”المطر يكتب سيرته” لمـرزاق بقطـاش تمثل نموذجـا متميّزا..

السّخريـة”.. جوهـر السّـــرد الرّوائــــي..(3)

د. محمد كاديك

تحدثنا في الحلقة الثانية من مقالنا هذا عن عدد من تراتبيات الأنواع الساخرة، ولعلنا فصلنا ـ وفق مقتضيات الحال ـ في رؤية اشليغل، دون أن نرى حاجة في التعرّض إلى النقد الذي خصصه هيغل لنظريات الرومانسيين، فقد وقف منهم موقفا صارما، ولكنه غضّ الطرف عن موقف صديقه الفيلسوف زولغر الذي انتسب إلى الرومانسيين ـ وعلى رأسهم اشليغل - وأضاف إلى المذهب الفكري ما أقنع هيغل.. في كل حال، مواقف هيغل لم تؤثر كثيرا على المسار العام الذي اتخذته الرومانسية في التاريخ، وما زال كثير من النقاد الغربيين يعتبرونها متواصلة بالألق نفسه الذي انبثقت فيه أول مرة.. في الحلقة الثانية، قدمنا كذلك ملخّصا بسيطا لرواية مرزاق بقطاش، “المطر يكتب سيرته”، وأكدنا أننا تخيّرناها للدراسة لأنها لا تتضمن أي مضحك ولا فكاهي، حتى نكون على بينة ـ مع قارئنا ـ فيما يخص مفهوم السخرية..

ولا يفوت قارئ “المطر يكتب سيرته” أن مرزاق بقطاش انسحب كليّا من السّرد، أو بالأحرى، السارد انسحب ليترك الكلمة لبليز في فصلين كاملين مهمّين من فصول الرواية (أورليان وفاليريان)، وهذا إجراء سردي استغله الرومانسيون من أمثال كليمانس برانتانو 1778-1842م (Clemens Brentano) في رواية “Godwi ou la statue de la mère” الصادرة عام 1801، وهي رواية تعلن وفاة مؤلفها قبل الانتهاء من كتابتها، ما يفرض على شخصية “غودوي” مواصلة السّرد، فيروي تفاصيل وفاة برانتانو، ويواصل سرد الأحداث التي يتولّى فيها دور البطولة ، وهذا إجراء يعرف بـ«المواجهة”، علما أن “السخرية” عند اشليغل هي “مواجهة دائمة” (Parabase Permanente) نرى أنها لا تتوقّف عند حدود “الإجراء” الّذي يشتغل عليه النّص الأدبيّ، ولكنّها تمتدّ إلى “الموقف من العالم”.
ولا يفوت القارئ أيضا، أن بقطاش ترك جميع شخصيات الرواية دون ألقاب، واكتفى بأسمائهم (فرحات، محمود، نسيم، بليز، أورليان، فاليريان، لوسيان) ولم يستثن سوى لقب “بورجو” (المعمر الذي يمتلك مئات الهكتارات من الأراضي الفلاحية، وهذا لم يعرف تاريخيا سوى بلقبه)، أو الأسماء الكاملة للفنانين المعروفين من أمثال كلود دبيسي، يوهان سيبستيان باخ، وغيرهما من مشاهير التشكيليين والموسيقيين، بينما ضرب صفحا عن تسمية كثير من شخصيات الرواية (أخت محمود، والدة نسيم، قس كنيسة اسطاوالي، راهبة دير بوزريعة التي طببت فاليريان، السمساران الجزائري والإسباني، والدا بليز وفاليريان، مدير معهد الفنون الجميلة وابنه المغتالان.. إلخ..)..
أما ما لا ينبغي أن يفوت المتلقي، فهو حرص بقطاش على تكرار عدد من المشاهد المفتاحية في المتن الروائي، في مقابل “اسم الفيلا” وسبب إطلاق الاسم عليها، وهو ما ذكره المؤلف مرة واحدة فقط على مدار الرواية.

