لو صوّرنا واقع الإنسان المعاصر في سياق ثقافة ما بعد الأخلاق، بتصوير جامع، لقلنا إنّه إنسان غافل، ومادة غفلته هي سهوه عمّا هو موكل إليه حقّا، وانغماسه في ملهيات أخرى تصرفه عن معالي الأمور وأقومها، أو على التحقيق؛ تصرفه عن مادة حياته أو حياة قلبه، فهو على الظاهر قد تمكّن من تسخير العالم لحاجاته، لكنّه في الباطن اختار مسلك الغفلة وتغييب الذّات عن القيم الروحية التي تعيد إليه الحياة..
لهذا ترى الانسان لا يتوقّف عن طلب المشتهيات لنفسه، غير آبه بانقلاب نتائجها عليه في القريب أو البعيد، متخذا من فكرة الحقّ دليلا ووسيلة لمشروعية أفعاله»، حتى طار في العقول مفهوم جديد للإنسان هو الحيوان المطالب بالحقوق. ولو أنّ ظاهر هذه الكلمة في مصلحة الإنسان، فإنّ باطنها هو طمس وحجب النور الروحي المبثوث فيه، وبيان ذلك أنّ الحقّ هنا قد أخذ معنى مائلا، لأنّه يميل إلى المشتهيات أو الثقافة الاستهلاكية ميلا بائنا، ويقترف من الأفعال ما يجعله موصوفًا بالشرود والإخلاد إلى أنموذج الحياة الزاحفة بدلا من الحياة العارجة؛ فالإنسان المعاصر ما بعد الأخلاقي، قد وجد في فلسفة الحقّ دليلا للعمل لا بموجب العقل، وإنما بموجب الغريزة النفسية التي لا تعرف للروح طريقا، لأنّها تشعر وتفكّر من ذاتها، وتتأبى الخروج من هذه الحجب النفسية الكثيفة التي أورثتها حركة الحداثة باعتبارها ذلك المزيج غير المسبوق تاريخيا من الممارسات والصيغ المؤسّساتية (العلم والتكنولوجيا، والإنتاج الصناعي، والتمدين)، ومن الأساليب الجديدة في العيش الفردانية، والعلمنة، والعقلانية الذرائعية، وكذلك من أشكال التوعك الجديدة (الاغتراب، وانعدام المعنى، والإحساس بالتفكّك الاجتماعي الوشيك).
إنّ الإنسان المعاصر الذي يتشرّب القيم النهائية لثقافة ما بعد الأخلاق، وبخاصة قيمتا المتعية والنرجسية، قد استولت على ملكه الأهواء وغلبه الطبع الإنساني الماثل؛ وهاتان الصفتان من طبيعتهما حب الترؤس وحب التسيّد على القوى الروحية في الإنسان، وتم لهما ذلك التسيّد مع ثقافة الإنسان المعاصرة، ولو أنّنا أحببنا وصف هذه الثقافة لقلنا إنّها الثقافة الغافلة التي ترأست فيها القوى الشهوانية وتسيّدت على الروح الإنسانية؛ لهذا، فإنّ الإنسان المعاصر في حاله الأخلاقية، لا يزال يرتسم عليه وصف الحارث المحاسبي رغم تعاقب الأزمنة في هو محارف للتفريط، معتاد للبغي، مشغوف بالتسويف، مجبول على الملل والنسيان، وهو موصوف بعدم العزم، مطبوع على الأمل، منعوت بالجزع عند الشدّة، وبقلّة الشكر عند النعمة، مولوع بالانخداع والاغترار.
