الحلقة3
تأكيد الثورة الجزائرية على تطبيق الأهداف والقيم المذكورة أعلاه لم يكن نابعا فحسب من قناعة ذاتية إنسانية ومنطقية قانونيا، بل كان نابعا أيضا من التجربة التاريخية التي عاشتها الجزائر طوال المقاومات الشعبية المستمرة عبر أنحاء الوطن، مثل معركة أسطاوالي غرب الجزائر العاصمة (منتصف جوان 1830) والمقاومات الجزائرية بقيادة أحمد باي شرقا (1832 ــ 1837)، الأمير عبد القادر غربا (1839 ــ 1847)، والمقراني وسطا والزعاطشة جنوبا (1849) وانتفاضة 8 ماي 1945 عبر قرى ومدن جزائرية كلها محطات تاريخية تُجسّد مدى استمرارية المقاومة الجزائرية، وتعكس الخلفيات التاريخية لمقاومة الحركة الوطنية لتأخذ مسارا وطنيا فعالا ومنهجا هادفا متمثّلا في حرب شعبية تحررية شاملة (1954 ــ 1962) بمحتوى وأبعاد وطنية موحدة وعلى رأسها استرجاع استقلال الجزائر (1962).
تعبئة رأي عام الشعوب المستعمرة
2 ــ كان كذلك للثورة الجزائرية تأثير دولي في مضاعفة يقظة وتعبئة رأي عام الشعوب المستعمرة بممارستها لنموذج فعال وهادف متمثل في الحرب الشعبية وحرب العصابات رغم غياب التكافؤ العسكري مع المستعمر. هذا الاختيار الذي أصبح مثالا لمعظم المستعمرات في إفريقيا وآسيا التي رفض الاستعمار استقلال بلدانهم بالطّرق السّلمية، وأصبح نموذجا واسع الانتشار من أجل تطبيق على الأقل أدنى قيم وحقوق الإنسان، وهو حق الشعوب في تقرير مصيرها وبالتالي تحويل اتهام ووصف العمل المسلح من طرف حركات التحرر الوطنية من عمل إجرامي وإرهابي إلى حركات وعمل إنساني بأهداف نبيلة موثقة ومعترف بها ليس فقط في مواثيق منظمة الأمم المتحدة وفروعها بل في دساتير الدول الفاعلة (بريطانيا، فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية) في منظمة الأمم المتحدة والنظام الدولي ككل. لقد أثبتت الثورة الجزائرية للعالم أن فرنسا هي التي اخترقت أدنى قيم وحقوق الإنسان ولم تحترم حتى قوانين الحرب نفسها، وذلك باستعمال النابالم وتقتيل المدنيين وتخريب وحرق ممتلكات الشعب الجزائري.
لا يمكن أن يكون لأية حركة سياسية تأثير وطني أو دولي إذا لم تكن لها بنية ذاتية فعالة وجادة تجسد محتواها وأهدافها. مهما بلغ حجم الإعلام والمشاركة من أجل تحقيق الهدف المنشود لا يمكن أن يكون له صدى إذا لم تصحبه ممارسة موازية لذلك وتعطى لها الأولوية على العمل السياسي. أي أن يصبح العمل السياسي نتيجة لعمل ميداني، ذلك ما حدث بصفة هادفة ومستمرة في الجزائر ابتداء من أول نوفمبر 1954. أصبحت الأهداف والوسائل واضحة ومتمثلة في حركة وطنية تحررية ثورية هدفها استرجاع استقلال الجزائر وسيادة الدولة الجزائرية.
لتحقيق هذه الغاية تركت الخلافات السياسية والإيديولوجية الداخلية جانبا، وحوصرت الآراء الذاتية وحوربت الأفكار المستوردة التي لا تخدم الهدف الأساسي وهو تحرير الجزائر.
بقي على ممثلي جبهة التحرير الوطني أن يجسّدوا بيان أول نوفمبر بتعبئة الرأي العام الوطني، وتحسيس العالم بالعمل التحرري في الجزائر للوقوف بجانبها، وبجانب شرعية أهدافها ووسائلها. كان الرأي العام الدولي والمواقف الدولية الإيجابية تجاه حرب التحرير الجزائرية وتجاه القضية الجزائرية في المحافل الدولية أساسا نتيجة لتعبئة معنوية ومادية (العمل المسلح) ذاتية قوية داخل الجزائر فرضت نفسها واستقطبت أنظار العالم.
