يُعدّ الأمن حاجة أساسية للمجتمع الإنساني، ومؤشرا على الاستقرار والازدهار والتقدّم، حيث يشكّل الركيزة الأساسية لبناء الأوطان وعاملا مهما في تقدمها ورقيها لاسيما مع التطورات المتسارعة للأحداث وتزايد حجم تأثير التحديات الحديثة التي تفرض أخطارا جساما ومتغيرات لها آثارمختلفة على حياةالفرد والمجتمع عامة.
إن التعامل مع طبيعة التحديات المتعدّدة (الداخلية والخارجية) المؤثرة والحدّ من تأثيرها على الأمن الوطني العام في ضوء البيئة الخارجية، يكتسي أهمية بالغة في هذه المرحلة التي تشهد تحولات جيواستراتيجية وأمنية عالمية وإقليمية، ذلك أن مثل هذه التحوّلات تتطلّب فهما لطبيعة مخاطرها ومن ثمّة تحديد الوسائل الكفيلة لمعالجتها أو الحدّ من تأثيراتها، انطلاقا من حيث إن الأمن والسلم حقّ من الحقوق الاساسية التي أكدها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق ذات الصلة وقبل ذلك فهي من القيم العالمية والأهداف المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة.
الجزائر كفاعل ضمن هذا الإطار الأممي، ووفاء القيم هذه المنظمة ومكانتها كمنارة ومصب تطلعات شعوب المعمورة في السلم والأمن، تضع هذه المفاهيم ضمن المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية مؤكدة ذلك من خلال دستور 2020، الذي جاء بصريح العبارة في ديباجته أن الجزائر «متمسّكة بالسلم وحقوق الانسان والتنمية»، وهي المفاهيم التي تعكس الرصيد الوطني القائم على حسن الجوار واحترام الآخر، باعتبارها مبادئ متجذرة في القيم الحضارية والثقافية والدينية للجزائر وسعيها الدائم للعيش في سلام وتضامن ووسطية ورفض كل أشكال التطرّف والكراهية. كما جاء كذلك في ديباجة دستور 2020 «أن الشعب عازم على جعل الجزائر في منأى عن الفتنة والعنف وعن كل تطرّف وعن خطابات الكراهية وكل أشكال التمييز من خلال ترسيخ القيم الروحية والحضارية القائمة على الحوار والمصالحة والاخوة»، وذلك تعزيزا للقيم الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والإنسانية التي يرتبط بها الشعب الجزائري بشكل أساسي والتي تصبو إلى غرس ثقافة قيم التعايش ونبذ الفرقة والانقسام.
وانطلاقا من هذا الاطار القانوني الأسمى الحامي لثوابت الهوية الوطنية ولما له من روح الاستلهام ومنبع لشحذ الهمم لمواجهة الصعاب ورفع تحديات الحاضر ومواكبة رهاناتها، فإن الأمر بات يشكّل واجبا وطنيا وحقا مشروعا لكل الجزائريات والجزائريين لصون أمن الوطن وسيادته. بل أضحت الضرورة التي ينبغي التركيز عليها للوقوف أمام حجم التحديات والرهانات وما تفرضه من مسؤوليات وواجبات من أجل السعي لتحقيق الأمن كشرط ضروري ليتمكّن كل فرد من أفراد المجتمع أن يعيش بكرامة ويتمتع بالأمن والتنمية المستدامة الشاملة.
إننا اليوم فعلا وفي هذه المرحلة الراهنة، بحاجة إلى بذل مجهود بصدق وإخلاص لخدمة الوطن والسعي لتبليغ هذه الرسالة، أي العيش في أمن وسلام وأن نتمتّع بالقدرة على تسخير طاقاتنا من خلال تظافر جهودنا كأفراد ومواطنين للمساهمة في توحيد الصف وتعزيز روابط الوحدة الوطنية وتغليب المصلحة العامة للتصدي لحملات العداء المختلفة التي تستهدف أمننا وأمن مؤسساتنا واستقرارها وفي نفس الوقت العمل معاً بمظاهر التضامن والتلاحم والتعاون والتكافل؛ مثلما دأب عليه خلال أوقات الشدائد والبلاء بهدف صون سيادتنا وتحقيق تطلعاتنا.