ولأجل هذه الحال، فإنّه حقيق بنا المفاتشة عن الطرق التي بوساطتها نعيد إلى الإنسان المعاصر مادة حياته؛ أيّ أن يتيقّظ ويتحفّظ من جديد، ويتحرّر من السهو الذي استغرق حياته، وبات حاكما على أفكاره وأقواله وأفعاله، وكي تتحقّق هذه البغية، بأن ينهض هذا الإنسان من جديد، ويهزم في ملكه هذا الترؤس والتسيّد للقوى الشهوانية والأهواء، بأن يستبدل مكانها القوى الروحية، ويرسم المنهج الذي تبقى بموجبه هذه القوى مسؤولية على الملك الإنساني من جديد، فإنّ الميراث الأخلاقي لمحيي الدين بن عربي في طليعة المصادر الأساسية التي يمكن لها أن تنير الدروب للإنسانية من جديد، وذلك عن طريق الأخذ بيد الإنسان من حال الغفلة الطوعية إلى حال اليقظة القصدية. وما نأخذه من ميراث ابن عربي هو المنهج الذي رسمه لأجل بلوغ هذه القصود، حيث إنّنا سنركّز على دور العلوم العقلية في إحداث الارتياض من جديد على مكارم الأخلاق؛ تلك المكارم التي غفل عنها الإنسان المعاصر وهجرها بحجة أنّها إلزامية ومؤلمة وضيّقة، وما درى أنّ هذه الأحكام التي ظاهرها العقل هي من موجبات التخيّل لا من موجبات التعقّل، ومن مستلزمات الوهم الذي يأتي في صورة العقل فيلبس على الإنسان الفعل العقلي الصحيح والصائب. ولأجل فكّ عُقَدِ هذا الإشكال، فإنّنا نبسط الإشكالية المركزية لبحثنا في الصورة الآتية: ما الكيفية التي تكون بوساطتها العلوم العقلية أداة للارتياض بمكارم الأخلاق والاهتداء إلى الإنسان المتيقظ في منظور الميراث الأخلاقي لابن عربي؟ وعن هذه الإشكالية المركزية تتوزّع تساؤلات جزئية أخرى نصوغها في الآتي:
ما مدلول العلوم العقلية ومكارم الأخلاق والارتياض في الميراث الأخلاقي لابن عربي؟ كيف رسم ابن عربي طريق الارتياض بمكارم الأخلاق ومنهج التدرّج في محمود الغايات متوسّلا في ذلك بالعلوم العقلية وعلوم الحقائق؟ ما العلوم العقلية التي قصدها في هذا المقام؟ وما ثمرات هذا الارتياض بالعلوم العقلية على صورة الإنسان الجديد؟ وما مدى مشروعية وصدقية القول بأنّ غَفْلَة الإنسان المعاصر تجد علاجها الجذري من الميراث الأخلاقي الأكبري؟
المفاهيم والمعاني..
إنّ ما يجب الإشارة إليه، قبل صَرْفِ القول إلى بسط مفاهيم الدراسة، أنّنا لن نخوض في المعاني على طريقة المعاجم في البحث في المدلولات اللغوية، أو تعديد المعاني في الاصطلاحات العلمية السائدة، وإنما سنقتنص المعنى الخادم للمسار العام للإشكالية، والمعنى الذي نظفر به من سياق النسق العلمي العام الذي تنتمي إليه أقوال ابن عربي نفسه، لأنّ الغرض هو فقه المعاني للكلمات الواردة، كي تعين القارئ من البداية على فهم المبنى الذي تقصده هذه الدراسة.
العلوم العقلية
تتداول هذه العبارة المركبة في مجالات تصنيف العلوم، ولأنّ موضوعنا هو وصف العبارة وشرحها، فلن نتجه إلى سياق تحميد العلوم أو تذميمها، بل إنّنا نتقصد الغرض من وضع هذه العبارة، وبخاصة أنّها، أيّ العلوم العقلية، مفهوم قلق تارة، واحتجاجي تارة أخرى؛ أيّ إنّه أداة نقد لمنظومة العلوم النقلية، وعليه، فإنّ العلوم العقلية والعلوم الحكمية والفلسفية ألفاظ متقاربة في استعمالاتها العديدة؛ يقول ابن خلدون إظهارا لهذه الفكرة: وأما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنّه ذو فكر، فهي غير مختصة بملة، بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النوع الإنساني، منذ كان عمران الخليقة، وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة، وإذ عرف هذا كما جاء في النص المذكور فإنّنا نستنتج ما يلي: . العلوم العقلية اختصاص إنساني بوجه لا يشاركه فيه غيره من الموجودات الطبيعية، فرغم أنّ الإنسان هو آخر الموجودات الطبيعية، فإنّه أول الموجودات العقلية التي اختصّت بهذا التركيب بين التكوين الطبيعي والتكوين الروحي، فالميزة بهذا أنّ باطنه مشتمل على كلّ إمكانات الكون الكلّي؛ ذلك أنّه حقّق في ذاته ككون أصغر، انعكاسا لصفات الكون الأكبر.
