في سبيل مقاربة أكثر شمولا لـ “التّعلّم”

نحـو تعلــيـم يليـق بالمستقبـل

رالف ميرسر ترجمة: ثائر ديب

 تخيّل عالما يكون فيه التعليم أكثر من حفظ أصم واختبار موحّد، عالما يحرص فيه الطلاب على استكشاف ترابط الأشياء جميعا واعتناق مقاربة للتعلم أكثر شمولا وأخلاقا ومسؤولية. وإنّها لتتضح على نحو متزايد حقيقة أن نظامنا التعليمي لا يفي بالغرض، ويحتاج إلى تغيير جذري لمجاراة التقدم التكنولوجي، والأزمة المناخية المتسارعة، ومتطلبات استشراف المستقبليات، ما الذي سيبدو عليه، إذن، هذا الإطار التعليمي المعاد تخيله؟

 أوّلا، سيكون هناك انتقالا من المواضيع التقليدية المحددة المجال صوب مقاربة أشمل، فيها المواضيع مترابطة، والتعلم المتعدد الاختصاصات. وهذا يعني أن الطلاب سيشجعون على استكشاف العلاقات المعقدة بين حقول المعرفة المتنوعة وفهم الترابط بين جميع الأشياء.
لننظر كيف يمكن دمج مفاهيم فلسفية معاصرة مثل مفهوم ميشيل فوكو (Foucault Michel) “تقنيات الذات”، والفكرة الفلسفية ما بعد الإنسانوية حول التكنولوجيا بوصفها “سمة إنسانية”، بما في ذلك استخدام “المحول التوليدي مسبق التدريب-4” (4-GPT) كدليل تعليمي شخصي مرافق، ومفاهيم الواقعية الفاعلية (Realism Agential)، أن يخلق تجربة تعليمية أكثر دينامية. فالتعليم التقليدي عادة ما يضع البشر في مركز الإنتاج المعرفي. لكن الفكر الفلسفي ما بعد الإنسانوي يسعى إلى نزع مركزية الإنسان، رافضا الإنسانوية باعتبارها موضوعا ناظما للتعليم، وموفرا وسيلة لدمج المنظورات اللاإنسانية، والأكثر من إنسانية، والإنسانية المهمشة في المنهاج.
تطرح “الواقعية الفاعلية” أن العالم هو عملية صيرورة مترابطة. وفي سياق التعليم، يجب أن يكون الطلاب مشاركين فعالين في بناء معرفتهم، وهذا ما يشدد على أهمية السياق. وبتشجيع الطلاب على استكشاف المنظورات المتنوعة والتفكير نقديا في ما يتلقونه من معلومات، نستطيع أن نتخطى فكرة الحقائق الثابتة الموضوعية التي تضيق نظرتنا إلى المستقبليات.
يتيح نقد فوكو للفروع أو الاختصاصات الأكاديمية، للمتعلم أن يرى منظورا قيما في مساءلة الواقع القائم، فهو يرى أن الفروع الأكاديمية يبنيها بناءً من هم في السلطة، وليست حقول دراسة موضوعية، ودمج هذا النقد في التعليم يعزز التفكير النقدي، ويشجّع على مقاربة أكثر تداخلا بين الفروع. وتحفز هذه النقلة الطلاب على أن ينظروا أبعد من حدود المواضيع التقليدية، وأن يستكشفوا الروابط بين الحقول المتنوعة، ما يفضي إلى فهم أشمل للعالم.
يعد عمل سوغاتا ميترا حول بيئات التعلم ذاتية التنظيم أحد الأمثلة لمقاربة للتعليم متداخلة الفروع تشدد على أهمية التعلم المدفوع بالفضول والانخراط في المعلومات من فروع متعددة، ما ينمّي فهما أعمق للمواضيع المعقدة والتفكير النقدي.
برفضنا الحواجز الأكاديمية، نستطيع أن نخلق بيئات تعلم تحفز دمج المعرفة والمهارات من مجالات مختلفة لمواجهة تحديات العالم الواقعي. ويمكن المعلمين بإدماجهم المفاهيم المتعددة الفروع، أن يخلقوا تجارب تعليمية تعكس الطبيعة المترابطة لهذا العالم، ما يساعد الطلاب على رؤية الصلة بين تعليمهم وحياتهم ومهنهم المستقبلية.
علاوة على ذلك، يمكن التعليم المتعدد الفروع أن يساعد الطلاب على تطوير عقلية متنامية وهم يتعلمون أن يتأقلموا مع حقول معرفية متعددة ويبحروا فيها. وهذه العقلية أساسية في عالم اليوم المتغير بسرعة، حيث يجب على الأفراد أن يكونوا رشيقين ألمعيين ومدركين لذاتهم.
إنّ تحولا في الإطار المفهومي السائد (البردايم) لهو ضروري لدمج هذه الأفكار الفلسفية والتقنيات الناشئة. وعلينا أن ننتقل من الاختبار الموحد الذي تتحكم فيه المؤسسات إلى التعلم المدفوع بالفضول والمتعدد الفروع. وهذه المقاربة الجديدة تلح على أهمية السياق والتفكير النقدي وتتيح للطلاب السيطرة على بيانات تعلمهم والتقنيات التي يستخدمونها. ويستطيع الطلاب أن يربطوا بنقاط قوتهم وضعفهم واهتماماتهم، تعلمهم، وتصبح بيانات التعلم، محمولة أو نقالة، يسهل نقلها بين المؤسسات وأماكن العمل، فتزيل الحواجز وتمكن من إجراء تقويمات شاملة. وبدلا من الاعتماد الحصري على نتائج الاختبارات الموحدة، سوف تمكن بيانات تعلم الطلاب الشخصية من إجراء تقويم أشمل لقدراتهم التعلمية وتقدمهم وإنجازاتهم الفردية. يميل الاختبار الموحد إلى تقويض فاعلية الطلاب بفرضه إطار عمل صلب ومسبق التحديد في تقويم إمكاناتهم، ويشعرون أنهم مرغمون على الامتثال لتطلعات محددة بدلا من أن يتابعوا اهتماماتهم وضروب شغفهم.