الإطار العام للسّرد

لا شكّ أن كتابة “السيرة”، مهما تكن السيرة، تقتضي التركيز على المواقف العصيبة، فالناس ـ عادة ـ ينشغلون بالمثير والمخيف، وما يتوسّمون أنه يمنحهم تجربة إضافية في الحياة، وعلى هذا، يمثّل عنوان رواية بقطاش أول ما يثير انتباه المتلقي، فـ«المطر” عنوان الغيث والخير والنماء، و«الكتابة” التي يمارسها تُحدّث عن وعي كامل بدور حيوي في الواقع المعيش، بينما تصنع فكرة “السيرة” - في مقابل “المطر” والكتابة” - وضعا يوحي بأن تركيبة العنوان مثالية/شعرية خالصة، وقد يترسّخ هذا الشّعور لدى المتلقي، مع أوّل مشهد من الرواية يصوّر “فرحات” “المرهق نفسيا، المكدود جسديا”، وهو يتمدّد على كثيب رملي تجتهد الحلازين في تسلقه كلما هطلت أمطار الربيع، كي تكمل دورة الحياة، وتلتحق بها آلاف الحلازين الأخرى لتترك الانطباع بأنها جاءت لتشارك في جنازات الحلازين التي سبقت، ثم تلفظ أنفاسها الأخيرة في هدوء، تماما مثلما هي أمنية فرحات، في مقابل الفتى نسيم الذي يبدي عدم رضاه عن مواقف خال والده؛ ذلك أن الفتى يجابه الموت هو الآخر، ولكن بشكل مختلف، ثم إن الكثيب الرملي ـ بشهادة فرحات - كان مقصدا للسياح الذين طالما “تسلقوه (في الزمن الغابر)، وتعجبوا من الحلازين التي تنتحر فيه”، ليتبين فرحات (في زمن السّرد) أن المسألة إحساسٌ بـ«دنو الموت”، وأنه ـ مثل الحلازين ـ يريد أن يكون شبيها بها في هذه المرحلة المتأخرة من العمر (ثمانون عاما).. “يجب أن يموت في مكان مماثل لهذا الكثيب، لن يُقلق أحدا، ولن يزعجه أيّ إنسان”.
وقد يكون واضحا مما قدّمنا، أن سؤال “المطر يكتب سيرته”، وجودي محض، وأن “الموت” - في مختلف تمثلاته ـ هو المحرك الأساسي لفاعلية السؤال، ما يجعل “سيرة المطر” محاولة لتفكيك إشكالياته الكبرى في مواجهة الحياة بفيلا اشتراها صانع العطور الفرنسي عام 1930م، واستقبل بها فرحات الميكانيكي الناجح، بعد أن أنقذ ابنه من الهلاك على أطراف مدينة البندقية في الحرب العالمية الثانية، ويعيش فرحات قيّما على الفيلا يتلقى راتبا، ولكنه لم يكن مستخدما عاديا، وإنما كان عضوا من العائلة، وعنصرا مهمّا فيها.

تجلّيات “السّخرية” في “المطر يكتب سيرته”