- الاستواء في التوزيع العادل لهذه الأفعال العقلية، وفي هذا يقول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت R. Descartes:
إنّ العقل هو أعدل أشياء الكون توزّعا بين الناس (...) والمقدرة على الحكم الجيد والتمييز بين الحقيقة والخطأ، وهي ما يسمى على وجه التحديد صوابا أو عقلا، متكافئة بالطبع لدى جميع الناس، وكذلك على أن تنوّع آرائنا لا يحصل من كون البعض أكثر تعقّلا من البعض الآخر، بل من كوننا نسوق أفكارنا على دروب مختلفة.
- وفور هذه العلوم بحسب وفور العمران في الأمم؛ فابن خلدون يجري ترابطا سببيًا بينهما؛ إذ إنّها لا تتوافر في مرحلة البداوة ابتداءً، بينما تتراكم تبعا لتراكم العمران ووفوره.
وإذ تبين لنا الوصف الكوني للعلوم العقلية من حيث هي منزع عقلي إنساني يولد العلوم الكونية كذلك، فالأحرى أن نتساءل: ما الذي يقابل هذه العلوم المسماة عقلية؟ وهل هذه المقابلة توجب التعارض والضدية التنافرية أم أنّها في تداخل معرفي مع ما يقابلها من العلوم الأخرى؟
يشير أبو الحسن العامري إلى صنف العلوم العقلية أو الحكمية بالقول: وأما العلوم الحكمية فهي تفتن أيضًا إلى صناعات ثلاث إحداها حسية وهي صناعة الطبيعيين والثانية عقلية: وهي صناعة الإلهيين، والثالثة مشتركة بين الحسّ والعقل وهي صناعة الرياضيين، ثم صناعة المنطق تتنزل من الصناعات الثلاث منزلة الآلة المعينة عليها. والملابس لهذه الصناعات لا يقلّ قيمة عن الملابس الصناعات العلوم الملية، ولا يوجد بينها وبين هذه الأخيرة مدافعة أو عناد؛ إذ إنّ فوائدها، أيّ العلوم العقلية، بحسب ما يرى العامري هي:
- الأنس باستكمال الفضيلة الإنسانية باستيلائه على حقائق الموجودات والتمكّن من التصرّف عليها.
- الخلوص إلى مواقع الحكمة فيما أنشأه الخالق جلّ جلاله، من أصناف الخليقة، والتحقّق لعللها ومعلولاتها، وما تتصل به من النظام العجيب، والرصف الأنيق.
- الارتياض في مطلب البرهان على الدعاوى المسموعة، والسلامة من وصمة التقليد للمذاهب الواهية.
يظهر، إذن، أنّ العلوم العقلية متعدّدة في موضوعاتها، وأنّ غرضها متكامل فهو أخلاقي وعلمي ومنهجي؛ فالأول مداره التحلي العملي بالأخلاق الفاضلة التي يوجبها العقل، والثاني علمي تجريبي مداره اكتشاف القوانين الطبيعية، والثالث منهجي مداره إتقان المنهج المنطقي والميزان المعرفي الذي يعرف به صحيح الفكر من خطئه، ويعرف به باطل الاعتقاد من حقانيته، وخير الأفعال من شرّها.
أما إذا صرفنا النظر إلى أبي حامد الغزالي، فإنّنا نجده، بعد أن قسّم العلوم إلى قسم شرعي وآخر عقلي، وقسم الشرعي إلى أصول هي علم التوحيد والتفسير وعلم الأخبار، وإلى فروع أو علم الفروع العملي وهي حقّ الله تعالى، وحقّ العباد، وحقّ النفس، وقسم أيضًا العلم العقلي وجعله في ثلاث مراتب هي: العلم الرياضي والمنطقي، والعلم الطبيعي، والعلم الإلهي، فإنّنا نجده يقول قولا غير معهود فيما يخصّ العلم العقلي، ووجه هذا نلاحظه من حيث دمجه للعلم العقلي في التصوّف إذ يقول الغزالي مبيّنا هذه الحقيقة: اعلم أنّ العلم العقلي مفرد بذاته ويتولّد منه علم مركب يوجد فيه جميع أحوال العلمين المفردين، وذلك العلم المركب علم الصوفية، وطريقة أحوالهم، فإنّ لهم علما خاصا بطريقة واضحة مجموعة من العلمين وعلمهم يشتمل على الحال، والوقت والسماع والوجد والشوق والسكر والصحو والإثبات، والمحو، والفقر، والفناء، والولاية والإرادة، والشيخ والمريد، وما يتعلّق بأحوالهم مع الزوائد والأوصاف والمقامات. وهنا يعتبر الغزالي أنّ التصوّف من العلوم العقلية حال تركبها لا انفرادها، ووجه هذا الإقرار، فيما يظهر لنا أنّ التصوّف من العلوم العقلية العملية، فالعقل كما يتعين في الممارسة الإسلامية بخاصة في قطاعها الصوفي، ليس أداة معرفية منفصلة عن التقويمات الأخلاقية العملية، بل إنّ معناه لا يكتمل، وصورته لا تتضح، إلا بعد أن يكون الإنسان جامعا في سلوكه بين أفعال القلب وأفعال الجوارح، ومن دمج بينهما في سلوكه فهو العاقل على الأتمّ.