أما تمكين الطلاب بالسيطرة على بيانات تعلمهم، فيعزز الشفافية ويشجع التأمل الذاتي والنمو. ويمكن الطلاب بامتلاكهم لبياناتهم أن يتخذوا قرارات مستنيرة حول أسفار تعلمهم، ويحدّدوا المواضع التي تحتاج التحسين، ويتتبعوا تقدمهم بمرور الوقت. إضافة إلى ذلك، يمكن أن ينمي تملك البيانات هذا حسا بالمسؤولية وتوجيه الذات كلما أمعن الطلاب في تعليمهم.
في هذا البردايم التعليمي الجديد، سوف يستبدل بالاختبار القياسي تقويمات بديلة تركز على الفهم الفردي وتطبيق المعرفة في العالم الواقعي. يضاف إلى ذلك أن المتعلمين سوف يتملكون بيانات تعلمهم، وإمكان الوصول إلى التقنيات الأنسب لحاجاتهم وقدراتهم التعلمية.
يشير التفاعل الداخلي، وهو جزء لا يتجزّأ من الواقعية الفاعلية، إلى الترابط الداخلي بين جميع عناصر نظام من النظم، ويشدد على أن الفاعلية والمعرفة لا توجدان قبل تفاعلاتها الداخلية، بل تبرزان من تلك التفاعلات. ويصف التفاعل الداخلي العلاقة المعقدة بين الطلاب والمعلمين وبيئات التعلم والسياق الاجتماعي الأوسع التي تساهم جميعا في تشكيل هوية الطلاب وتجاربهم ونتائجهم التعلمية.
تطرح الواقعية الفاعلية، تاليا، أنّ فاعلية التعلم ليست سمة فطرية في الأفراد، بل تنشأ من خلال العلاقات والتفاعلات ضمن نظام. ويؤكّد التشابك، وهو مفهوم أساسي آخر في الواقعية الفاعلية، على فكرة أن الظواهر جميعا شديدة الترابط، ما يطمس الحدود بين الذوات والمواضيع والمراقبين.
سوف تسمح تقنيات الإدماج والتكامل التي توضع في خدمة التفضيلات الفردية بأن يصمم الطلاب تجاربهم التعلمية بأنفسهم، ما يعظم انخراطهم وفاعليتهم. يضاف إلى ذلك، أنه بنفاذ الطلاب إلى التقنيات، يمكنهم أن يختاروا الأدوات التي تدعم أهدافهم التعلمية أفضل دعم، سواء كانت محولا توليديا (4-GPT) كدليل تعلمي شخصي، أو تقنيات ناشئة أخرى تحسن تجربة تعلمهم.
يمكن أن تعزّز مقاربة التعلم الشاملة هذه، بجمعها التعلم المشخص والتفكير المتعدد الفروع وتملك الطلاب بيانات التعلم وتقنياته، تجربة تعليمية أكثر دينامية وتمكينا، فتمهد السبيل لمتعلمي اليوم كي يصبحوا مفكري الغد المؤسسين.
الجدير بالملاحظة أنّ تطبيق هذا البردايم الجديد يتطلب إقرارا بأن التعليم ليس مجرد نقل للمعارف، بل عملية اكتشاف للذات وتمكين لها. وللتكنولوجيا والتعليم أثر بالغ في المستقبلات الممكنة التي يمكن أن يعتنقها المجتمع، ولأنّهما محرّكان أساسيان للتغير المجتمعي، فإنّهما يصوغان الطريقة التي يعيش بها الناس ويعملون ويتفاعلون فيما بينهم.
ويدعو هذا البردايم الجديد إلى اعتناق تعلم متعدد الفروع، وتحطيم الحواجز بين هذه الأخيرة، واستدخال استشراف المستقبليات: القدرة على تخيل مستقبلات بديلة واستكشافها، وتحسين صنع القرار في الحاضر. ويتطلّب التحول إلى عقلية ما بعد إنسانوية التزاما ضروريا بالاعتراف بأن قياسا واحدا لا يناسب الجميع، وأنّ لكل طالب حاجات واهتمامات وقدرات فريدة، هي التي يجب أن تقود رحلتهم التعلمية. وبإدخال استشراف المستقبليات في البردايم التعليمي، نشجع الطلاب على التفكير النقدي في عواقب خياراتهم الممكنة، وعلى تهيئتهم على نحو أفضل لعالم غير مؤكد وسريع التغير.
ويتوقّف تحقيق هذا البردايم التعليمي، في آخر الأمر، على جهد جمعي لإعادة صوغ فهمنا للتعليم وغايته، ما يسمح للطلاب بأن يصبحوا فاعلين نشطين في تعليمهم وينمي قدرتهم على استكشاف المستقبل والمشاركة في صنعه.  

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024