استشراف

الإثولوجي والسياسة

وليد عبد الحي

منذ الثلث الأخير من القرن الثامن عشر وحتى الآن تطورت دراسات «الإثولوجي» (Ethology) أو علم سلوك الحيوان، لكن إسهامات «تينبيرغن» الهولندي في ثلاثينيات القرن الماضي والنقلة النوعية التي عرفها الميدان مع دراسات لورينز وكارل فريتش وأردريه وغيرهم، دفعت هذا الحقل العلمي المتفرع عن البيولوجي إلى الأمام من حيث الاكتشافات ومن حيث توظيفه في عالم السياسة، وقد تتبعت هذه المسألة منذ سنين طويلة.
من بين الموضوعات التي ربطت الباحثين السياسيين بهذا الفرع العلمي موضوعات مثل «الدافع المكاني» من خلال مقارنة الارتباط بالمكان أو الجُحر للحيوان والارتباط بالوطن للإنسان، أو الغريزة العدوانية، أو المقارنة بين المجتمع البشري والسرب او القطيع... إلخ.
لقد لاحظ لورينز أن إحدى الأسماك التي ربطها في إحدى زوايا البركة وترك الأسماك الأخرى حرة الحركة دافعت عن مكانها وحاولت منع الأسماك الاخرى من التواجد في هذه الزاوية، وهنا تساءل هل هناك رباط ما بين الكائن الحي (عاقلا أو غير عاقل) وبين المكان، ورأى أن ألفة المكان (familiarity) قد تكون أكثر أهمية من الحاجة العادية للوطن (المأوى)، وإلا ما الذي يجعل الفرد يموت من أجل وطنه حتى لو عرض عليه بدائل أفضل من هذا الوطن من حيث الحاجات المادية.
بعد آخر، هل يمكن تعزيز النزعة العدوانية في مجتمع ما، وهل يمكن تعزيز النزعة العدوانية في الحيوان، كيف ومتى وما هي شروط نجاح تعزيز النزعة وهل تكون النزعة انتقائية أم تستطرق لميادين أخرى؟ هل يمكن الاستفادة من نتائج البحوث الإثولوجية التي دلت على ان الحيوان المهاجر أكثر ميلا للعنف لتفسير أن المجتمعات الاستيطانية (إسرائيل وأمريكا وجنوب افريقيا) هي من بين الدول الأعنف في ممارستها الخارجية؟
من جانب آخر، ركز علماء الإثولوجي على نقطة تستحق التأمل وهي أن السمة العامة (نؤكد على السمة العامة) للإنسان، هي أنه الحيوان الوحيد الذي يقتل نوعه (الإنسان الآخر) ويقتل الأنواع الأخرى (بقية المملكة الحيوانية)، بينما أغلب الحيوانات تقتل النوع الآخر ولا تقتل نفس النوع (القط يقتل فأرا لكنه لا يقتل قطا)، لكن الملفت أن التنافس في عالم الحيوان الذي قد يصل للعراك يظهر ويزداد في فترات التزاوج؛ ذلك أن التزاوج وانتظار المولود أو رعاية البيض حتى يفقس، يزيد من وتيرة التنافس والتنازع داخل نفس النوع الحيواني، وهو ما يعني أن «الاجتماع» يعزز التصارع الداخلي أو يكون هو نفسه يشكل بيئة لإفراز نزاع من النوع الآخر... وهنا يتم الربط بين الأسرة والقبيلة والقومية والدين والمذهب واللغة وبين التنازع، ويضعف النزوع للصراع مع غيابهما، كما في عالم الحيوان (فما ان تنتهي مرحلة التزاوج حتى ينفك الرباط في عالم الحيوان... فلا يتمسك حيوان بوالده وعمه وخاله وابن الخال... إلخ)، بينما تتحول السمات المشتركة للمجموعة البشرية إلى «وطن معنوي» يقاتل الفرد من أجله...
إن الفائدة من الإثولوجي هي فائدة منهجية ولتنبيه الباحث السياسي للبعد الغرائزي، كما ان إجراء التجارب على الحيوان أوفر إمكانية من إجرائها على الإنسان، لذلك تعتني الدراسات الإثولوجية السياسية حاليا بكيفية تطوير وتوظيف الجانب الغرائزي والحيواني في توجيه السلوك للأفراد والجماعات أو التلاعب به، وفي مقال قادم سنتحدث عن المختبرات العلمية التي توجد في بعض الجامعات او المراكز لدراسة السلوك الحيواني «لأغراض سياسية»...

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024