لقد كانت الثورة الجزائرية نتاجا وانعكاسا لقيم ومبادئ وتاريخ المجتمع الجزائري، ولم تكن نتاجا لأفكار أجنبية وغريبة عن المجتمع الجزائري مثل الأفكار الشيوعية التي ميزت الكثير من حركات التحرر الوطني في عالم الجنوب.
الوجود الشيوعي في حرب التحرير الجزائرية، كان جماهيريا منعدما. وفي معظم الأحيان لم تتصادم استراتيجية التيار الشيوعي الجزائري من حيث الهدف والنتيجة مع الإستعمار الفرنسي بسبب قناعة الشيوعيين، خاصة الستالينيين، بأنّ تحرير العالم من الإستعمار ينطلق من إنهزام الرأسمالية والإمبرالية العالمية في مراكزها بالعالم الغربي.
ما عمّق ذلك الطّرح والممارسة في جبهة التحرير الوطني هو أن قيادة أركان جيش التحرير الوطني كانت نابعة من قاعدة شعبية واسعة وبخلفيات وقناعات موحدة وهي العمل المسلح من أجل التحرير كوسيلة أساسية لأي عمل أو نتيجة سياسية وبنيوية للدولة الجزائرية. كان العمل السياسي والعمل العسكري مندمجا وموحدا بحكم الطابع الجماهيري والهدف الموحد لقيادة الثورة الجزائرية.
إنعكست هذه القناعة والإنسجام بين العمل العسكري التحرري والعمل السياسي في إبراز حركة ثورية وطنية جزائرية، وفي توظيف سلوك وممارسة الدولة الوطنية أثناء الثورة الجزائرية. أعطى ذلك للقضية الجزائرية صدى إيجابيا حتى داخل الرأي العام الغربي.
3 ــ لقد كانت الثورة الجزائرية نموذجا عمليا للمظاهر والأنواع المختلفة للممارسات الإستعمارية. الجزائر كشعب، وتاريخ وحضارة وأرض بمساحة تشكّل حوالي 4 مرات مساحة فرنسا تدمج وتصبح عبارة عن جزء من الأراضي الفرنسية أو ولاية من الولايات الفرنسية. دولة ذات سيادة ونفوذ فعال إقليميا ودوليا تصبح تحت تسيير أقلية أوروبية وبممارسات وسلوك عنصري. دولة بخلفية تاريخية عريقة متجذرة عكس ما أراد الإستعمار الفرنسي تغليط الرأي العام العالمي بتزييف تاريخ الجزائر. واستمرت هذه الخلفية وهذه المغالطة تعيش في أذهان بعض السلطات الفرنسية حتى بعد استرجاع سيادة الدولة الجزائرية.
ميشال جوبار، وزير فرنسي سابق كتب مؤخرا (مارس 1998):
سيسجّل التاريخ للشعب الجزائري تعلّقه بأرضه رغم أنّه لم يؤسّس أية تقاليد حكم ودولة عبر العصور...أنّ أحدا لم يحاول أن يبحث ماذا كان التاريخ الرسمي للجزائر الحديثة ليس إلا تاريخ الظروف.
كما كانت الجزائر مثالا لمستعمرة مورست فيها أعلى مراحل الرأسمالية، وكما يصفها الماركسيون بالإمبريالية، بما فيها تدمير الاقتصاد الجزائري الذي كان في بعض مجالاته ينافس الاقتصاد الفرنسي خاصة الفلاحة، وبالأخص الحبوب التي كانت أحد الأسباب المباشرة للاحتلال الفرنسي نتيجة مطالبة الجزائر بدفع الديون الجزائرية المستحقة لدى فرنسا مقابل الحبوب التي اشترتها من الجزائر. كما اغتصب المستعمرون أهم وأخصب الأراضي الزراعية وتحويل أصحابها من مالكي أراضي إلى خدم. السيد بيار جوكس كتب (مارس 1998) معترفا ومؤكدا ذلك:
إنّ الاستغلال الاستعماري كان مسلسلا طويلا للبشاعة...وجلب خاصة جرائم القمع والتعذيب واستغلال القوى العاملة والثروة البشرية للبلدان المستعمرة ومواردها الأولية.
