دور التراث الشعبيّ في الإبداع

«إنّ الإبـداع فــيـه واحــد في المائـــة فــقــط من الإلـهـام، وتـسع وتـــسـعـون بـالمــئـة عــرق مُتَـــصَـبِّــبٌ»

عبد الحميد بورايو أستاذ التعليم العالي

(قول منسوب للعالم إِدِيسُون)



للتراث الشعبيّ دور ديناميّ في الإبداعات الفنّية، وذلك من خلال حضور الذاكرة والمخيِّلة؛ فهما المحرّك الأساسيّ للعمليّة الفنّيّة، إذ أنّ الصورة الذهنيّة التي تتشكّل في ذهن الفنّان ويقوم بتجسيدها الماديّ من خلال الورقة في الكتابة الأدبيّة أو اللوحة في الآثار التشكيليّة أو الصورة البصرية في السينيما أو الحركة الجسديّة في المسرح.
 يعتمد الفنّان في لحظة الإبداع على تجربته الخاصة في الحياة مسنودة بالإرادة وبالدافع؛ يرى «فيشر» «أنّ العمل بالنسبة للفنّان عمليّة عقليّة واعية وليس مجرّد انفعال أو إلهام [...] ولابدّ للفنّان حتّى يكون فنّانا أن يملك التجربة ويتحكّم فيها ويحوّلها إلى ذكرى، ثمّ يحوّل الذكرى إلى تعبير أو يحوّل المادّة إلى شكل». يمكن القول إذن أنّ فاعليّة الصورة الذهنيّة عند الفنّان قبل أن تتجسّد في عمل ملموس تمرّ بتجربة تعتمد أساسا على الخبرة والخيال. تكون هذه التجربة عفوية في البداية، ثم تتحوّل إلى تصوّر يقصد الفنّانُ إلى بنائه بصفة واعية، ويتجسّد هذا البناء في أثر فنّيّ ما. وبالتالي فإنّ التجربة الخياليّة المرفوقة بفعل التذكّر هي التي تحقّق الصور الذهنيّة المركّبة، وهي التي تمثّل العمليّة السابقة على مرحلة التنفيذ الأدائي، والتي تكون مدعومة عادة بالْمُدْرَكَات الحسّيّة والذاكرة النشطة والخيال الخصب. يحتاج الفنّان في هذه الحالة إلى التركيز ووضع السَّنَن المناسب لصور الْمُدْرَكَات من أجل تخزينها في الذاكرة واستخدام ما تُوَفِّرُهُ من معطيات عند الأداء. هكذا يكون مدخلنا إذن للحديث عن دور التراث عبر هذه المحاولة الوصفية للمرحلة السابقة على الإنتاج الفنّي.
يخصُّ التراث عامّة والتراث الشعبيّ خاصّة كلا من المخيّلة والذاكرة اللتين أشرنا إليهما أعلاه. فالمرء منذ طفولته يتعامل مع موادّ التراث بأشكالها المتعدّدة فهو يتلقّى رموزا منقوشة أو مكتوبة أو مجسّمة أو منطوقة، وتكون عادة في هيئة نماذج: مُعلّقات على الجدران ذات أشكال متنوّعة، تماثيل، نقوش، أقنعة، أدوات عمل، ألوان، مناظر، أشياء حضارية كالألبسة والمآكل والمساكن، مسموعات لغوية كالأمثال والحكايات والألغاز والتعابير المجازيّة، معتقدات وتصورات ميتافيزيقيّة ورؤى للكون وللمحيط وللعلاقات بالأشياء وبالطبيعة وبالبشر، سلوكات نمطيّة صادرة عمّن يعيش بينهم الخ.. يقوم بتحويلها إلى منظومة تأويليّة قابلة للإدراك قبل تنظيمها وتخزينها في الذاكرة، ثمّ استعمالها في العمل الفنّي. نقصد هنا بالمنظومة التأويليّة ما ينتج عن عمليّة الإدراك الجماليّ المعتمد على البحث عن قيمة الشكل المدرَك واختياره، وهو إدراك كلّيّ غير قابل للاختزال والتجزيئ. تتميّزُ الأشكالُ المُدْرَكَة بالبساطة أو الحدّ الأدنى من التعقيد، فيقوم الفنّان بتجميعها وتنظيمها والربط فيما بين أجزائها.