«سخرية الحب”(Ironie de l’Amour) - كما سبق وأوردنا تعريفها - تتجلّى في رواية بقطاش واضحة دون غموض، فهي أصلا «تولد من الإحساس بالتّناهي، والإحساس بحدودها الخاصّة، ومن التّناقض الظّاهر بين هذا الإحساس وفكرة اللاّتناهي التي يتضمّنها الحبّ الحقيقي» كما يقول اشليغل، وهو ما يجسّده فرحات الذي يقع قي حبّ “فاليريان”، مع سابق علمه أنه “حبّ مستحيل”، بحكم أن محبوبته مخطوبة لـ«أورليان” الذي تعرّفت عليه في معهد الموسيقى وأحبته بشغف، وأنها قد تقضي جزعا على وفاته، ثم إن شقيقها “بليز” سجل في يومياته أنه سأل فرحات: «هل تحب فاليريان حقا؟!.. لم يردّ عليّ؛ لأنه وجد السؤال غريبا، هأنذا أمام حالتين شاذتين، فاليريان تقف على حافة الجنون وتستعصي عليها العودة إلى أرض الواقع بعد الذي أصابها، وفرحات ينأى عن دنيانا بدوره؛ لأنه مصاب بجنون الحبّ (...) هل يجنّ الإنسان حقا إذا ما تعلق الأمر بمواجهة حبّ مماثل من طرف واحد؟!» ، وهذا كاف جدا ليوضّح الحال التي يعيشها فرحات، فهو يحتفظ بحبه “اللامتناهي” لفاليريان، بينما يحول إحساسه بـ«التّناهي” (وفاة أورليان واحتمال وفاة فاليريان.. إلخ) دون البوح بالحب الذي يمزّق قلبه، حتى إنه – كما وصفه بليز – يجلس أمام فاليريان في غيبوبتها «وكأنه قبالة قدّيسة من قدّيسات العصر الوسيط. عيناه تتسمران في وجهها كأنما يحاول أن يستشف فيه معالم الحياة» .
ولقد عرف بقطاش كيف يدير إجراءات “سخرية الحب” بإحكام، ويتقن توزيع علاماتها وفق تطوّر الخط السّردي، ومع هذا، نرى أن الروائي جعلها ثانوية مكمّلة لمخطط السّرد، وهي تنسجم مع باقي البنى الساخرة في الرواية، كي تتوصل إلى تفكيك إشكاليات واقع معيش يحيط به الموت من كل جانب.. واقع مأساوي لا تسلم “فيلا فرحات”، في أثنائه، من أعين السماسرة الذين يرغبون في ابتياعها بسعر زهيد؛ لأن العديد منهم «ذهبت بهم الظنون إلى أن الشيخ فرحات استفاد من سياسة الأملاك الشاغرة، وسكن الفيلا بعد استقلال الجزائر عام 1962، وادّعى آخرون أنه لا يمتلك أية وثيقة تثبت أن الفيلا صارت ملكا له بقرار من مالكها الأول (...) وخابت ظنون الجميع عندما علموا أن الشّيخ فرحات يمتلك الوثائق الرسمية فعلا، وازدادت خيبتهم عندما قررت السلطة وضع يدها على المنطقة كلّها، وأن تُسكن فيها مسؤوليها السّياسيين الكبار» .
ويتكرر الموقف نفسه بالرواية – في زمن الاحتلال - حين يحلّ سمسار إسباني، يدّعي أنه سمع أن “الفيلا” معروضة للبيع، لكن فرحات وبليز يردّانه عن أطماعه، غير أن الأحداث تتصاعد مع هذا السمسار الذي يمارس ضغطا رهيبا يبلغ به درجة إلقاء القبض على فرحات بتهمة القتل، ولم تختلف ظنون سكان اسطاوالي الفرنسيين في فرحات فقد «تجمهروا فوق ربوة وراحوا يجعجعون دون توقف. ما إن وقعت أبصارهم على فرحات حتى انطلقت الوشوشات والتّساؤلات والإشارات الغامضة»، فهؤلاء لم يكونوا يعرفون مكانة فرحات بين أفراد عائلة صاحب الفيلا الفرنسي، تماما مثلما لم يكونوا يعلمون بأنه تحصل على ميدالية الشّجاعة بالجبهة الإيطالية، فقد حرصوا خلال الحرب على البقاء «بضيعاتهم يراقبون تحركات الفلاحين البؤساء، يسومونهم الخسف والهوان» .    
ولا تختلف صورة السمسار في زمن الاستقلال عن نظيره في زمن الاستعمار، فهما معا جشعان ينتهزان الفرص للإثراء على حساب الناس، وهما معا يمتلكان نفوذا قويا في السلطة، وكلاهما يضغطان بشتى الوسائل لإخراج فرحات من الفيلا، وفي هذا التناظر بين زمن الاستقلال وزمن الاستعمار، نلمح بقطاش وهو يأخذ المسافة التي تكفل له بناء العمود الساخر دون تدخل، ذلك أن “السّخرية” تكون مفترضة (في حالة خمول) بالقسم الأول، ثم تنتقل في مرحلة تالية، بالقسم الثاني، إلى “التّحقق” في اللحظة التي يتمكن فيها الملاحظ/المتلقي من تكوين صورة مجملة عن “قصديّة” معيّنة للسّرد، ما يعني أن بقطاش “يُخفي” مقصده من الرواية، ولكنّه يتذرّع بكل ما يتاح له كي يحيل إلى حقيقته أمام القارئ، و«السخرية” - بطبعيتها - تقدّم لـ«الضّحيّة”/”القارئ” كل الأدوات التي تتيح اكتشاف ما يخفي المنطوق؛ لهذا قدم بقطاش شخصياته الرئيسية دون ألقاب كي يوحي للقارئ أن أحداث الرواية هي نفسها في جميع أنحاء القطر، وألغى أسماء جميع الشخصيات الثانوية، كي يمعن في التعميم، ثم استبق لحظة انتقال “السخرية” من “الخمول” إلى التحقق”، فافتتح القسم الثاني من الرواية بذكر اسم “الفيلا” مرة واحدة فقط.. “المطر”، وهو الاسم الذي أطلقته والدة بليز وفاليريان على الفيلا عندما وقعت عيناها عليها أول مرة عام 1930 (...) ومنذ ذلك الحين، وهذا الاسم ملازم لهذه الفيلا ، وهذا ما لم يعد إليه بقطاش مطلقا كما فعل مع باقي الأحداث، وكأنه حرص على “إخفاء” الاسم بين الأحداث المتصاعدة، كي لا يتبين القارئ حقيقة العمود الساخر إلا عندما تجتمع لديه كل مكوناته.
بناء على ما سبق، يتضّح أن “سيرة المطر” هي سيرة الوطن بكل ما ابتلي به من نكسات متعاقبة، وما كابد من الصبر من أجل البقاء شامخا لا تمسه أيادي “السّماسرة”، ويتّضح أيضا أن عمود الرواية يتأسس على “سخرية القدر” (Ironie du Sort) التي يُلقي فرحات بإرهاصاتها الأولى قائلا: «قمنا بثورة عملاقة في هذا البلد، وأبينا إلا أن نصير أقزاما بعدها، أجل، ألقينا بأنفسنا في خندق عميق» ، فالصورة في زمن الإرهاب لم تختلف عن نظيرتها في زمن الاستعمار، وإن كانت الرؤية الوجودية مختلفة بين جيل محمود الذي يحمل همّ الحياة وهو يفرّ من الإرهابيين القتلة، وجيل فرحات الذي يحمل همّ الموت، وهو يواصل المقاومة لأجل التخلص من السّمسار ، بل إنه يقضي وهو يعزف “توشية الغريب” في هدوء دون أن يُقلق أحدا، أو يزعجه أي إنسان.