وفي كتابه أضواء على الثورة الجزائرية، وصف (1956) السيد «إبراهيم كبه» المعاناة الجزائرية من الإمبرالية الفرنسية كما يلي:
لعلّ من أروع خصائص كفاح الجزائر في الوقت الحاضر هو أنه مبني على إدراك عميق واع للحقيقة الجوهرية ]وهي الحرب من أجل التحرير[ من النظام الكولونيالي المتمم اليوم لنظام الاستعمار الحديث. إنها كولونيالية مترابطة الأجزاء، متفاعلة الوجوه لا يمكن بالمرة فصل جوانبها الاقتصادية، والاجتماعية عن طبيعتها السياسية كما يفعل اليوم سادة الإسلاحات الجزئية من الاستعماريين الفرنسيين ودعاة المساومة والحلول التدريجية من أذنابهم ]إنّ العدو المحارب[ في الجزائر هو النظام الكولونيالي نفسه، وسيّدته الإمبريالية الفرنسية ومن ورائها نظام الاستعمار العالمي.
لقد قدّمت الثورة الجزائرية نموذجا لإخراج استعمار عاش فترة في الجزائر من بين أطول الفترات التي شهدها الاستعمار في التاريخ المعاصر. فترة مارس فيها الاستعمار كل الوسائل المادية والمعنوية الممكنة من أجل تشويه ثقافة وحضارة وقيم المجتمع الجزائرية، وجعلها تحت وصاية ثقافة وحضارة غريبة. تلك الأنواع من الممارسات الاستعمارية أهّلت الجزائر لتصبح حلقة ربط وتجربة مثالية لأنواع الاستعمار عبر أنحاء العالم. أو كما لقّبت بـ: «مكة الثوار».
4 ــ أحدثت الثورة الجزائرية شللا في مخطط واستراتيجية فرنسا الاستعمارية بإفريقيا. فبعدما كانت المستعمرة الجزائرية بالنسبة إلى فرنسا تمثل عمقا استراتيجيا ومجالا حيويا للمحافظة على مصالحها الاستعمارية، تحوّلت الجزائر إلى قاعدة استراتيجية لمحاربة الوجود الاستعماري ومنطلقا لإفشال المخطط الفرنسي بإفريقيا. ذلك ما دفع فرنسا ليس فقط إلى تركيز معظم نشاطها وطاقاتها الاستعمارية ضد حرب التحرير الجزائرية داخليا، بل كثّفت نشاطها إعلاميا وعسكريا لقطع مصادر التأييد الخارجي للثورة الجزائرية. السبب الأساسي وراء مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر (1956) كان تأييد هذه الأخيرة إلى الثورة الجزائرية. بالنسبة إلى فرنسا ضرب مصر هي وسيلة الهدف منها إضعاف المصدر الأساسي لتدعيم حرب التحرير الجزائرية.
حســـــابـــات لاكـــــــوســت
روبرت لاكوست (Robert Lacoste) الوزير الفرنسي المقيم بالجزائر عبّر عن ذلك كما يلي: «فرقة عسكرية فرنسية واحدة بمصر أحسن من أربعة بالجزائر».
تاريخ انطلاق الثورة الجزائرية لم يترك لفرنسا الوقت الكافي لتدعيم وترتيب وجودها الاستعماري في العالم. بدأت الثورة الجزائرية (أول نوفمبر 1954)، بعد أقل من 6 أشهر من هزيمة فرنسا في معركة ديان بيان فو (ماي 1954) بالهند الصينية، وفي نفس الفترة بدأت حركات الاستقلال الوطني الإفريقية تصعد من نشاطها مطالبة بالاستقلال بدءا بتونس والمغرب.
أدّى التخوف من تصاعد انفجار الوضع بمستعمرات فرنسا بإفريقيا إلى التفكير في استقلال المستعمرات الإفريقية على الأقل بشروط تساير استمرار المصالح الفرنسية مع تركيز قواها على المستعمرات الأهم بإفريقيا وعلى رأسها الجزائر. ذلك ما تضمّنه تصريح «لادغار فور»، رئيس الحكومة الفرنسية (27 ديسمبر 1955) عقب الشّهور الأولى لبداية (نوفمبر 1954) حرب التحرير الجزائرية.
علينا أن نكسب التّسابق مع الساعة... ]لأنّ[ مشاكل إفريقيا السّوداء ستطرح وتفرض نفسها علينا تماما مثل مشاكل شمال إفريقيا.
وبنفس المحتوى كان وصف «شارل دي غول»، الرئيس الفرنسي لسياسته أثناء الفترة (1958-1962)، مقدّرا أنّه لو رفضت فرنسا مطالب حركات الاستقلال الإفريقية لتحوّلت هذه الأخيرة إلى ثورات ضد فرنسا على غرار «الحرب المتواصلة في الجزائر»، وبالتالي تخسر فرنسا مستعمراتها ونفوذها وتؤثّر سلبا حتى على وحدة الجيش الفرنسي والوحدة الوطنية لفرنسا نفسها.