اشتغال الذاكرة:

يقول «كَانْتْ Kant»: «إنّ الذاكرة لا تَخْلِقُ موضوعاتِها ولكنّها تُنَظِّمُهَا وتربط بينها وتُدْخِلُهَا في نسق ملتحِم من العلاقات [...] فالذاكرة تنشئ علاقة التجارب بعضها ببعض وتتيح لنا بهذا الترابط أن نستحوذ على التجربة الحاضرة في سياق ما نتذكر من تجارب مرّ بها الشعور». وإذا كان «كَانْتْ Kant» هنا يصف عمل الذاكرة بصفة عامة؛ يمكن القول أنّ علاقة الذاكرة بالتراث، تعود لمرحلة التنشئة الاجتماعية، والمحيط الذي ينشأ فيه الفنّان. نُذكِّر هنا بمسلّمة بديهيّة تتمثّل أنّنا لكي نتذكّر شيئا يجب أن نكون قد عرفناه في وقت ما من قبل. يتدخّل الزمن في عمليّة التذكّر أي استرجاع الماضي في الزمن الحاضر، وهو ما يفعله الفنّان لما يُوَظِّفُ عناصر التراث الذي عايشه أثناء تنشئته الاجتماعيّة، أو من خلال ما تلقّاه من تعليم، وكذلك من خلال قراءاته ومطالعاته، وزيارته للمعارض والمتاحف، فيتعامل معه في إبداعاته. إنّه يخزّن منهماهو متقارب مكانيا من معاني، تكون مترابطة فيما بينها، ثم يستدعيها لمّا تحين لحظة الإبداع.
وإذا ما وضعنا في اعتبارنا أصناف أنظمة الذاكرة كما وضعها بعض الدارسين؛ والمتمثّلة في:

-  1) نظام الذاكرة الحسّيّة؛
- 2) نظام الذاكرة القصيرة الأجل؛
- 3) نظام الذاكرة الطويلة الأجل؛

فإنّ ذاكرة الفنّان في علاقتها بالتراث تستند لهذا النمط الأخير من الأنظمة، أي نظام الذاكرة الطويلة الأجل. فبتكرار التعايش مع موادّ التراث في محيطه وفي حياته اليوميّة وفي المناسبات الاجتماعيّة التي تتردّد فيها نفس الأفعال ونفس الأقوال والأداءات الفنّيّة تترسّخ هذه الممارسات في وعيه، وخاصّة تلك التي قد يشارك في أدائها ضمن الجماعة التي ينتمي لها. يقوم الفنّان بعدئذ باستدعاء مخزون ذاكرته الملائم للعمل الذي هو بصدد إنتاجه، ويدمجه في عناصر عمله بحيث يحمّله رؤية جديدة تتعلّق بالحاضر، ويحرص على ترابط هذه العناصر الْمُسْتَعَادَة بالعناصر الجديدة الْمُعَبِّرَة عن موقفه والْمُجَسِّدَة للشكل الفنّي الذي ينتقيه ويقوم بإنشائه، فتظهر مُوَحَّدَة في السياق والدلالة. ولابد هنا من التنبيه إلى أن محتويات الذاكرة طويلة المدى التي تُزَوِّدُ الفنان بما يحتاجه من موادّ قابلة للاندماج في عمله الفني كثيرا ما تكون لا واعية، قد يُدركها متلقّي العمل، خاصّة إذا كان ناقدا متمرّسا، ومتمكّنا من أدوات القراءة السيكولوجيّة، لأنه سيجد نفسه أمام «الماضي السيكولوجي» للفنّان. إلى جانب ذلك قد تكون عمليّة الاسترجاع إراديّة ينظّمها الوعي وتخضع للتأويل والتنسيق مستجيبة لمقاصد الفنّان ولما يبثّه من رسائل عبر عمله الفنّي.