خاتمة
لعلنا، في هذه العجالة، لم نف رواية “المطر يكتب سيرته” حقها من التحليل، ولم نعرض كافة البنى الساخرة التي اعتمدها بقطاش في تشكيل عمودها السّاخر، ومع هذا، نقدّر أننا قدّمنا ما يوضح طبيعة التشكيل الكرنفالي في الرواية؛ فـ«السخرية” - كما يقول يانكيليفيتش - لا تبحث عمّن يصدّقها، وإنّما تبحث عمّن يفهمها، فهي تريد أن نصدّق ما تفكّر فيه لا ما تقوله، وهي ترتّب للفهم ما يصل به إلى ما تدسّه بين العبارات، أو ما توحي به، وعودا على بدء، نخلص إلى أن رواية “المطر”، وإن كانت تراجيدية خالصة، ولم تراهن مطلقا على السخرية اللفظية، إلا أنها اشتغلت بوعي على طبيعتها الأجناسية التي تفرض الحسّ السّاخر، وقدّمت صورة حقيقية عن طبيعة الكتابة الروائية، وأسلوب التعامل مع الأنواع السّاخرة بما هي جوهر السّرد الرّوائي.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19558

العدد 19558

السبت 31 أوث 2024
العدد 19557

العدد 19557

الخميس 29 أوث 2024
العدد 19556

العدد 19556

الأربعاء 28 أوث 2024
العدد 19555

العدد 19555

الثلاثاء 27 أوث 2024