ونفس المعنى تضمّنه ردّ الآن سافاري، كاتب الدولة الفرنسي للشؤون المغربية والتونسية أثناء مناقشات (03 جوان 1956) الجمعية العامة (البرلمان الفرنسي):
«لو كنّا في ظروف طبيعية لاشترطنا تفصيل وتوضيح ذلك التداخل (L’interdépendance) مع المغرب وتونس قبل الاعتراف لهما بالاستقلال... ولكن في الظروف السائدة ]يقصد تصاعد تأثير حرب التحرير الجزائرية في الشهور الأولى[ لو تشرّدنا لفقدنا كل شيء وتستقل المغرب وتونس بدوننا أو ضدنا».
لم يكن تأثير حرب التحرير الجزائرية محسوسا فقط على مستوى الدول المستعمرة بل امتد حتى إلى الدول التي نالت استقلالها من فرنسا أثناء حرب التحرير الجزائرية. كانت غينيا نموذجا لذلك بحيث رفضت هذه الأخيرة الاستقلال الشكلي أو الاستقلال المشروط من فرنسا. أصرّت غينيا، بقيادة الرئيس «أحمد سيكوتري»، على الاستقلال التام دون شرط، ممّا أدّى إلى دخولها في مواجهة، من جديد، مع فرنسا. ردّ هذه الأخيرة هو شلّ الاقتصاد الغيني وتدمير المنشآت القاعدية الحيوية في غينيا.
كان لقادة جبهة التحرير الوطني وعي بصعوبة وطول أمد حرب التحرير الجزائرية أمام حجم قدرات العدو الفرنسي الذي كان يتضاعف يوميا:
إنّ كفاحنا مازال طويلا وشاقا، ومازالت الطريق أمامنا مفروشة بالمصاعب و...... بالضحايا، ومازال الشعب الجزائري مطلوبا بكثير من الدماء والدموع لأنّ بلادنا أصبحت اليوم ملتقى أطماع المستعمرين، الذين يريدون من خلال ضرب الجزائر ضرب استقلال تونس والمغرب وإيقاف التحرر في إفريقيا كلّها. هذا هو السبب في إطالة أمد الكفاح الذي يجعل معركتنا معركة طويلة الأمد.
5 ــ شكّلت الثورة الجزائرية أول ردّ فعل عربي جماهيري بعد نكسة العرب أمام إسرائيل سنة 1948 (الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى). قد يتساءل البعض حول عدم اعتبار الثورة المصرية (جويلية 1952) كأول رد فعل عربي بعد النكسة. يجب التذكير بأنّ الثورة المصرية أطاحت بنظام ملكي وقادها ضباط داخل النظام السياسي المصري الملكي. فلم تأخذ الثورة المصرية بعدا جماهيريا شاملا إلا بعد تأميم قناة السويس (1954)، وتضاعف ذلك بعد العدوان الثلاثي على مصر (1956).
6 ــ ساهمت حرب التحرير الجزائرية بفعالية في دعم تصاعد المطالب المتزايدة في أجزاء كثيرة من العالم المستعمر بهدف الاستقلال والحرية. استعمال القوة العسكرية من طرف الدولة الاستعمارية بحدة وكثافة لفرض إرادتها واستمرارية وجودها واجهه أسلوب تحدي فعال متمثل في مواجهة شعبية عن طريق الحروب الشعبية وحرب العصابات لتجسيد أهداف إنسانية سامية ووطنية نبيلة، وهي حرية واستقلال الشعوب المستعمرة، وأدى ذلك بالدول الاستعمارية إلى الإسراع بالتفاوض مع الكثير من حركات الاستقلال الوطني، وبالتالي احتواء انتشار العمل المسلح الجماهيري والمجابهة الشعبية المتزايدة ضد السلطات الاستعمارية ليبقى الاستعمار المباشر ومتواجدا أكثر في مناطق إستراتيجية محدودة مثل الجزائر بالنسبة إلى فرنسا، وإفريقيا الجنوبية بالنسبة إلى بريطانيا.