اشتغال الْمُخَيِّلَة
تقوم المخيّلة بعمليّة تركيب لصور لا وجود لها في الواقع، لتحقيق ذلك تستعين بالذاكرة التي توفّر لها صورا ذهنية لأشياء واقعيّة كان قد عاشها الفنّان أو أدركها أو تعلّمها، ومن بين هذه الصور طبعا تلك المتعلقة بالموروث، وهو موروث كان في صورة أشكال واقعيّة معيوشة ومتداولة، لكنه كثيرا ما يكون مبنيّا على التخييل. فرواية الحكايات مثلا من طرف الرواة الحاذقين تمثل واقعة عاشها الفنّان لكنها تقدم مادّة ذات طبيعة تَخْيِيلِيَّه، يمكنها أن تندرج في نسيج العمل الذي ينشئه الفنّان (رواية أو قصيدة أو مسرحية الخ..)، فتساعده على إيجاد البدائل عند التصوير، وتتيح له حرّية أكثر في تركيب العمل الفنّي انطلاقا من المخيّلة في اتجاه التجربة الواقعيّة. فالخيال حركيّة ديناميّة للذهن، إراديّة ومرنة، تهدف إلى تشكيل الصور داخل الذهن والتصرّف فيها بحيث تصبح تنظيمات وتركيبات جديدة عند تجسيدها في نصّ إبداعيّ أو أداء فنّيّ. في لحظة التشكيل يتمّ استدعاء الموروثات والتصرّف فيها بحيث تتيح التشكيل التصويري الذي يتلقاه القارئ أو المشاهد الحامل لنفس الموروث فيؤوّلها بشيء كثير من اليسر والألفة والارتياح، لأنها تمثل جزءا من مخزون ذاكرته. يكون هناك تماثل لدى هذا المتلقّي بين التجربة المتلقّاة، والمعاني القديمة المخزّنة في الذاكرة فتستثير مشاعره التي تَرَبَّى عليها، ويحصل امتزاج للخبرة الموروثة بالخبرة الراهنة بالنسبة للعمل الفنّي ومتلقّيه. يقول جون ديوي بهذا الصدد: «إنّ التوافق الشعوري بين الجديد والقديم هو الخيال بعينه». نكون حينئذ أمام عمليّة تخييليّة تبدأ في ذهن الفنّان لتستمرّ في تجربة التخيّل التأويلي عند المتلقّي.
يميّز الدارسون عادة بين نوعين من الخيال؛ الخيال الاسترجاعي، والخيال الإبداعي. هناك من يسمّي النوع الأول بالخيال النسخيّ أو الذاكرة الْمُتَخَيِّلَة، فيشكّل الفنّان صوره انطلاقا من الأحاسيس التي تستقبلها حواسّه الخمسة، وتكون هذه الصور موجودة في وضعية فوضوية لا يحكمها أيّ قانون. يتدخّل حينئذ النوع الثاني (الخيال الإبداعي) من أجل تنظيمها وإخضاعها لقواعد النوع الفني أو الأدبي الذي يختاره للتعبير. تتمّ حينذاك عمليّة تركيب الصور والربط فيما بينها وبناء تركيبات جديدة غير موجودة في الواقع الخارجي، لكنها مستوحاة من هو محاكية له.
تلك إذن هي طبيعة العلاقة ما بين التراث الشعبي وحركيّة الإبداع الفني عموما والإبداع الأدبي على وجه الخصوص. ويمكن ملاحظتُها ورصدُها في الأعمال الفنية والأدبية، وتَتَبُّعُ صيرورتِها وتحوّلاتِها في هذه الأعمال، وهو موضوع الدراسات الثقافيّة والمقارنة والمتعلقة بنظريّة التناصّ (بالنسبة للأدب). بقي أن نشير في الأخير إلى أنّ استخدام الموروث في العمل الفنّي يخضع لخيارات لها علاقة كبيرة بموقف الكاتب ورؤيته للكون وللعلاقات البشريّة، وهو ما يتّضح جليّا في كثير من النماذج الإبداعيّة.
نقلا عن: حسن أحمد عيسى، الإبداع في العلم والفنّ، عالم المعرفة، الكويت، 1979، ص23.
أرنست فيشر، ضرورة الفنّ، ترجمة أسعد حليم، الهيئة المصرية العامة، 1971، ص10
عاطف جودة نصر، الخيال: مفهوماته ووظائفه، الهيئة المصرية
جون ديوي، الفنّ خبرة، ترجمة إبراهيم زكريا، دار النهضة العربيّة، القاهرة، 1963، ص 452.
عن مجلة «فواصل»

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024