إذن، يظهر لنا أنّ العلوم العقلية لها وجه نظري ثمراته هي علوم الطبيعة والرياضيات والعلم الإلهي، وآلة هذه جميعا هي الآلة المنطقية، ووجه عملي ثمراته هي علم الأخلاق والتصوّف وسياسة النفس.
الارتياض
يتخذ لفظ الارتياض مدلولا عقليا وآخر أخلاقيا، فالأول هو تحصيل الدربة على التحرّر من التخيّلات والأوهام، والرجوع في الأحكام إلى القوّة العقلية المسنودة بالوحي الإلهي وحدها؛ كي لا يقاد الإنسان بالأوهام والتخيّلات، والثاني هو الرياضة الروحية وتكرار الأفعال المحمودة وتكلّف اقترافها كي تصبح هذه الأفعال راسخة وثابتة تصدر عن النفس بسهولة ويسر. فالارتياض تبعا للشقّ الثاني من المدلول يدخل في باب الوسائل التي تكتسب بها الأخلاق، وبيان ذلك «أنّ التدريب العملي والممارسة التطبيقية ولو مع التكلّف في أول الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى، من الأمور التي تكسب النفس الإنسانية العادة السلوكية، طال الزمن أو قصر (...) وحين تتمكّن في النفس تكون بمنزلة الخلق الفطري، وحين تصل العادة إلى المرحلة تكون خلقا مكتسبا، ولو لم تكن في الأصل الفطري أمرًا موجودًا.
وثمّة استعمال لفظي آخر متقارب في المبنى وفي المعنى على حدّ سواء، هو لفظ الرياضة، وفي هذا جاء شرح الرياضة عند ابن عربي بالقول إنّها تهذيب الأخلاق وترك الرعونة وتحمّل الأذى، ومعنى (تهذيب الأخلاق) تنقيتها وتطهيرها ممّا لا يليق بها، وترك الرعونة وهي المحق والاسترخاء والعجلة (وتحمّل الأذى الذي يصدر عن الخلق والعفو عنه والاستغفار لهم).
وقد جاء في حدّها أيضًا تمرين النفس لإثبات حسن الأخلاق، ودفع سيّئها، وبهذا اختصاص عمل التصوّف، أو على حدّ تعبير الغزالي: “وأما الرياضة فهي تمرين النفس على الخير ونقلها من الخفيف إلى الثقيل باللطف والتدريج إلى أن ترتقي إلى حالة يصير ما كان عنده من الأحوال والأعمال شاقّا سهلا”.
واللافت للنظر هنا اختصاص الرياضة بالجانب الأخلاقي أكثر من الجانب العقلي، وهذا يبدو قولا مقصودا، يجد أصله في أنّ العمل بالأخلاق يوسّع المدارك العقلية وينمّي التفكّر الإنساني بما لا ينميه العقل المجرد، وانطلاقا من هذا المعنى للرياضة، الذي تصفو فيه النفس كي تكون مؤهّلة لتلقّي المعاني وانتقاش صور العلوم فيها، يساند هذا الفعل أيّ الارتياض والرياضة، فعل آخر هو المجاهدة، الذي يحمل في معناه بذل الجهد في المستوى العقلي، أيّ الاجتهاد، وبذله في المستوى الإرادي، أيّ الجهاد، وفي هذا يقول محمد بن عجيبة شارحًا مفهوم المجاهدة من حيث إنّها فطم النفس عن المألوفات وحملها على مخالفة هواها في عموم الأوقات، وخرق عوائدها في جميع المجالات (...) وهي ثلاث مجاهدة الظواهر بدوام الطاعات وكفّ المنهيات، ومجاهدة البواطن بنفي الخواطر الرديئة، ودوام الحضور في حضرة القدسية، ومجاهدة السرائر باستدامة الشهود وعدم الالتفات إلى غير المعبود.