المحافظة على الأمن والسلم واجب وطني
إن التحديات الأمنية وما تفرزه من مخاطر بمختلف أبعادها التي تحيط بنا على غرار الهجمات الالكترونية ومؤامرات زعزعة الاستقرار وحملات التضليل والتهديدات الأمنية وتداعياتها، لاسيما منها ما تناولها الخبراء في فعاليات الملتقى: «حول التهديدات الجديدة في الساحل الأفريقي وانعكاساتها على الأمن الوطني للجزائر، «فإن الانخراط في واجب ضمان الأمن الوطني ليس فقط ما يخوله الدستور
والقانون لبعض المؤسسات في الدولة، بل هو أيضا ما يقتضيه الضمير الحي لكل فرد يتنمى إلى هذا الوطن، وبالتالي فهي مسؤولية كل الجزائريين، بالنظر لما تشكّله هذه المخاطر كتهديد حقيقي لعناصر ومرتكزات أمن الوطن واستقراره، حيث يتّضح جليا التحدي الذى يتطلّب الايمان والعمل من كل فرد من أبناء هذا الوطن بالمشاركة والمساهمة الصادقة كل حسب موقعه وإمكانياته المتاحة على تجسيد واجب ضمان والحفاظ على أمننا واستقرارنا، بل أصبح كذلك واجب كل فرد وكل مؤسسة العمل والبحث عن سبل المحافظة على السلم بتغليب وترسيخ القيم الانسانية، كالتعاون والتضامن، فضلا عن تكريس وتجسيد أهم المبادئ والقيم الوطنية والتجارب والدروس القيمة وقيم المواطنة الصالحة واستحضارها في وجداننا وحسنا المدني كقيم راسخة في وعي وضمير المجتمع الجزائري، ذلك لما لها من أثر بالغ في رفع مستوى الولاء والانتماء للوطن والولاء للدولة ومؤسساتها الشرعية، وكمنبع للأمن والسلام في مسيرة تحقيق المشروع الوطني للتغيير وبناء الجزائر الجديدة على أسس العدالة الاجتماعية، المساواة الشاملة، سيادة الدولة وهيبتها.
الجبهة الداخلية.. مناعة وقوة اجتماعية
إن الجزائر دولة ومجتمعا ونظاما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا هي دوما مطمع الأجانب في كل الأزمان والظروف نظرا لهاجس الخوف من قوتها وهيبتها وقدرتها على الاشعاع والتأثير في المحيط الإقليمي والعالمي ولموقعها الاستراتيجي ووفرة ثرواتها الاقتصادية المتعدّدة والمتنوعة وحيوية سكانها، فضلا عن مواقفها ومبادئها تجاه القضايا العادلة. هذه المكانة الطبيعية لبلادنا تجعلها دائما عرضة لمخططات وحملات بل وحتى لهجمات غايتها زرع الفتنة بين ابناء الشعب الواحد وتحريك النعرات وبثّ سموم الفتن، وما شبه ذلك: فمن واجبنا كجزائريين التصدي لهذه المخططات بالفكر والعقل، وعدم الانسياق وراء ذلك، إذ تتدخل أطراف متستّرة الغايات والأهداف ولما لها من تأثيرات سلبية على الجبهة الداخلية يمكنها أن تساعد في ضرب استقرار المجتمع واستهداف الشباب، وعليه فإن مجابهة هذه التهديدات وتداعياتها وصدّها لن يكون فعّالا إلا بتعزيز صمود المجتمع وجاهزيته داخليا، من خلال التناغم والانسجام الوطني وتماسك جبهته الداخلية ورسوخ وحدته الوطنية ليتمكن من دعم القوات المسلحة، والأجهزة الأمنية، والوقوف معا صفاً واحداً، وهو ما يقتضى أن ما تقوم به قواتنا المسلحة من جهود كبيرة في حفظ أمن الوطن واستقراره، يحتاج إلى تعزيزه من قبل الشعب، ووسائل الإعلام، ومؤسسات المجتمع المدني، وأن الجندي الذى يسهر على أمن الوطن والمواطن، يحتاج إلى دعم معنوي لاستمراره في عمله البطولي إلى جانب آخر وهو ضرورة الاستمرار بالإصلاح الاجتماعي والاقلاع الاقتصادي، وتعزيز مبدأ العدالة بين أبناء المجتمع، ذلك أن الجبهة الداخلية المتينة، ووعي وشعور المواطن بالمسؤولية، يسهمان إسهاما كبيرا في تحصين الجبهة الداخلية ضد الأحداث المحدقة بأمننا واستقرارنا.
وفي مثل هذه الظروف لا يجوز أن يبقى تحصين الجبهة الداخلية شعارا نرفعه وفقط. فالوضع الداخلي في حاجة ماسة لعمل جاد ومستدام على كافة المستويات. واعتبار الجميع شركاء للدولة، رافضين أي مساومة مهما كانت على أمن الجزائر وطنا ومواطنا وجعل مصلحة الوطن فوق كل اعتبار والعمل معا في مسعى تضامني من أجل بناء جزائر حديثة يفخر كل واحد وواحدة منا بالانتماء إليها.
إن الإيمان بهذا المسعى يُعدّ فخرا لمبادئ ومواقف بلادنا الرامية للترويج لثقافة السلام والعمل به أيضا كنهج، كفيل بإقامة أدوات لتعزيز عوامل الاستقرار المؤسساتي والأمن والسلام الاجتماعي والحفاظ على هيبة الدولة وكرامة المجتمع، وأن تحقيق ذلك سيكون شرفا للجميع والأثر الأفضل لتحقيق المصالح العامة الحيوية والمصلحة العليا للوطن في آن واحد، بل إن ذلك سيبقى راسخا كإحدى مقومات المشروع الوطني المنشود ضمن الأهداف والمحاور الهامة لبناء الجزائر الجديدة التي تمثل طموحا حضاريا للشعب الجزائري. وفى الأخير يمكن القول بأن المقومات الأساسية للمشروع الوطني تتجسّد أكثر وبفاعلية في تعزيز منظومة القيم والمبادئ التي تساعد في تأسيس النظام الوطني الجديد الذى يساهم في تحقيق ذلك المشروع الوطني الذى نأمل من خلاله تحقيق التطلّعات وبناء مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.