرزها مجموعات بوب دينار المعروفة.
ويتفجر أمامي تساؤل ملح.
فالضحايا المصريون أعدموا، كما قيل لنا، في شاطئ منطقة طرابلس، والهجومات الجوية المصرية تمت في منطقة درنة شرق ليبيا، حيث استهدفت، كما قيل لنا، قواعد الإرهابيين، والمسافة بين طرابلس ودرنة تتجاوز 1000 كيلو متر، فكيف تركت الطائرات الحربية الحمار وراحت تضرب البردعة، أي لماذا لم تهاجم داعش في نفس المنطقة التي قتل فيها الأقباط الأبرياء.
ثم إن الصور التي تم بثها عن الأهداف التي قنبلت لا تقدم دليلا واحدا على صحة ما قيل، وهي نفس المناطق التي ادعى حفتر بأنها تخفي إسلاميين متطرفين.
ولن أطرح من جديد التساؤل الملح عمّن كوّن داعش، وعمّن يسلحها بالأسلحة الحديثة ومن بينها المدرعات، وكيف فشلت الأقمار في تحديد مواقعها القيادية، ومن يزودها بالعمالقة الذين يضع بعضهم في يده اليمنى (اليمنى) ساعة من آخر طراز، ومن يبرز أخبارها بحرفية إعلامية متميزة، ومن يركز في تلك الأخبار على ربطها بالإسلام، ومن يعمل على إنشاء كيان ثان جديد في المنطقة، بعد إقامة دولة جنوب السودان وبعد أن قارب دور إسرائيل على الانتهاء، ومن يدبر في الوقت نفسه عمليات إرهابية في أوروبا، بل وأستراليا، تربط كلها بالإسلام والمسلمين.
ثم، ما دور النفط في القضية كلها، ولماذا شلّ دور الأوبيك؟ وما هو دور العرب والأعراب في كل ما يحدث، وهل هم مجرد بنك يموّل العمليات بتعليمات لا تحتمل التردد، أم أن هناك فكرا سياسيا مشوّها، يظن أنه فاعل لا مجرّد مفعول به.
ولست أدري لماذا تذكرت فجأة الهجوم الجوي الذي قامت به طائرات الرئيس المصري الراحل أنور السادات على ليبيا في 1977.
كان هم السادات الأول بالتالي حلّ المشكلة المصرية الاقتصادية التي تهدد بتكرار ما حدث في بداية عام 1977، وفجأة تسرب إلى فكره اقتراح كان الوفد الإسرائيلي قد همس به إلى الوفد المصري في لقاء جنيف أواخر 1973، وكان محوره أن على مصر ألا تنظر شرقا، حيث المشاكل كثيرة والمردود محدود، لكن عليها أن تنظر غربا لأن الفائدة هناك مضمونة والمخاطر محدودة.
ويقول هيكل (عواصف الحرب والسلام) بأن السادات خطر له أن يغزو ليبيا، وفي ذهنه أن يحتل الجانب الشرقي حيث معظم منابع البترول الليبي (ص 328).
وهكذا أصبحت ليبيا هدفا للنظام المصري، وكانت قوته الرئيسية ترسانة الإعلام الهائلة التي ورثت من مرحلة أحمد سعيد أسوأ ما فيها، ولم تأخذ عنها إيجابية رئيسية واحدة.
وفي يوم 19 يوليو يُنشر في القاهرة أن قوات ليبية قامت بالإغارة على مواقع مصرية في منطقة السلوم، على الحدود مع ليبيا، ثم يُعلَن أن قوات مصرية ردّت على«العدوان» وقامت بالدخول إلى المواقع التي انطلقت منها العمليات ضد المواقع المصرية، وقامت بتدميرها وعادت إلى قواعدها بعد تنفيذ مهامها ضد القوات الليبية المعتدية!!(..و) عاد النظام الليبي *واستأنف قصف مواقعنا الأمامية بنيران المدفعية (..) وقامت قواتنا بالردّ عليها بالنيران حتى أسكتتها، وفي صباح 22 يوليو قامت الطائرات الحربية الليبية بثلاث غارات جوية (..) ولما كان النظام الليبي مستمرا في اعتداءاته بطريقة تهدد أمن قواتنا وأراضينا (..) قامت قواتنا الجوية بمهاجمة قاعدة «العضم» الجوية، وأسفر هجومنا عن تدمير شديد للقاعدة ومنشآتها وبعض الطائرات فيها.
وأحدث الهجوم على القاعدة الليبية خسائر كبيرة، ومن المُحزن أن الجرحى نقلوا إلى مستشفى طبرق الذي كان يضم مجموعة من الأطباء المصريين العاملين في إطار القوات الليبية، كان تصرفهم رائعا ونبيلا، ليس فقط من الناحية المهنية بل من الناحية الوطنية، ويقول هيكل (ص 331) أن :«الصورة كانت مأساوية لدرجة أن الجراح المصري الدكتور مصطفي الشربيني بعث ببرقية إلى السادات يقول له فيها أنه كان يُجري العمليات للجرحى من الضباط والجنود الليبيين وهو لا يكاد يرى مواقع جراحهم، لأن الدموع كانت تملأ عينيه».
وكان الهجوم صدمة هائلة للرئيس هواري بو مدين، فتوجه فورا إلى طرابلس ثم إلى الإسكندرية، وكان اللقاء بينه وبين السادات بالغ التوتر، وهو ما أكده هيكل (ص 333) وراح السادات يُعدد مبرراته قائلا بأن : القذافي كان يتحرك بمخطط سوفيتي، وهو يقوم ضده بحملة كراهية ويُعبّئ الشعب الليبي ضده للتغطية على مشاكل ليبيا الداخلية، وهكذا افتعل مشكلة مع مصر ولم يكن أمام السادات إلا الرد عليها، خصوصا عندما بدأ القذافي يستعمل وسائل الحرب البكتيريولوجية ضد القوات المصرية ( !!!) وقام بتسميم عدد من الآبار التي تعتمد عليها القوات المصرية للحصول على ماء الشرب.
وراح السادات يُردد أمام بومدين : سيبوني أأدّبه.
هذا كان عن اليوم والأمس فماذا عن الغد ؟