7 ــ حاربت الثورة الجزائرية الإرهاب الدولي المنظم من طرف القوى الاستعمارية. فإذا كان من بين مفاهيم ومظاهر الإرهاب هو التقتيل والإبادة الجماعية لأبرياء عزل من السلاح، فإنّ هذه كانت الوسيلة الأساسية للوجود الاستعماري الفرنسي منذ بداية الحملة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر والأسلوب المستمر للمحافظة على مستعمراتها. ليس المجال هنا لتحليل ذلك، ولكن يكفي التذكير بمجازر 8 ماي 1945 التي ارتكبت ردّا على خروج السكان الجزائريين في المداشر والقرى والمدن عبر أنحاء الوطن منادين باستقلال الجزائر ومشاركين في احتفال الأوروبيين بالانتصار على الفاشية والنازية. رد فرنسا كان الإبادة الجماعية لـ 45 ألف من الجزائريين العزل.
استمرّت فرنسا في هذه السياسة، وبالتّنسيق مع حلفاؤها، تمّت إبادة مليون ونصف مليون من الشعب الجزائري خلال فترة حرب التحرير الجزائرية (1954-1962). وأصبحت المواجهة والتضحية الجماهيرية الجزائرية وسيلة عملية لوقف استمرارية الإبادة الجماعية الفرنسية.
السيــادة أولا وأبدا
وضع حد لهذه الإستراتيجية الفرنسية من طرف المواجهة الشعبية الجزائرية لم تكن نجاحا للشعب الجزائري فقط، وذلك باسترجاع سيادته واستقلاله، وبالتالي أمنه وحريته وكرامته، بل نجاحا لكل الإنسانية التي تعاني من الهيمنة والممارسات غير الإنسانية للقوى الاستعمارية خاصة المستعمرات الحيوية والإستراتيجية التي كانت الدول الاستعمارية متمسّكة بها، وعملت على بقائها تحت سيطرتها ولو بالمواجهة العسكرية.
8 ــ لم تعتمد ثورة أول نوفمبر على العمل المسلح فقط كوسيلة لتحقيق أهدافها، بل اعتمدت كذلك على العمل السياسي والدبلوماسي من أجل تدويل القضية الجزائرية وجعلها «حقيقة واقعة في العالم كله، وذلك بمساندة كل حلفائنا الطبيعيين».
كما سبق ذكره لم يكن استعمال العمل المسلّح هدفا في حد ذاته بل في الواقع كان خيار أخير بعد فشل الخيارات السياسية. توظيفه كان وسيلة مؤقّتة للضّغط على فرنسا وعلى المؤسسات الدولية خاصة منظمة الأمم المتحدة للوقوف بجانب حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره. وبما أنّ اختيار غير مبدئي وغير مرغوب فيه فقد كان سلوك وممارسة جبهة التحرير الوطني داخليا وخارجيا منذ بداية حرب التحرير هو احتواء العمل المسلح عن طريق إقناع المجتمع الدولي ككل حول ضرورة استرجاع استقلال الجزائر في أسرع وقت. النشاط الدبلوماسي كان يهدف إلى:
أ ــ محاولة احتواء الحرب عن طريق الضغط الدولي على فرنسا للاعتراف بحق تقرير مصير الشعب الجزائري.
ب ــ تنوير الرأي العام العالمي بالأهداف المشروعة وبالوسائل المفروضة لتحقيقها.
ج ــ تكذيب الدعاية الفرنسية حول وصف ممارسات جبهة التحرير الوطني بالأعمال الإجرامية والإرهابية وبعدم شعبية ومصداقية جبهة التحرير الوطني، وغيرها من الأوصاف لتغطية الأهداف الوطنية والإنسانية لحرب التحرير الجزائرية.
د ــ التضامن مع الشعوب المستعمرة وكل حركات الاستقلال وقوى التحرر في العالم.
هـ ــ كسب الاعتراف الدولي على مستوى الدول وعلى مستوى المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة، والتحالف مع كل القوى المناهضة للعنصرية والهيمنة الاستعمارية.
و ــ البحث عن مصادر للتمويل والتدعيم المادي والمعنوي لحرب التحرير الجزائرية.
ز ــ كسب تأييد الشعوب حتى داخل مراكز القوى الاستعمارية.
على المستوى غير الحكومي وجدت القضية الجزائرية اهتماما متزايدا وأخذت حيزا هاما سواء في لقاءات وبيانات الأحزاب المعارضة للاستعمار، أو على مستوى التنظيمات والنقابات والاتحادات والتجمعات الإقليمية والعالمية الإنسانية التحررية بما فيها من داخل فرنسا نفسها، معبرين عن تضامنهم مع أهداف ومطالب جبهة التحرير الوطني، وعن إدانتهم الشديدة للاستعمار الفرنسي، مطالبين حكوماتهم بالضغط على فرنسا من أجل تقرير مصير الشعب الجزائري.
...«يتبــــع»